مجلة الرسالة/العدد 109/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 109/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935


قواعد التحديث

من فنون مصطلح الحديث

نشره (مكتب النشر العربي بدمشق)

للأستاذ الأمير شكيب أرسلان

اطلعت في مجلة (الرسالة) المصرية على كلام للأخ الأستاذ العلامة محمد بك كرد علي ينتقد فيه كتاب (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث) للمرحوم العلامة الأستاذ الشيخ جمال القاسمي بأنه كتاب قد جمع جمعاً ولم يأت صاحبه فيه إلا برأي واحد وهو ترجيح قول الجلال الدواني على قول الشهاب الخفاجي في عدم التسامح بالأحاديث الضعيفة ولو كانت في مقام الترغيب في الفضائل. وقال: إن طريقة التأليف في عهد الارتقاء العلمي هي أن يأتي كلام المؤلف أكثر من شواهده، وأنه لما ضعفت ملكة التأليف أصبحت الكتب عبارة عن نسخ أقوال من سلف، وربما كان الشيخ جمال القاسمي آخر من جرى على هذهالطريقة وهي بسط أراء غيره؟ وأنه قد حدثت في التأليف طريقة جديدة اليوم وهي أن المؤلف في فن يقتصر على لباب ما قرأ فيه، ويدعم أقواله بشواهد من كتب القدماء أو المحدثين بأسلوب سهل سائغ خال من الخطابيات والسجع؟

فالأستاذ كرد علي ينتقد هذا التأليف رأساً من جهة أنه ليس على طريقة التأليف العصرية التي هي بزعمه إلا اكتفاء بالإشارة إلى ما كتبه القدماء أو التلخيص لأقوالهم بدون التزام النقل إلا ما جاء في سبيل التأييد والدعم. ثم أنه لم يكتف بنقد الكتاب نفسه بل أنتقد ناشره بأنه قدم له أربع مقدمات، ثلاثة لبعض المعاصرين ورابعة للمؤلف، وأن هذه المقدمات استغرقت أكثر من عشرين صفحة وما خرج الكلام في بعضها عن الدعاية والتمجيد؟ وكأن الأستاذ كرد علي يريد انتقاد أخيه هذا في المقدمة التي من قلمي والتي اذكر فيها ما أعرفه عن الشيخ جمال القاسمي رحمه الله. وبعبارة أخرى قد ثقل على أخينا الأستاذ ما صدرنا به كتاب (قواعد التحديث) من مناقب مؤلفه، ولقد كنت أتمنى ألا يكون الأستاذ كرد علي جعل من هذا موضعاً لنقده. وأنا أتمنى الآن أن أكون أسأت فهم كلامه. فأما من جهة مؤلف هذ الكتاب الشيخ جمال القاسمي فأنه من مفاخر الشام بالاتفاق، وممن سار ذكر فضائلهم في الآفاق، وليس محمد بك كرد علي بالذي يجهل ذلك أو يقدر أن يماري فيه، وأني لجد مستغرب منه ضيق صدره بثنائي على رجل لا يتمارى أثنين في دمشق الشام في كونه من أفذاذ هذا العصر ومن العلماء الذين تحتج بمثلهم دمشق في كل مقام مباهاة

فأنا لم أكتب عن الشيخ جمال القاسمي إلا ما أعلمه وأعتقده، وإذا كان أخونا كرد علي يسمي ذلك (تمجيداً) فأن التمجيد في محله لا يكون موضع نقد، فأن لم يمجد الإنسان مثل الشيخ جمال القاسمي في علمه وإحاطته، وقوة حجته، ودماثة خلقه، ورقة طبعه؛ وسائر ما أمتاز به من خلال الخير الكثيرة، فيكون هو المقصر، وهو الذي يستحق النقد. ما كنت أحب أن يغمز الأخ كرد علي بي في مسألة كهذه، ولا أعلم لماذا فعل ذلك؟ وأما من جهة التأليف نفسه فأن الأستاذ الأكبر السيد رشيد رضا قد أعطاه حقه في إحدى المقدمات الأربع التي أشار إليها حضرة الأخ، وقد ذكر كل ما يلزم من بيان مزايا الكتاب وقال أنه لا يعرف كتاباً مثله في موضوعه وسيلة ومقصداً ومبدأ وغاية، ونظن أن السيد رشيد رضا هو من يضع الهناء موضع النقب، ولا يكون مخالفاً للواقع إذا قلت أنني أنا والأخ كرد علي لا نقدر أن نتكلم في علم الحديث إذا كان السيد رشيد رضا قد تلقف فيه كرة البحث

وبعد هذا فلست أرى ما يراه الأخ من أن القاسمي جمع جمعاً، وان الجمع في التأليف هو خطة عهد التأخر، بل قد وجد الجمع في كل من عهدي التقدم والتأخر. وفي أوربا اليوم كتب كثيرة لا يزيد فيها أصحابها على الجمع، وهم يتركون الحكم لأرباب النظر، وقد يوجد الإنسان في ظروف زمانية أو مكانية تمنعه من التصريح برأيه ومن الترجيح والترجيح لاختلاف أذواق من يخاطبهم، فيكون الجمع حينئذ هو أمثل الطرق، ويكون كل قارئ قادراً أن يستقي من هذا الجمع ما يستعذبه. فالشيخ جمال القاسمي كان يعلم ما في عصره ومصره من طبقات مختلفة ومنازع متباينة، وكان هدفه ألا يصادم مشرباً خاصاً ولا يحكم لمذهب على مذهب، بل يجمعها جميعا تحت راية الهدى النبوي، وينظم كلام ابن تيمية مثلاً إلى كلام الشعراني والشيخ الأكبر بحيث يكون كل من الطبقتين السلفية والصوفية واجدين في هذا الكتاب طلبتهم. وقد نسى أخونا الأستاذ كرد علي محنة الشيخ جمال القاسمي عام 1313 عندما اتهم بالاجتهاد هو والمرحوم الشيخ عبد الرزاق البيطار وآخرين من رفاقهما واعتقلوا من أجل ذلك وأهينوا، فأصبح مثل الشيخ جمال وقد عضته الصراحة بأنيابها يتجنب الخوض فيما يؤدي به إلى نكبة، ويجد الاكتفاء بعرض الآراء أسلم، وربما أعلم أيضاً، لأن مثل هذه الآراء لا ينتهي الخلاف فيها، ولا تزال كل طائفة تجادل في كونها على حق إلى يوم القيامة. ففي بعض المواقف يكون السكوت أفصح من البيان، وأبعد عن مثار الشبهات لا سيما عندما يكون العالم الخبير بأمور عصره وشؤون قطره واثقاً بأن المصلحة هي في جمع الكلمة، وأن جمع الكلمة تحت راية الهدى النبوي لا يتأتى بالترجيح والترجيح والقول بأن هذا فاسد وهذا صحيح إلا في المسائل التي لا خلاف فيها بين العلماء والتي إنما يختلف فيها العوام. . .

فكتاب (قواعد التحديث) لو كان يؤتي من هذه الجهة لما أطراه صاحب المنار هذا الإطراء كله وهو في علم الحديث الجبل الذي لا يطاول والبحر الذي لا يساجل، كما أنه يعلم من طرق التأليف القديمة والمتوسطة والعصرية ما لا يقدر أن ينكره العلامة الكرد علي. ثم إن هناك غمزاً بالسجع، وليس الأخ كرد علي وحده الذي بدأ بهذا الغمز، بل كان أحد الأصحاب أطلعني على كتاب للدكتور زكي مبارك لمحت فيه كلاماً يشبه أن يكون استصغاراً للسجع أو استكباراً لأتيانه؛ وهذا باب جديد عجيب إذا أردنا أن ندخل فيه يطول بنا الأمر. فنكثر بالقول إن السجع وجد في الجاهلية وجاءت منه أمثلة لأفصح فصحائها، ثم جاء في القرآن الكريم، بل القرآن الكريم كله سجع وهو أبلغ الكلام العربي وغير العربي، وجاء في كلام الصحيح والمخضرمين ثم في الطبقة التي تليهم، ثم في التي تليهم ثم في التي تليهم إلى يومنا هذا. ولم نعلم أحداً عاب السجع من حيث هو وإنما يعاب السجع بالنسبة إلى المقام الذي يستعمله فيه الكاتب أي إنه لما كان السجع تقييداً بفواصل كما هو الشعر تقييد بقوافي فلم يكن السجع مستحسناً في المواطن التي يجب أن ينطلق فيها عقال القلم لكمال تأدية المعاني على وجهها. وأما في المواطن التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى المباحث العلمية الصرفة، فليس السجع بالذي يعد سبة على العربية، بل هو من محاسن هذه اللغة. وإن كان يجب حذفه من هذه اللغة من أجل كونه طريقة قديمة ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية فأن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً، فأن الشعر هو من قبيل السجع طريقة قديمة وزينة كلام تتوخى فيها المحاسن اللفظية كما تتوخى المحاسن المعنوية ويراعى فيه الوزن والقافية وهو من قبيل الموسيقى. والموسيقى هي أيضاً قديمة والطبيعة البشرية تألفها بل تحتاج إليها بل تهتف بها. والشعر ضرب من الموسيقى، فهو إذن من مقتضيات الطبيعة البشرية. والسجع وإن لم يكن مقيداً بكل تقييد الشعر فهو مقيد أيضاً بقيود لها مواقع في النفوس، وهي في محلها مطربة مستعذبة ولا غبار عليها، ولا يقدر أحد أن يقول إنني أنا مفرط في هذا المذهب لأنه ليس لأحد من الكلام المرسل أكثر مما لي، ولكني لا أزال أرى السجع حلية الكلام العربي عندما يكون في محله، وذلك مثل مقدمات الكتب ومثل الخطب التي تلقى على الجماهير. وإن العرب قد اصطلحوا على السجع في أسماء الكتب ولم يخطئوا في ذلك لأن الكلام المسجع أعلق في الذهن من غيره. وعسى كلامي هذا يكون مقبولاً عند أخي الأستاذ الكرد علي، ولا تتأثر به آصرة الإخاء القديم الذي بيننا والذي لا يمكن أن يطرأ عليها ما يوهنه مهما كان السبب ثقيلاً. فكيف إذا كان خفيفاً. وإن أدري فقد يكون أراد أن يداعبني ولا تكون هذه أول مداعبة بيننا

جنيف

شكيب أرسلان