مجلة الرسالة/العدد 109/من مشاهد الشرق

مجلة الرسالة/العدد 109/من مشاهد الشرق

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1935


3 - طائفة البهرا في الهند

في حضرة داعي الدعاة

بقلم محمد نزيه

مضى محمد علي بخش رئيس الوزارة البهرية وأنا في أثره، في بعض جادة القصر، حتى انتهى وانتهيت معه إلى باحة فسيحة أمام سلم مديد، ذي ست درجات من رخام أبيض يشف عن زرقة رقيقة، فلما أن درجناه كنا أمام بابين رحيبين، كلاهما سبيل إلى تلك الحجرة الرهيبة التي يستقبل داعي الدعاة زواره فيها؛ وإذا كانت غرفة الانتظار قد تقاضتنا خلع الأحذية قبل ولوجها، فأحر بغرفة الشيخ الأكبر أن تطالب قصادها بمثل ذلك وأكثر منه. وكذلك هتفت بي نفسي هذه المرة بما هتف به سائق السيارة من قبل، أن اخلع نعليك فإنك قادم على أنيس المهدي المنتظر وجليسه، وأمينه سرا وعلانية، وأبى بكره من دون الخلق أجمعين!

ولقد ظللت مذ أسري بي في غرفة الانتظار إلى غرفة الملتقى - وكلاهما حرام - منصرفاً عن كل ما عسى أن يتداول سمع المرء وبصره، إلى التفكير في ذلك الرجل الذي يتقاضى جميع الناس كل أسباب التقديس له، بين مؤمن بمذهبه ومستريب به ومنكر له، ثلاثتهم من تقديس الشيخ في أوضاع متشاكلة ما أرادوا لقاءه، بل وما يكون هذا التقديس من ثالث الثلاثة تكلفا ولا صناعة ولا زيفا، فقد كنت أحسبه كذلك من قبل، وهأنذا الآن في منتصف الطريق بين الحجرتين، مفعم النفس برهبة شديدة تكاد تطغى على الرغبة الشديدة في رؤية الشيخ، بل وما فتئت هذه الرهبة تشتد سريعاً، حتى لقد بلغت شأوها في ثلاث من خطواتي، وإذا بالحواس الخمس قد رقت في بعض الدقيقة ودق إرهافها، فكأنما غادرت عالم الملموس والمحسوس إلى عالم الإلهام؛ ومادام هذا العالم الجديد لا يدرك مما يحيط بالمرء وإنما يدرك من باطنه، من دخائل نفسه، فقد انقلبت حواسي كلها إلى نفسي، وكأنني بت لا أعي من الوجود شيئاً، ولم تزل هذه النفس المرتهبة تتسع حتى تملأ كل فضاء داخل الجسد، وتشمل القلب كله، وتغير على ما فوقه وما تحته، وما عن يمينه وما عن يساره، وما أمامه وما خلفه، كل ذلك في خطى الكهرباء، فلم أكد أتم الخطوة الرابعة حتى كنت نفساً ولا جسد

وأخذت هذه القوة الجديدة تتخيل صورة الشيخ وتحاول رسمها، فإذا دأبت في هذا السبيل جاهدة، انبعثت ذرات الرهبة، فتوثبت على القلب فاختل نظام دقاته، وهنالك تضطرب النفس فلا تقوى على المضي في مهمتها، لذلك لم ترسم الصورة حتى صرت على قيد خطوات من صاحبها، فتقدمت إليه حتى استويت أمامه. لم يكن في وسعي ولا في وسع سواي أن يصافح الشيخ دون أن ينحني، إلا أن يركع، ما لم يكن قصيرا، ولست بقصير. ذلك أنه يجلس على كرسي لعل مقعده أدنى إلى الأرض مما يعهد في كل كرسي، ولم ينهض الشيخ عنه ليصافحني واقفاً، وربما كان لا يعرف الوقوف من أسباب التحية، فلا مناص لمن شاء مصافحته من الانحناء، ثم لا مناص لمن استأذن عليه من المصافحة، ومن يدري؟ لعل هذا الكرسي القصير إنما دبر تدبيراً، ثم إن هذا الكرسي قد عوض عن قصر أرجله رحابة في صدره، حتى لقد تبينت الشيخ من الكرسي ولم أتبين الكرسي من الشيخ

صافحت الشيخ منحنياً ولا بد، فإذا كف نحيل لعل الرف يؤذي عظمه، فلقد أحسست أنني أقبض على حزمة من الأقلام، بل أحسست أكثر من ذلك بالمفاصل الدقيقة لكل إصبع، وكأنما انفرطت عظامها في يدي فما يستعصي عدها علي! لكأن هذه الكف ترتفع من تلقاء نفسها إلى فمي، فلقد علمت إنني رففتها، ولعل ذلك إكبار ولعله رفق بالضعف، ولا سيما وهو ضعف الكبر؛ ولشد ما يحنو بعض القوة على بعض الضعف؛ إذن فقد انحنيت فصافحت ثم قبلت، وخطوت بعد ذلك إلى الكرسي الواحد الذي يشاطر الغرفة كرسي الشيخ، ثم تحركت حدقتا عيني فطافتا ببعض الحجرة وميضا حتى استقرتا لحظة على صاحبي محمد علي بخش وقد ألصق ظهره بالجدار، وأمال رأسه إلى الأمام قليلا، وشبك أصابع كفيه على صدره تحت لحيته؛ وجمد كذلك كأنه التمثال

سألني داعي الدعاة عن موقع المدينة من نفسي، ثم عن الصحافة المصرية وحظها من النهوض، فلما أن فرغ من أسئلته وحان دوري في السؤال، وكنت أعلم أن التحدث في مسائل الدين هو أشهى الأحاديث لدن رجاله، وأعلم إلى ذلك علماً ليس بالظن أن أقران الشيخ لا يفتأون ينعون على الناس تركهم أمر الآخرة، فكل امرئ عندهم مفرط مهما تخفف من زخارف العاجلة وتولى يرتجي الآجلة، ما يألونه إذ يرونه ذلك النصح الممزوج بالتعنيف والاتهام، فهم متسخطون متبرمون رغما من رغم، أثرة بالكمال من دون الناس، فقد استهللت بالأسف لإهمال المسلمين أمور دينهم وأمور دنياهم معاً، وكأنما قلت للسيل انهمر، فقد تدفق الشيخ فلم يترك في معجم الألم كلمة إلا قالها، ولا حركة إلا أتاها، بعينيه وشفتيه وكفيه، قال بلسانه العربي المبين - وقد أسلفت أنه من سلالة عربية قريبة العهد بموطنها الأول، اليمن: (إن دولة الإسلام قد انهارت أركانها في كل مكان، ودكت حصون الدين وسقطت معاقله، حتى عادت أطلالاً نناجيها) ثم راح يبعث قول الشريف الرضي:

ولقد مررت على ديارهمُ ... وطلولها بيد البلى نهبُ

فبكيت حتى ضج من لغب ... نضوى ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب

قلت: هل يرى مولانا أن تخلف العالم الإسلامي ناجم عن إهمال الدين؟ قال: (عن إهماله فقط، وليس في أداء فرائضه وحسب، بل في التأدب بآدابه، بل في الاستمساك بأسباب التعاون والمودة، وإطراح الخصومة والعداوة والبغضاء، وحدب الغني على الفقير، واطمئنان الفقير إلى الغني، وخشية الله والآخرة، واتقاء الخزي والندامة، والحسرة والعذاب يوم القيامة)

قلت: وهل من أمل في إصلاح ما انهدم؟ فانبسطت أسرة الشيخ دفعة واحدة والتمعت عيناه، وطالعني منه صوت يتجلى فيه الحزم والعزم والإيمان والبأس الشديد وهو يقول: (نعم. إن الأمر لله في دين الله، وإنه ليحميه ويعلي كلمته حين يشاء، ولكنما يترك الأمر للناس حتى يسلموا بالفشل ويتئسوا من النهوض، وإذ ذاك يقضي الله فإذا الحق في الذروة والباطل في الرغام)

قلت: أفلا يحاسب رجال الدين على شيء مما نرى من أمر الدين.؟ فسكن الشيخ لحظة ثم قال: (أعلم أن كثيراً من الناس يقومون برجال الدين ويقعدون، ولكن ما لذي يسع رجال الدين أن يفعلوا إن كانوا في شعب متخاذل مستضعف؟ إنهم إذ ذاك لا يفضلون أبناء شعبهم، ولعلك تعلم أن الفساد جرثومة سريعة العدوى؛ وهب أن بين رجال الدين من امتنع من جرائم الفساد، فماذا يفعل وأهل أمته كلهم ذلك الحواري الذي شهد على عيسى بن مريم؟!. أفتدري كيف تقهر الأمراض العصية في الأجساد، إن أحدث أسباب ذلك وأصدقها نتيجة أن يلقح الجسد المريض بعين الجراثيم التي تمرح فيه، ولم ينتبه الطب إلى ذلك إلا بعد قرون من تنبه الحكام إلى أثر هذه الوسيلة نفسها في أخلاق المحكومين، ولن يعدم زمن من الأزمان، ولن تبرأ جماعة من الجماعات، من أشرار وإن قلوا، وتلك سنة الحياة، وقد احتال الظلمة وافتنّوا في الاحتيال، حتى استكشفوا أن رجل الدين الصالح لا يقهر إلا برجل الدين الطالح، ثم هم يزودون صاحبهم بقوة المال وسطوة البطش والعدوان، ويذودون عنه بعد ذلك إن أحدق به خطر، فإذا سئلوا في ذلك قالوا، إنما نرفع كلمة الدين ونعيذه من الهوان

وتنفس الشيخ برهة ثم قال: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وقد نزل الدين سهلاً مفهوماً، فلنأخذ بمبادئه التي لا تحتاج إلى رجال الدين، فإذا استقرت هذه الأوليات في النفوس، سهل علينا أن نميز الصالح من الطالح من رجال الدين فنأخذ عن أولهما وندع الآخر. على الآباء والأمهات جميعاً بهذه المهمة، كل يؤدب أبناءه بأدب الدين منذ الصغر، قبل أن يبلغ الطفل أشده، فيصبح تحت رحمة القانون والبيئة والمطامع)

قلت: وهل من سبيل إلى تخفيف الفساد؟ قال: (نعم، ولكن أسباب التخفيف لا تعرض هكذا على بساط الريح، فلابد من البحث والروية والتثبت، ولا سيما ونحن نريد أن نعالج جماعات كثيرة مختلفة العلل، وقد يصلح لهذه من الدواء ما يزيد تلك علة على علة، ولذا وجب أن يجتمع أطباء الدين والأخلاق من كل جماعة أطباؤها، فإذا تذاكروا جميعاً حتى اهتدوا إلى العلة المشتركة، تذاكروا حتى يهتدوا إلى الدواء المشترك. المؤتمرات، على أن تكون خالصة لله وحده، نقية من الدخلاء، بريئة من الشبهات، حرة أكمل حرية، مطبوعة بإنكار الذات والإيثار دون الأثرة) وسكن الشيخ برهة وقد بدا على محياه أنه يطلب الراحة؛ ثم ضغط على جرس كهربائي مثبت على منضدة صغيرة أمامه، فإن هي إلا ثوان معدودة حتى أقبل من داخل الحجرة خادم يحمل بيمينه لفافة من قماش، تقدم بها إلى الشيخ فتناولها منه، ثم مد بها يده إلى ناحيتي، فخطوت إليه وأخذتها شاكراً، وودعت داعي الدعاة بعد أن ألقيت على سمعه ما واتاني به الله من كلمات الشكر والتقدير

أما لفافة القماش، فقد تبينت بعد أن باينت الغرفة أنها (شال) من الكشمير وسط في صنعته وقيمته، ثم علمت أنه نفحة الشيخ لكل زائر غريب، وإنما تختلف قيمتها بقدر ما للزائر من مكانة في قومه، وأما غرفة الزيارة فرحيبة تكاد تتسع ثلاثين متراً من نصفها، يرتفع سقفها على عمد من رخام، عارية الجدران من الصور، حافلة الأديم ببساط أبيض عار من زهو النقوش، وقد أسلفت أنه لم يكن بها إلا كرسيان للشيخ ولي، ولعل هذه البساطة في مظاهرها والرحابة في اتساعها مما يزيدها رهبة ويزيد صاحبها إجلالاً. أما الشيخ فأنه من نحول الجسد ورقته كأنما إياه كان المتنبي يعني لما قال:

كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني

وهو على شدة نحوله ليس بالطويل القامة، كأنه غاندي، لولا أن وجهه المستطيل خفيف السمرة، مشرق الديباجة، متسع العينين حتى لتملأن نصف وجهه، حديد البصر، كأنما تطل نفسه المطمئنة من عينه، ضاحك السن في وقار كثير، تنبئك مظاهره كلها بأنه رجل موطأ الأكناف حقا. وقد استتر رأسه تحت طاقية بيضاء، وغطى جسمه بجلباب أبيض، وهو في غرفته مثال نادر الأنداد للبساطة في الغنى، والتواضع في الجاه

كررت إلى جادة القصر يصحبني محمد علي بخش، فمضينا إلى مسجد القصر متحدثين بالإنجليزية فأنه لا يعرف العربية، فإذا نحن حيال مسجد حديث البناء أنيقة، متوسط السعة، مفروش بالسجاد، ذي ثلاثة أبواب، اثنان منها لدخول المصلين من الرجال، والثالث لدخول المصليات من النساء، وقد فصل بينهن وبين الرجال في رواق المسجد جدار رقيق لا يتصل بسقفه، أما المنبر فمن الخشب الثمين المتين وقد خلا من كل زخرف، كل ما في المسجد ناطق ببساطته، خلا ثرياته الثمينة التي تؤلف في انتظامها أروع الشكول. فلما فرغنا من تفقد المسجد دعاني صاحبي إلى التدريج إلى أعلى القصر، حيث أعد به موضع يشرف على المدينة كلها، فترى منه واضحة المعالم جلية الرسوم، ولولا سدول الليل لاستطعت في هذه القمة إحصاء مساجد (بمبي) وعد حدائقها، وتبين أعلامها والتحديق في ميادينها، على أنك لا ترى المدينة وحدها من هذه القمة، بل ترى البحر وعبابه ينساب إلى عالم المجهول.

القاهرة

محمد نزيه