مجلة الرسالة/العدد 11/الأدب والحياة

مجلة الرسالة/العدد 11/الأدب والحياة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1933



للأستاذ زكي نجيب محمود

تطغى على العالم موجة مادية تجتاحه أصولاً وفروعا، وتريده على أن يحمل تراث الإنسانية الأدبي، منذ فجرها حتى اليوم الراهن، فيأخذ سمته نحو أليم، فيلقي بذلك التراث في لجة مالها من قرار، ثم يعود وقد أزاح عن كاهله ذلك العبء المضني من دموع الشعراء وأنينهم وهزّات نشوتهم وسرورهم، وغير ذلك من نزوات الطفولة التي لا تدعو إليها ضرورة ولا شبه ضرورة في هذا العصر الحديث، وأن يتوفر على أزيز المعامل ومقارع الآلات، التي لا ينبغي أن يطرب لسواها، أو ينصت لصوت غير صوتها!! وماذا يغني دانتي وشكسبير بجانب علوم الطبيعة والكيمياء، التي على أساسها تعمل المطارق وتدور الأرجاء!! وفي ذلك يقول الكاتب الإنجليزي توماس بيكوك: (الشاعر في عصرنا هذا نصف همجي يعيش في عصر المدنية، لأنه يقيم في الزمن الخالي، ويرجع بخواطره وأفكاره وخوالجه وجوانحه إلى الأطوار الهمجية، والعادات المهجورة، والأساطير الأولى، ويسير بذهنه كالسرطان زحفاً إلى الوراء. . . . . لقد كان الشعر نقرة تنبه الذهن في طفولة الهيئة الاجتماعية، ولكن من المضحك في عصر النضج العقلي أن نعني بألاعيب طفولتنا، ونفسح لها موضعاً من شواغلنا، فإن هذا سخف يشبه سخف الرجل الذي يشتغل بألاعيب الصبيان، ويبكي لينام على رنة الأجراس الفضية).

هكذا يقال عن الأدب الآن، كأنه عرض من أعراض الحياة، لا يمسها في الجوهر والصميم، والواقع أننا حين ننزل عن الأدب وسائر الفنون، فأننا إنما ننزل عن نفوسنا، لأن هذه وتلك شيء واحد اختلفت أوضاعه.

وللشاعر الفيلسوف طاغور تحليل يبين به موضع الفن من أساس الحياة، وأنه ضرورة لازمة لا مناص منها، ونحن نورد للقارئ خلاصة موجزة لذلك البحث الجليل:

من الحقائق البديهية، ان الإنسان مرتبط بهذا العالم بصلات شتى، فهو يعيش في مضطرب الحياة مدفوعاً بطائفة من الحاجات التي يتحتم عليه قضاؤها وهو في تلك المحاولة مضطر إلى أن يتصل بالعالم اتصالاً ليس له عنه منصرف ولا محيد.

فالحاجة الجسمية تملي عليه أن يفلح الأرض ويتعهد الزرع حتى يثمر له القوت، وأن يلتمس من الطبيعة مسكناً وملبساً يدفعان عنه الفقر والهجير.

والحاجة العقلية تريده على أن يمعن النظر ويستقصي البحث في مظاهر الكون، لان العقل لا يقنع بالنظر إلى الأشياء الخارجية دون أن يتتبع العلل ويكتشف القوانين العامة التي تنتظم جميع الجزئيات، فهو مطبوععلى هذا البحث ليخفف عن نفسه أعباء الحقائق الكثيرة التي تصادفه في حياته، باختزالها في عدد قليل من القوانين، أو في قانون واحد شامل إن استطاع إلى ذلك سبيلا.

وليست حاجة الإنسان تقتصر على العقل والجسد، بل هو يحمل بين جنبيه نفساً لها مطمح تنشده وتسعى إليه، فهي بدورها مضطرة إلى أن تتصل بالكون كي تلتمس عند مظاهره ما تصبو إليه، وهي بحكم وجودها تعالج ضروباً من المشاعر، فهي تموج بالأمل واليأس والسرور والغضب وغير ذلك من ألوان الشعور.

ولكن هذه الروابط التي تصل الإنسان بالعالم لا تقتصر عليه دون سائر الحيوان، فهو يشاركه في الحاجة الجسمية ويشاركه في الحاجة العقلية - إن صح إطلاق هذه الكلمة على الحيوان الأعجم - كما يشاركه في مشاعره النفسية كذلك، إلاّ أن أهم ما يرتفع بالإنسان عن مرتبة الحيوان، إن هذا محدود في دائرة ضيقة جداً، لاتسع لأكثر من الضرورات التي يقتضيها استمرار الحياة، فهو يبذل ما يبذله من مجهود لحفظ كيانه، والاحتفاظ بجنسه، ثم لا يزيد على ذلك إلاّ بمقدار ضئيل، أما الإنسان فلا تكلفه الضرورة إلا بقدر محدود ثم يبقي لديه من القوة ما يجول به حرا من الأصفاد والقيود، مثل الحيوان في ذلك، مثل الزارع الذي ينوء بأعباء الدّين الفادحة فهو يكد ويكدح ويعمل ويشقى طول العام، فإذا ما حان الحصاد تسرّب الثمر إلى الدائن، ويخرج صاحبنا من المعركة صفر اليدين، أما الإنسان فهو في هذا التشبيه صاحب ضيعة واسعة النطاق، لا يفقد من دخله إلا جزءاً يسيرا، ثم ينعم بعد ذلك حرا لا يقف دونه سلطان ولا رقيب، أي إن لديه من ثروة الحياة ما يزيد على الحاجة الضرورية بقدر عظيم، وبذلك يتاح له من القوة والفراغ، ما يستطيع معه أن يعالج مختلف الشئون، لا باعتبارها واجباً حتماً تمليه ضرورة الوجود، ولكن على أنها أغراض في نفسها تقصد لذاتها.

فللحيوان مقدار من المعرفة ولا ريب، إلا أنها معرفة ضئيلة محدودة، يستخدمها في حفظ الحياة وكفى، فهو ملزم أن يدرس بيئته في شئ كثير من الدقة ليستطيع أن يتخذ لنفسه من أركانها مستقراً يؤويه، وليتمكن من الحصول على طعامه وشرابه في سهولة ويسر، وهو ملزم كذلك أن يعلم بعض خواص الأشياء من حيث اللدونة والصلابة مثلاً، ليبني ما يشاء من أوكار، ويعالج شؤون الحياة الأخرى، وهو لابد أن يعرف للفصول المختلفة علامات تدل على قدومها. حتى يتهيأ لأجوائها المتباينة بالريش أو الفراء، هذه وأشباهها معرفة لا ندحة عنها لكل أنواع الحيوان للذود عن كيانها والاحتفاظ بوجودها. ولكنها لا تزيد على ذلك إلاّ قليلا. والإنسان أيضاً. لديه تلك المعرفة اللازمة لاستمرار الحياة - حياة الفرد والجنس - ولكن معرفته لا تقف عند هذا القدر القليل، بل تفيض معرفته فيضاً غزيراً يطغى على تلك الحدود الضرورية، فهو يحصل جانباً من المعرفة لذاتها، وينشد العلم لأجل العلم، لا يبغي وراء ذلك قصداً ولا غاية. ومن هذا الفيض العلمي تنشأ الفلسفة والعلوم.

وللحيوان جانب خلقي غير منكور، فلديه كثير من الإيثار تراه واضحاً في حنان الأم على صغارها أيا كان نوعها ويبدو ذلك الإيثار بارزاً في هذه النحلة العاملة، وتلك النملة المثابرة، فهما تسعيان وتطوفان هنا وهناك، تجمعان القوت، ولكن لماذا؟ لخلية النحلة كلها أو لجماعة النمل بأسرها. وهذا المقدار الضئيل من الأخلاق، إنما أوجدته ضرورة الحياة عند الحيوان، أما الإنسان فقد رسم لنفسه من التشريع الخلقي ما يربي على حاجته الضرورية أضعافاً مضاعفة، فهو يفرض نفسه على الخير لأنه صالح للجماعة أولاً، ولكنّه لا يكتفي بهذا الفرض المتواضع، بل يمعن في ذلك إمعاناً بعيداً، فينشد الخير محضاً ويطلبه لذاته فقط ومن هذا الفيض الخلقي، نشأ علم الأخلاق.

وللحيوان شعور يحسه ويعبّر عنه، فهو يبغض ويحب، وهو يسر ويحزن، وهو يأمن ويخاف. ولكنه كذلك لا يعدو في التعبير عن مشاعره ذلك الحد الذي تقتضيه ضرورة الحياة. أما الإنسان، فعواطفه - وان تكن قد نشأت في الأصل لتلك الأغراض التي نشأت من اجلها عواطف الحيوان - إلا إنها قد جاوزت ذلك الحد تجاوزاً، وتركت في الأرض جذورها الأولى التي أخرجتها إلى الوجود، وانبسقت عالية منتشرة بغصونها في سماء اللانهاية، نعم لدى الإنسان من العواطف أضعاف أضعاف ما تتطلبه طبيعة وجوده، وهذا الفيض الغزير العميق من المشاعر التي تضطرم وتحتدم في الصدور لابد أن يجد متنفسا يتسلل منه، ليعلن عن نفسه في أنحاء الوجود. وقد كانت الثغرة التي تدفق منها ذلك الفيض الشعوري هو الفن الجميل في ضروبه المختلفة من أدب وتصوير ونحت وموسيقى وغيرها. إذ أتخذها الإنسان أداة للتعبير عما يحسه من شعور، وهذا الشعور الذي يلتمس طريقه إلى عالم التعبير في صورة فنية، إنما يكشف عن نفوسنا وما يدور فيها من إحساس. وبعبارة أخرى إن الفنون وسيلة لابراز مشاعر النفس الإنسانية ودون الأشياء المحسة التي تتعلق بها تلك المشاعر، وبذلك أتاحت للإنسان أن يسكب نفسه أمامه، فيراها ويلمسها، وليس له عن ذلك بد بحكم تكوينه، فهو حين ينظم قصيدة من الشعر أو يضرب على أوتار الموسيقى فان ذلك يوازي في قائمة الضرورات الإنسانية - الملبس والطعام -، ومن هنا كان الإنسان هو الحيوان الذي يعرف نفسه ويشعر بوجوده.

ولمّا كانت الآداب والفنون هي شخصيتنا تدفقت إلى العالم الخارجي في مختلف الأثواب، كان لا يصلح موضوعا للفن إلا ما يتصل بنفوسنا وينتظم في سلك مشاعرنا، أو تغذوه عواطفنا، فيكتسي الرضى أو السخط أو السرور أو الألم أو غيرها، وعندئذ يصبح جزءاً منا، يصح له أن يبرز في صورة فنية. فعلمنا أن الأرض تبعد عن الشمس كذا ميلا لا يصلح موضوعاً للفن لأنه لا يمس نفوسنا، أما منظر غروب الشمس فهو يثير فينا عاطفة ما (الإعجاب مثلاً) فيمتزج المنظر بنا، ويختلج في نفوسنا، ثم لا يلبث أن يسلك سبيله إلى التعبير. وهكذا كلما اجتمعت مشاعرنا حول شئ معين فإنها تجاهد في الإفصاح عن نفسها مستعينة في ذلك بالفنون، ولما كانت معظم الأشياء التي تصادفنا في الحياة تثير فينا لونا خاصا من العواطف، فالإنسان فنان في الكثير الغالب من نواحي الحياة. فهو يشيد دوراً فخمة لمسكنه وكان يكفيه كوخ خشن ضئيل، وهو يبني المعابد والمساجد الشامخة التي ترسل قبابها ومآذنها في الفضاء، لينفس عن عاطفته الدينية، وكان يكفيه حيز محدود في العراء لأداء فريضته، وهو يخطط المدن وينسق الحدائق ليرضي عاطفته الوطنية وهو يعني بأثاث منزله وجمال ملبسه إلى آخر دقائق الحياة. لماذا؟ لأنها تمس مشاعره فتصبح قطعة من شخصيته لا يسعه إلاّ إبرازهاوالإعلان عنها.

من ذلك نرى أن الفنون جميعاً هي الأداة التي يستخدمها الإنسان ليتمكن من صب الوجود نفسه. ثم يعود فيسكبها شخصية تنبض فيها الحياة، وقد اتخذت الفنون قوالب الجمال وسيلة إلى ذلك التعبير كالتصوير والموسيقى والعبارة الجميلة، فأدى ذلك إلى اقتران الآيات الفنية بمعاني الجمال فالتبس الأمر على بعض المفكرين وذهب بهم الظن إلى أن الجمال هو الغرض المقصود من الفنون. والحقيقة انه أداة فقط، استعملت للوصول إلى الغاية الحقيقية وهي إبراز الشخصية الإنسانية، وقد تبع ذلك جدل ونقاش حول موضوع لم يكن ليحتمل النقاش والجدل وهو أيهما افضل في الأدب؛ المعنى أم المبنى؟ فذهب فريق كبير إلى تفضيل العبارة الجميلة وحجتهم في ذلك أن المعنى أدخل في باب العلوم منه في باب الأدب، أما اللفظ الجميل فهو خالص لأنه قطعة من الجمال والجمال أساس الفنون! وفات هؤلاء أن جمال الأدب لا يتحقق إلاّ بمزج هذين العنصرين مزجاً (كيميائياً) لا يقبل التجزئة والتحليل، فأنت إذا أردت أن تتذوق لونا من ألوان الطعام فلا تعمد إلى تحليله إلى عناصره الأولى لتختبر كل واحد على حدة بل لابد لك أن تتناوله وحدة متماسكة. كذلك الحال في الأدب؛ الكل شئ آخر غير أجزائه. فالمعنى وحده قطعة من العلم واللفظ وحده كذلك جزء من علم البلاغة والنحو والصرف، فإذا مزجت بينهما كان لديك بذلك آية أدبية خالدة.

فالفنون ومنها الأدب هي أشخاصنا وأرواحنا في حين أن العلوم (كالأشياء نفسها) جامدة ميتة لا تتصل بنفوسنا ولا تظهر فيها الشخصية الإنسانية. وقد أحسن فكتور هوجو حين قال في كتابه (وليم شكسبير): (ينأى كثير من الناس في أيامنا هذه (ولا سيما المضاربون وفقهاء القانون) إن الشعر قد أدبر زمانه. فما اغرب هذا القول؟! الشعر أدبر زمانه! لكأنّ هؤلاء القوم يقولون؛ أن الورد لن ينبت بعد وان الربيع قد أصعد آخر أنفاسه وان الشمس كفت عن الشروق وانك تجول في مروج الأرض فلا تصادف عندها فراشة طائرة، وان القمر لا يظهر له ضياء بعد اليوم، والبلبل لا يغرد والأسد لا يزأر والنسر لا يحوم في الفضاء، وان قمم الألب والبرانيس قد اندكت، وخلا وجه الأرض من الكواعب الفواتن والأيفاع الحسان. . . لكأنهم يقولون انه لا أحد اليوم يبكي على قبر ولا أم تحب وليدها وأن أنوار السماء قد خمدت وقلب الإنسان قد مات).

والخلاصة أن الأدب والفن بوجه عام، ضرورة تحتمها المشاعر الزائدة على حاجة البقاء، وأنها صورة دقيقة لنفوسنا، تربطنا بالعالم برباط الصداقة والرحم، بخلاف العلوم، فإنها صورة العالم الخارجي ولا دخل للإنسان فيها، فهي من الإنسان بمثابة الزائر الأجنبي الذي لا تصله بنا وشائج القربى. وأحسب أننا لو خيّرنا بين العلم والأدب لما ترددنا لحظة في أن ننبذ العلم نبذاً، ونتمسك بالأدب ونعتز به اعتزازنا بالنفوس.