مجلة الرسالة/العدد 110/الأدب والأديب

مجلة الرسالة/العدد 110/الأدب والأديب

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

إذا اعتبرت الخيال في الذكاء الإنساني وأوليته دقة النظر وحسن التمييز، لم تجده في الحقيقة إلا تقليدا من النفس للألوهية بوسائل عاجزة منقطعة، قادرة على التصور والوهم بمقدار عجزها عن الإيجاد والتحقيق

وهذه النفس البشرية الآتية من المجهول في أول حياتها، والراجعة إليه آخر حياتها، والمسددة في طريقه مدة حياتها، لا يمكن أن يتقرر في خيالها أن الشيء الموجود قد انتهى بوجوده، ولا ترضى طبيعتها بما ينتهي؛ فهي لا تتعاطى الموجود فيما بينها وبين خيالها على أنه قد فرغ منه فما يبدأ، وتم فما يزاد، وخلد فلا يتحول؛ بل لا تزال تضرب ظنها وتصرف وهمها في كل ما تراه أو يتلجلج في خاطرها، فلا تبرح تتلمح في كل وجود غيبا، وتكشف من الغامض وتزيد في غموضه، وتجري دأبا على مجاريها الخيالية التي توثق صلتها بالمجهول. فمن ثم لابد في أمرها مع الموجود مما لا وجود له، تتعلق به وتسكن إليه؛ وعلى ذلك لابد في كل شيء - مع المعاني التي له الحق - من المعاني التي له في الخيال؛ وهاهنا موضع الأدب والبيان في طبيعة النفس الإنسانية؛ فكلاهما طبيعي فيها كما ترى

وإذا قيل الأدب، فاعلم أنه لابد معه من البيان؛ لأن النفس تخلق فتصور فتحسن الصورة؛ وإنما يكون تمام التركيب - في معرضه وجمال صورته ودقة لمحاته، بل ينزل البيان من المعنى الذي يلبسه منزلة النضج من الثمرة الحلوة، إذا كانت الثمرة وحدها قبل النضج شيئا مسمى أو متميزا بنفسه، فلن تكون بغير النضج شيئا تاما ولا صحيحا، وما بد من أن تستوفي كمال عمرها الأخضر الذي هو بيانها وبلاغتها

وهذه مسئلة كيفما تناولتها فهي هي حتى تمضيها على هذا الوجه الذي رأيت في الثمرة ونضجها؛ فإن البيان صناعة الجمال في شيء جماله هو فائدته، وفائدته من جماله؛ فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره، وعاد بابا من الاستعمال بعد أن كان بابا من التأثير؛ وصار الفرق بين حاليه كالفرق بين الفاكهة إذ هي باب من النبات، وبين الفاكهة إذ هي باب من الخمر. ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب في جمع لغات الفكر الإنساني، لأنه كذلك في طبيعة النفس الإنسانية

فالغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقى الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه، ويترك الماضي منها ثابتا قارا بما يخلد من وصفه، ويجعل المؤلم منها لذا خفيفا بما يبث فيه من العاطفة، والمملول ممتعا حلوا بما يكشف فيه من الجمال والحكمة. ومدار ذلك كله على إيتاء النفس لذة المجهول، التي هي نفسها لذة مجهولة أيضا؛ فإن هذه النفس طلعة متقلبة، لا تبتغي مجهولا صرفا ولا معلوما صرفا، كأنها مدركة بفطرتها أن ليس في الكون صريح مطلق ولا خفي مطلق؛ وإنما تبتغي حالة ملائمة بين هذين، يثور فيها قلق أو يسكن منها قلق

وأشواق النفس هي مادة الأدب؛ فليس يكون أدبا إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلا بسر هذه الحياة فيكشف عنه أو يومي إليه من قريب، أو غير للنفس هذه الحياة تغييرا يجيء طباقا لغرضها وأشواقها؛ فانه كما يرحل الإنسان من جو إلى جو غيره، ينقله الأدب من حياته التي لا تختلف إلى حياة أخرى، فيها شعورها ولذتها وإن لم يكن لها مكان ولا زمان؛ حياة كملت فيها أشواق النفس، لأن فيها اللذات والآلام بغير ضرورات ولا تكاليف. ولعمري ما جاءت الجنة والنار في الأديان عبثا؛ فان خالق النفس بما ركبه فيها من العجائب، لا يحكم العقل أنه قد أتم خلقها إلا بخلق الجنة والنار معها؛ إذ هما الصورتان الدائمتان المتكافئتان لأشواقها الخالدة إن هي استقامت مسددة أو انعكست حائلة

وقد صح عندي أن النفس لا تحقق من حريتها ولا تنطلق انطلاقتها الخالدة فتحس وحدة الشعور ووحدة الكمال الأسمى - إلا في ساعات وفترات تنسل فيها من زمنها وعيشها ونقائضها واضطرابها إلى (منطقة حياد) خارجة وراء الزمان والمكان؛ فإذا هبطنها النفس، فكأنما انتقلت إلى الجنة واستروحت الخلد؛ وهذه المنطقة السحرية لا تكون إلا في أربعة: حبيب فاتن معشوق أعطي قوة سحر النفس، فهي تنسى به؛ وصديق محبوب وفي أوتى قوة جذب النفس، فهي تنسى عنده؛ وقطعة أدبية آخذة، فهي ساحرة كالحبيب أو جاذبة كالصديق؛ ومنظر فني رائع، ففيه من كل شيء شيء وهذه كلها تنسي المرء زمنه مدة تطول وتقصر؛ وذلك فيها دليل على أن النفس الإنسانية تصيب منها أساليب روحية لاتصالها هنيهة بالروح الأزلي في لحظات من الشعور كأنها ليست من هذه الدنيا وكأنها من الأزلية. ومن ثم نستطيع أن نقرر أن أساس الفن على الإطلاق هو ثورة الخالد في الإنسان على الفاني فيه؛ وأن تصوير هذه الثورة في أوهامها وحقائقها بمثل اختلاجاتها في الشعور والتأثير - هو معنى الأدب وأسلوبه

ثم إن الاتساق والخير والحق والجمال - وهي التي تجعل للحياة الإنسانية أسرارها - أمور غير طبيعية في عالم يقوم على الاضطراب والأثرة والنزاع والشهوات؛ فمن ذلك يأتي الشاعر والأديب وذو الفن علاجا من حكمة الحياة للحياة، فيبدعون لتلك الصفات الإنسانية الجميلة عالمها الذي تكون طبيعية فيه، وهو عالم أركانه الاتساق في المعاني التي يجري فيها؛ والجمال في التعبير الذي يتأدى به؛ والحق في الفكر الذي يقوم عليه؛ والخير في الغرض الذي يساق له؛ ويكون في الأدب من النقص والكمال بحسب ما يجتمع له من هذه الأربعة، ولا معيار أدق منها إن ذهبت تعتبره بالنظر والرأي؛ ففي عمل الأديب تخرج الحقيقة مضافا إليها الفن، ويجيء التعبير مزيدا فيه الجمال، وتتمثل الطبيعة الجامدة خارجة من نفس حية، ويظهر الكلام وفيه رقة حياة القلب وحرارتها وشعورها وانتظامها ودقها الموسيقي؛ وتلبس الشهوات الإنسانية شكلها المهذب لتكون يسبب من تقرير المثل الأعلى، الذي هو السر في ثورة الخالد من الإنسان على الفاني، والذي هو الغاية الأخيرة من الأدب والفن معا؛ وبهذا يهب لك الأدب تلك القوة الغامضة، التي تتسع بك حتى تشعر بالدنيا وأحداثها مارة من خلال نفسك، وتحس الأشياء كأنها انتقلت إلى ذاتك من ذواتها. وذلك سر الأديب العبقري؛ فانه لا يرى الرأي بالإعتقاب والاجتهاد كما يراه الناس، وإنما يحس به؛ فلا يقع له رأيه بالفكر، بل يلهمه إلهاما؛ وليس يؤاتيه الإلهام إلا من كون الأشياء تمر فيه بمعانيها وتعبره كما تعبر السفن النهر، فيحس أثرها فيه فيلهم ما يلهم، ويحسبه الناس نافذا بفكره من خلال الكون، على حين أن حقائق الكون هي النافذة من خلاله

ولو أردت أن تعرف الأديب من هو، لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط؛ ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها؛ إذ كانت فيه مع خاصية الإنسان خاصية الكون الشامل. فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضا منها، وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حد له، والاتساع الذي كل آخر فيه لشيء، أول فيه لشيء

وهو إنسان يدله الجمال على نفسه ليدل غيره عليه، وبذلك زيد على معناه معنى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره؛ فأساس عمله دائما أن يزيد على كل فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني. وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة كأنما أوجدتهم الحكمة لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة؛ وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه

ومشاركة العلماء للأدباء توجب أن يتميز الأديب بالأسلوب البياني، إذ هو كالطابع على العمل الفني، وكالشهادة من الحياة المعنوية لهذا الإنسان الموهوب الذي جاءت من طريقه، ثم لأن الأسلوب هو تخصيص لنوع من الذوق وطريقة من الإدراك، كأن الجمال يقول بالأسلوب: إن هذا هو عمل فلان

وفصل ما بين العالم والأديب، أن العالم فكرة، ولكن الأديب فكرة وأسلوبها؛ فالعلماء هم أعمال متصلة متشابهة يشار إليهم جملة واحدة، على حين يقال في كل أديب عبقري: هذا هو، هذا وحده. وعلم الأديب هو النفس الإنسانية بأسرارها المتجهة إلى الطبيعية، والطبيعية بأسرارها المتجهة إلى النفس، ولذلك فموضع الأديب من الحياة موضع فكرة حدودها من كل نواحيها الأسرار

وإذا رأى الناس هذه الإنسانية تركيبا تاما قائما بحقائقه وأوصافه، فالأديب العبقري لا يراها إلا أجزاء، كأنما هو يشهد خلقها وتركيبها! وكأنما أمرها في (معمله)، أو كأن الله - سبحانه - دعاه ليرى فيها رأيه. . . . وبذلك يجيء النابغ من أدب العباقرة وبعضه كالمقترحات لتجميل الدنيا وتهذيب الإنسانية، وبعضه كالموافقة وإقرار الحكمة، وأساسه على كل هذه الأحوال النقد ثم النقد، ولا شيء غير النقد، كأن القوة الأزلية تقول لهذا الملهم: أنت كلمتي، فقل كلمتك. . . .

وترى الجمال حيث أصبته شيئا واحدا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس؛ وهاهنا يتأله الأدب، فهو خالق الجمال في الذهن، والممكن للأسباب المعينة على إدراكه وتبين صفاته ومعانيه، وهو الذي يقدر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولته إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني

وإذا كان الأمر في الأدب على ذلك، فباظطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دربة لاصلاحها وإقامتها، لا لأفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة؛ وباظطرار أن يكون الأديب مكلفا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات؛ ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائما إلى فوق!

وإنما يكلف الأديب ذلك لأنه مستبصر من خصائصه التمييز وتقدم النظر وتسقط الإلهام، ولأن الأصل في عمله الفني ألا يبحث في الشيء نفسه، ولكن في البديع منه؛ وألا ينظر إلى وجوده، بل إلى سره، ولا يعنى بتركيبه، بل بالجمال في تركيبه، ولأن مادة عمله أحوال الناس، وأخلاقهم، وألوان معايشهم، وأحلامهم، ومذاهب أخيلتهم وأفكارهم في معنى الفن، وتفاوت إحساسهم به، وأسباب مغاويهم ومراشدهم، يسدد على كل ذلك رأيه، ويجيل فيه نظره، ويخلطه في نفسه، وينفذه من حواسه، كأنما له في السرائر القبض والبسط، وكأنه ولي الحكم على الجزء الخفي في الإنسان، يقوم على سياسته وتدبيره، ويهديه إلى المثل الأعلى. وهل يخلق العبقري إلا كالبرهان من الله لعباده على أن فيهم من يقدر على الذي هو أكمل والذي هو أبدع، حتى لا ييأس العقل الإنساني ولا ينخذل فيستمر دائبا في طلب الكمال والإبداع اللذين لا نهاية لهما؟

فالأديب يشرف على هذه الدنيا من بصيرته، فإذا وقائع الحياة في حذو واحد من النزاع والتناقض؛ وإذا هي دائبة في محق الشخصية الإنسانية، تاركة كل حي من الناس كأنه شخص قائم من عمله وحوادثه وأسباب عيشه؛ فإذا تلجلج ذلك في نفس الأديب اتجهت هذه النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامت حارسة على ما ضيع الناس، وسخرت في ذلك تسخيرا لا تملك معه أن تأبى منه ولا يستوي لها أن تغمض فيه، ونقلت الإنسانية كلها ووضعت على مجاز طريقها أين توجهت فتأكد الأمر فيها، ووصل بها، وعلمت أنها من خالصة الله، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين؛ وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يختلف في لذته؛ وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها؛ وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها. فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين، كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهي، والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل، والدين يوجه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه، وذلك وحي الله إلى الملك إلى نبي مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرةإلى إنسان مختار

فان لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته. .

ولا يخدعنك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتي في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلل فيهان ويتملأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فان هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي، ليكونوا مثلا وسلفا وعبرة؛ وكثيرا ما تكون الموعظة برذائلهم أقوى وأشد تأثيرا مما هي في الفضائل؛ بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفا طاهرا؛ ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله. ولهذه الحقيقة القوية في أثره - حقيقة الأمر بالنهي - يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها؛ فينتهي الراهب التقي في القصة ملحدا فاجرا، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلا مجنونا جنون الدم؛ إلى الكثير مما يجري في هذا النسق، كما تراه لأناطول فرانس، وشكسبير وغيرهما، وما كان ذلك عن غفلة منهم ولا شر، ولكنه أسلوب من الفن، يقابله أسلوب من الخلق، ليبدع أسلوبا من التأثير. وكل ذلك شاذ معدود ينبغي أن ينحصر ولا يتعدى، لأنه وصف لأحوال دقيقة طارئة على النفس، لا تعبير عن حقائق ثابتة مستقرة فيها

والشرط في العبقري الذي تلك صفته وذلك أدبه، أن يعلو بالرذيلة. . . في أسلوبه ومعانيهن آخذا بغاية الصنعة، متناهيا في حسن العبارة؛ حتى يصبح وكأن الرذائل هي اختارت منه مفسرها العبقري الشاذ الذي يكون في سمو فنه البياني هو وحده، الطرف المقابل لسمو العبارة عن الفضيلة؛ فيصنع الإلهام في هذا وفي هذا صنعه الفني بطريقة بديعة التأثير، أصلها في أديب الفضيلة ما يريده ويجاهد فيه، وفي أديب الرذيلة ما يقوده ويندفع إليه؛ كأن منهما إنسانا صار ملكا يكتب، وإنسانا عاد حيوانا يكتب. . .

وإذا أنت ميلت بين رذيلة الأديب العبقري في فنه، ورذيلة الأديب الفسل الذي يتشبه به - في التأليف والرأي والمتابعة والمذهب - رأيت الواحدة من الأخرى كبكاء الرجل الشاعر من بكاء الرجل الغليظ الجلف: هذا دموعه ألمه، وذاك دموعه ألمه وشعره. وفي كتابه هذه الطبقة من العبقريين خاصة يتحقق لك أن الأسلوب هو أساس الفن الأدبي، وأن اللذة به هي علامة الحياة فيه، إذ لا ترى غير قطعة أدبية فنية، شاهدها من نفسها على أنها بأسلوبها ليست في الحقيقة إلا نكتة نفسية لاهتياج البواعث في نفوس قرائها، وأنها على ذلك هي أيضا مسئلة من مسائل الإنسانية مطروحة للنظر والحل، بما فيها من جمال الفن، ودقائق التحليل

واللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة فيجيء موضوعا على ذلك فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفا ومضيعة؛ فان اللذة به آتية من جمال أسلوبه وبلاغة معانيه وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس، وهي الأصل في جمال الأسلوب؛ ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها. أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة؛ وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية، بل أدب فئة بعينها وأحوالها؛ فان أديب صناعته أو أديب جماعته، غير أديب قومه وأديب عصره: أحدهما إلى حد محدود من الحياة، والآخر عمل جامع مستمر متفنن، لأن عمله الأدبي هو وجوده، وكل شيء في قومه لا يبرح يقول له: اكتب. . .

ومن الأصول الاجتماعية التي لا تتخلف، أنه إذا كانت الدولة للشعب كان الأدب أدب الشعب في حياته وأفكاره ومطامحه وألوان عيشه، وزخر الأدب بذلك وتنوع وافتن وبني على الحياة الاجتماعية؛ فان كانت الدولة لغير الشعب، كان الأدب أدب الحاكمين وبني على النفاق والمداهنة والمبالغة الصناعية والكذب والتدليس، ونضب الأدب من ذلك وقل وتكرر من صورة واحدة؛ وفي الأولى يتسع الأديب من الإحساس بالحياة وفنونها وأسرارها في كل من حوله إلى الإحساس بالكون ومجاليه وأسراره في كل ما حوله. أما الثانية فلا يحس فيها إلا أحوال نفسه وخليطه، فيصبح أدبه أشبه بمسافة محدودة من الكون الواسع، لا يزال يذهب فيها ويجيء حتى يمل ذهابه ومجيئه

والعجب الذي لم يتنبه له أحد إلى اليوم من كل من درسوا الأدب العربي قديما وحديثا، أنك لا تجد تقرير المعنى الفلسفي الاجتماعي للأدب في أسمى معانيه إلا في اللغة العربية وحدها، ولم يغفل عنه مع ذلك إلا أهل هذه اللغة وحدهم!

فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة؛ ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض. . .

وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميا، ويدفعها إلى المعالي دفعا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهه بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم، ويملأ سرائرها يقينا ونفوسها حزما وأبصارها نظرا وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية. . .

. . . إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار - وجدت القرآن الحكيم قد وضع الأصل الحي في ذلك كله. وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لن تتغير؛ ومع ذلك كله لم يتنبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينا فقط، وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق؛ كأنه ليس منهم إلا بقايا تاريخ محتضر بالعلل القاتلة، ذاهب إلى الفناء الحتم!

والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه، لا يستخرج منه الأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة

ولا يستخرج منه للأديب إلا تعريف واحد وهو هذا: إن الأديب هو من كان لأمته وللغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ.

(طنطا)