مجلة الرسالة/العدد 109/النهضة التركية الأخيرة
مجلة الرسالة/العدد 109/النهضة التركية الأخيرة
للدكتور عبد الوهاب عزام
تتمة
بقيت هنات مما اقترف الكماليون لا أبغي إحصاءها، بل اكتفي بواحدة منها هي: لبس القبعة. والأمر في نفسه هين. ولكل أمة أن تتخذ من اللباس ما يلائم هواها، ويواتي حاجاتها، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم؛ ولكن الكماليين اتخذوا القبعة عمارة لهم سيراً على خطتهم في تقليد الأوربيين وإتماماً لسننهم في محاكاتهم، وإمعاناً في هجر ما يميزهم منهم فيحرمهم شرف الفناء فيهم. ولو أن القوم فكروا ثم فكروا فرأوا أن لا مناص لهم من لبس القبعة ضرورة يقتضيها الزمان والمكان لا بدعة يمليها التقليد لكان لهم في العقل مساغ، وفي العذر متسع، ولكان عليهم مع هذا أن يفهموا الأمة بالدليل، ويجادلوها بالحسنى، حتى ترى أن القبعة لباس اختاروه لأنفسهم، لا ذلة ضربت على رؤوسهم، فقد عاشت الأمة التركية أحقاباً ترى هذه القبعة شعار مخالفي دينها، ولباس أعداء تاريخها. فلما أكره التركي في ثورة التقليد أن يضعها على رأسه أحسها ذلة طأطأ لها الرأس الأبي، وعاراً ذلت له النفس الكريمة. وحاولت رؤوس أن تنبذها فقطعت، وأرادت نفوس أن تستهجنها فقتلت. وإنك لتبصر رأس التركي الأصيد، وكأنه حمل من الذل ملء الأرض والتاريخ، وسيم من الخسف ما تنوء به عزته وعزة آبائه. وليس هينا على أمة أن تسام هذه الحطة، وتحمل على هذا العنت. وإن يكن بعض الترك لبس القبعة عزاً وفخاراً، فقد لبسها معظمهم خزياً وشناراً، تنطق بذلك أساريرهم وتبين عنه عيونهم؛ ولو أن القوم، إذ رأوا رأيهم، أخذوا به النشء الصغار، وخيروا فيه الكبار، لهان الأمر بعض الهوان. تصور الشيخ أبن السبعين أو الهم التسعين قد شابت لحيته في الإسلام، ونبتت نفسه وترعرعت ثم ذبلت في كره القبعة، يكره على أن يختم حياته بها، ويتوج شيبته بسوادها. وانظر ذلك الشيخ الجليل الذي كان يدرس العربية في جامعة استانبول فقيل له: البس القبعة وانزع العمامة. قال: أعانوني وعدوني من رجال الدين. قالوا: فاخرج من الجامعة إن لم يكن لك بد من عمامتك. فخرج منها وخلفه فيها معلم ألماني، فكان يأخذ عنه علم العربية ويعلم الطلبة، وكفى الله الطلبة عمامة الشيخ وعلمها، وأسعدهم بقبعة الألم وبركتها
وقد جاءت الأنباء بأن الإيرانيين حذوا حذو الترك في لبس القبعة، ولم يقنعوا بالبهلوية (التي ابتدعوها) فهنيئاً لهم تقليد المقلدين
فلو كان عبد الله مولى هجوتُه ... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
وأعجب من هذا وأشأم صيحة سمعناها من العراق تدعو إلى الاقتداء بالفرس والترك فيما صنعوا. وهي دعوة إلى هذا التقليد الأشأم الذي يبدأ في ناحية فيسري سريان العلة في جميع النواحي؛ إذا ضل العرب في الضالين، وتهافتوا مع المتهافتين، فبأي وزر تعتصم الحضارة الإسلامية، وبأي ملاذ يلوذ التاريخ الإسلامي؟ وكيف تثبت الأمم الإسلامية في هذه الزعازع إذا مال العرب وهم العماد، وزلزلوا وهم الأوتاد؟ كيف وهم الحلماء إذا طاشت الأحلام، والراسخون إذا زالت الأقدام؟
ما أحسب العراقيين يستجيبون هذه الدعوة، فيسنوا للعرب أقبح سنة، أو يستبدوا دونهم برأي، وهم الدعاة إلى الأخوة العربية، الغلاة في الحماسة القومية؛ الأمر، كما قلت، هين إذا أدت إليه الروية والاختبار، فليجتمع وفود العرب أو وفود المسلمين كافة في مؤتمر عربي أو إسلامي، ولينظروا فيما يلائم كل إقليم من الأزياء، وما يوافق المدنية الحاضرة من ألبسة، ثم ليختاروا على بينة. وليكن ما يختارونه موافقاً لأزياء أوربا أو الشرق، أو مخالفاً لكل أزياء العالم، فلا حرج في هذا ولا بأس به
لقد لبس العراقيون منذ سنين عمارة سموها الفيصيلية جمعت مزايا القبعة الأوربية والعقال العربي، يسهل خلعها ووضعها، وتحمي الرأس والرقبة والوجه عند الحاجة، وهج الشمس ولفح الهجير، وتفرغ على راس العربي جمالاً وجلالاً، وتتوجه بمجد الماضي والحاضر. فلماذا لا يدعى إلا تعميمها، ويحتج لها بمزاياها؟ ألا أنها اختراع لم تلده قرائح الأوربيين، ولباس لم تقره سننهم؟ إن لم يكن بد من شهادة أوربية فسلوا أهل أوربا العالمين بأحوال بلادكم فسيقولون إنها خير لكم من القبعة، وأجدى عليكم منها. ليت شعري إلام ندعو إلى اليقظة فتنامون، وإلى الحذر فتستسلمون، وإلى العزة فتهنون، وإلى الاستقلال فتتبعون، وإلى الاجتهاد فتقلدون؟
كفى يا قوم بالزمان واعظاً، وبالتجارب هادياً. إنكم في مهب العواصف، ومفترق الطرق، فخذوا حذركم، ونبهوا عقولكم واشحذوا عزائمكم، ولا تصدروا إلا عن بينة، ولا تقولوا إلا عن رؤية، فأنه الحياة أو الموت، والبقاء أو الفناء
الخاتمة
رأى القراء مما قدمت أن الترك الكماليين لم يأتوا بجديد في هذه (النهضة التركية الأخيرة) ولكنهم ساروا على سنن أوربا فأحسنوا وأساءوا. أحسنوا بما أخذوا بأسباب الحياة فاجتهدوا في تعمير بلادهم وإسعاد أهلها، وتوسلوا لمعارك الحياة بعددها فدربوا الجيوش واستكثروا من السلاح وجعلوا أنفسهم سادة بلادهم. وأساءوا بما تبعوا أهل أوربا في أمور هي من نفايات الحضارة، وحثالات المدنية، وبما هجروا من أجل ذلك كثيراً من سنن دينهم القويم، وأخلاقهم الكريمة، وتاريخهم المجيد. وأذكر في هذه الخاتمة ما قاله في أوربا بعض أولي الرأي منذ سنين: قال: (كأن الكماليين بما يفعلون اليوم يقولون يا أهل أوربا! معذرة، لا تؤاخذونا بما فعل آباؤنا فقد حاربوكم جهدهم، وجالدوكم ما استطاعوا، ودافعوكم جهد طاقتهم، وما كانوا ينشرون حضارة أو يدافعون عن حضارة. وهانحن أولاء نعترف بأن الخير في اتباعكم، والشر في مخالفتكم، وإن آباءنا أثموا إذ منعوا عنا خيركم، فاقبلوا الأبناء في جماعتكم، ولا تأخذوهم بذنب آبائهم. هانحن أولاء نحني رؤوسنا إكباراً لكم، ونلوم أجدادنا من أجلكم.)
وبعد. فهذه الكلمات التي كتبتها لا تفي بهذا الموضوع العظيم، ولا بد أن يتعاون الكتاب والمفكرون في هذه السبيل حتى يجلوا عن الأمة هذه الغمة، ويدفعوا عنها هذه الفتن المدلهمة، والشبه المضلة، ثم يسيروا بها على المحجة البيضاء إلى الغاية المجيدة. فإنما نحن في فتن لا عذر فيها لمقصر ولا حجة فيها لمتهاون
وما أردت بما كتبت إلا وجه الله، والله هو الحق المبين. وهو حسبنا ونعم الوكيل (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.)
عبد الوهاب عزام