مجلة الرسالة/العدد 11/من بريد الرسالة

مجلة الرسالة/العدد 11/من بريد الرسالة

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 06 - 1933


جواب الآنسة حياة

وكتاب آخر فرنسي، أنيق الشكل، جيد الخط، رائق الأسلوب، هادئ البيان، أتانا من الآنسة حياة!! فعجبت من إصرار هذا اللسان الأجنبي على التدخل الفضولي بين لسانين عربيين! ولكني لم أكد أسير في قراءته حتى تساير عن نفسي العجب، وتراجع عن وجهي القطوب، واتضح في ذهني العذر، وملكتني سورة من الحنق المر على نُظمنا التربوية والتعليمية التي شوهت في النشء عواطف الجنسية، وشتت في الشعب معاني الوحدة، وأخفقت كل الإخفاق في تكوين أمة واحدة النزعة والوجهة والثقافة.

تقول الآنسة الفاضلة: (. . . نعيت عليّ أني كتبت إليك بالفرنسية، والسبب في ذلك بعيد كل البعد عن التظرف والحذلقة والله يعلم وصواحبي يشهدن بما كان بيني وبين الراهبات المعلمات من الجدل العنيف كلما تعرّضن لديننا بالغمز، أو لتاريخنا بالعبث أو للغتنا بالزراية. . إنما أنا ومثيلاتي ضحية من ضحايا نظام مدرسي لم يقم ألا لتعليم الفتى (ميكانيكية) الحكومة. لأن قيامه لهذه الغاية جعل من طبيعته إغفال أمر البنت، فلجأ بها أولياؤها إلى المدارس الأجنبية، فنشأت هذه النشأة البتراء المشوبة، لا تعرف عن دينها إلا التشبه، ولا من لغتها وأدبها غير القشور.

لو كنت كتبت إليك بعربيّتي لحسبتني طفلة تجمجم بالكلام ولا تبين! ويكون من وراء ذلك انك لا تفهمني ولا تفهم عني، فكتبت إليك بالفرنسية لأن الإنسان يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص، ولئن تعرّضت بذلك إلى غضبك، فقد نجوت ولله الحمد من سخرك، وسخطك عليّ أحب إلى كرامتي من استخفافك بي.

ما كان أسعدني لو ملكت من لغتنا ما تملك فترجمت عن نفسي بمثل ما ترجمت عني في الفقرات التي نشرتها من كتابي.

أنا الآن أعالج في نفسي هذا النقص بالدرس المستمر لآداب العربية، وتكاد (الرسالة) أن تكون الوسيلة الوحيدة لهذا الدرس، فأنا أستوعب أبوابها المختلفة، وأتذوّق أساليبها المتنوعة، ويخيّل إلي أني قطعت إلى غايتي مرحلة كبيرة. ولكني أجد في (الرسالة) نفسه أن زعماء الكتّاب لا يزالون ينتقدون زعماء الكتّاب في مبادئ النحو وبسائط التراكيب!! فليت شعري أأقنط من دراستي أم أستمر؟. . . .)

والآنسة الفاضلة تسمح لي أن أقف هنا في ترجمة كتابها لأعجل بالنصيحة لها أن تستمر، فأن العربية لاطراد قواعدها في القياس، واتفاق تراكيبها مع الطبع، أبسط اللغات نحواً وأقربها غاية. ولكن آفتها يا سيدتي منهاج سيئ، ومعلم عاجز، وتلميذ كسول!! وستقرئين في الرسالة بعد صفحات من هذه المقالة بحثاً قيّماً في ثقافة المرأة للآنسة أسماء، وشعراً منثوراً في التصوف للآنسة ناهد، فتجدين في صياغتهما الحسنة، وعبارتهما الصحيحة، وأسلوبهما الرقيق، مشجعاً لك ومصدقاً لي. .

جواب الآنسة عفيفة

أجابت الآنسة عفيفة عن تعليقي الموجز بكتاب إنكليزي مسهب، وقد فضّلت أن تكتب جوابها بالإنكليزية لأنها تتهم بيانها العربي بالقصور لقرب عهدها بالكتابة، وتعتقد لذلك إننا أسأنا الفهم فأسأنا الإجابة، وبيان الآنسة سليم من القصور، بريء من العي، لأننا فهمناه على الوجه الذي أرادته. وهو رسالة غزلية إلى امرأة عن لسان رجل. أما القصد من اتخاذ الآنسة (دور) الرجل في موضوع غرامي - وهذا موضع الإنكار - فلم تذكره الكاتبة في حاشية الكتاب، ولم نفهمه نحن من طبيعة الشيء، فحملناه معذورين على العبث الذي نربأ بفتياتنا عنه.

أرادت الآنسة أن تكشف اليوم عن ذلك القصد في هذا الجواب، فقالت: إنها لم ترد أن تتحدث عن الحب، وإنما قصدت أن تضع نموذجاً للرسائل الغرامية في اللغة العربية يكون مبنياً على الشعور الصادق والمنطق السليم، لأنها تلقت رسالتين: واحدة من صديقة إنكليزية، وأخرى من صديقة مصريّة، فوجدت الأولى صورة صادقة لحياة الكاتبة، وحال البيئة، وروح الجماعة، من ألعاب وأصحاب ودرس، ولم تجد في الثانية إلا عواطف مبهمة، وجملاً مزوّرة؛ وأمثالاً محفوظة. ثم قرأت كتابين أحدهما للكاتبة (جين وبستر) وثانيهما للكاتب (سليم عبد الأحد) وموضوعهما (رسائل في الحب)، فوجدت الفرق بين هذين الكتابين، هو الفرق بين تينك الرسالتين. وأنا أحترم تفسير الآنسة الأديبة لقصدها وأسلمه من غير مناقشة، وأعتذر إليها إذن من نقد في غير محله، ولوم وجهته إلى غير أهله. ثم استميح سيدتي الأذن بمناقشة هذه الطريقة من حيث الفن. إنك تنتقدين ما قرأت من الرسائل العربية، لأنها تصدر من اللسان لا من القلب، وتنقل عن الحافظة لا عن الطبع، فهل تعتقدين أنك صدقت في نقل شعور العاشق حينما أخذت (دوره) في رسالتك وأنت لا تحسّين هذا الشعور ولا تدركين كنهه؟ لعلّك لو كنت أخذت (دور) الحبيبة أو (دور) (الخطيبة) لكنت أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الإجادة، على أن هذه النماذج المصنوعة يا سيدتي أعجز من أن تعير الجامد روحاً والبليد حساً والعي إبانة، إن الفكرة أو العاطفة إذا أشرقت في الذهن أو في النفس وجدت الكلمة وخلقت الصورة على غير مثال ولا قاعدة، ذلك لأن الشعور وحده يوجد الفن كما ترين في توفيق الحكيم، ولكن الفن وحده لا يوجد الشعور كما ترين في عبد الأحد. وإن في الأدب العربي الحديث طرفة من هذا النوع الذي تريدين، هي آية من آيات الفن في دقة الصنعة، ولعلها لا تقل جمالاً عن تماثيل فدياس وصور رفائيل، ولكنها كهذه التماثيل وتلك الصور ينقصها شيء واحد هو كل شئ: ذلك هو الروح!! هل قرأت (رسائل الورد) للأستاذ الرافعي؟ أرجو أن تقرئيها، وأن تكتبي إليّ رأيك فيها. . .

أحمد حسن الزيّات.