مجلة الرسالة/العدد 110/عاقبة سليمة

مجلة الرسالة/العدد 110/عاقبة سليمة

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 08 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

لم يتفق الناس إلى الآن على وسيلة يدفع المرء بها عنه ثقيلا يتصدى له، ويلح عليه بما لا يسعه أن يجيبه إليه، فالأمر متروك إلى صدق الروية، وسرعة الخاطر، وحسن البديهة، ولكل موقف ما يقتضيه، ويدفع إليه ويغري به، والذي يلهمه الواحد في موقف لا يلهمه واحد آخر في الموقف عينه؛ فإذا بدا لي أو لك ما لجأ إليه (حامد) غريبا أو شاذا أو غير لائق، فلا تلمه ولا تنع ذلك عليه، فان عذره أنه لم يخطر له سواه، وأن الموقف كان يتطلب السرعة واتقاء الجدل، فقد كان - كما لا تعلم - في قهوة (الحمام) - بفتح الحاء - وكانت معه (فريدة) (وهي بنت عمه، وكان بينهما من الود أكبر مما يكون في العادة بين ذوي القربى؛ وكانت تنطوي له على حب هادئ، وتحس - بفطرتها الذكية - أنه يصبو إليها، ولكنها كانت تراه لا يصارحها بشيء ولا يبثها أمرا، ولا يدع لفظا أو عملا يشي بهواه هذا، فجنحت إلى الشك، ثم يئست. ولما تقدم أحد أغنياء الريف يخطبها، أغرت أباها بالتلكؤ، لعل حامدا يتحرك، ولكنه لم يفعل. فقالت لنفسها إذا لم أتزوج من أحب، فانه لا يبقى أمامي إلا زواج المال والوجاهة. . . وهكذا حدث، أعني أنه لم يحدث، وإنما احتفل بقبول هذا الوجيه الريفي، وبتقديم (الشبكة) إلى عروسه المستقبلة، على أن يكون العقد ليلة الجلوة

ومضت أيام، والتقى حامد بها خارجة من متجر كبير، فخفت إليه وهو يهم بركوب سيارته وسألته:

(لماذا هذه الجفوة؟)

فضحك وقال: (الجفوة؟ إنما أفسح لمن هو أحق مني)

فتلفتت ثم قالت: (سأصرف سيارتي وأركب معك، فهل تقبلني؟)

قال: (ليس لي خيار، أنك كهذا الهواء، لا غنى عنه)

قالت: (أشكرك) وصعدت إلى جانبه وأشارت إلى سائقها أن ينصرف. وسألها حامد:

(إلى أين بنا؟)

قالت: (إلى مكان فيه هواء، وطعام، فإني جائعة وحرى) فمضى بها إلى قهوة الحمام على النيل؛ فأكلا شيئا وشرب هو قدحا من البيرة - أو الجعة كما تسمى - وقالت له على الطعام (لماذا لم تهنئني؟)

قال: (أهنئك من أعماق قلبي، ولكن بأي شيء؟)

قالت: (بخطيبي - ثم إنك لم تحضر - لماذا؟)

قال: (آه صحيح، مبروك! لقد سمعت أنه غني جدا، ووجيه في بلده)

قالت: (نعم، إن غناه مضاف إلى غناي خليق أن يساعدني على ما يميل إليه طبعي من البذخ والترف. صحيح، فإني لا أطيق الفقر، ولا أستطيع أن أحيا حياة رقيقة الحال)

قال: (أعرف ذلك - أو أنا على الأصح قدرته)

فحدقت في وجهه فقال: (نعم، لقد انتهى كل شيء الآن فلا ضير من الصراحة، ومن الممكن أن أكاشفك بالحقيقة. . .)

فقاطعته وقالت: (هل تعني أنك. . . .)

ولم تتمها، فقال: (نعم، قدرت أن لا أمل لي، فأن عمي غني وأنا فقير، وقد عطفه علي أني ابن أخيه)

فقالت: (ولكنك لست بفقير!)

قال: (أعني نسبيا. . كل ما أكسب بعد الجهد والعناء ستون جنيها في الشهر. وما خير في ستين لمن تنفق وحدها - وهي فتاة في بيت أبيها - أكثر من هذا القدر؟)

فلم تقل شيئا، وفتر الحديث بعد ذلك، وصار متقطعا، وإن كان حامد لم يقصر في توجيهه إلى كل ناحية تخطر بالبال. ثم قاما، وإنهما ليتخطيان باب القهوة وإذا بفريدة تشد على ذراع حامد وتقول بصوت يكاد يكون همسا: (حامد! هذا هو!)

فتلفت وهو يسأل: (من؟) ولكنها ذهبت تعدو إلى السيارة وفتحت الباب الخلفي وأغلقته وراءها، وانطرحت على أرضها - لا مقعدها - فأهمل حامد السؤال والجواب، ودخل سيارته وأدر المحرك، ولم يفته أن يحكم إيصاد الأبواب حتى لا يفتحها أحد من الخارج، وأسدل الستائر الخلفية فاستحال أن يرى أحد فريدة وهي راقدة. ولم يكن حامد يعرف ممن تجري ولا كان يدري ما يخفيها ويدفعها إلى التخفي، وإنما كان يدري أنها تريد ذلك، فعليه أن يكون عونا لها ومد يده إلى ناقل السرعة، يريد أن يضعه في المكان الأول، وإذا برجل ضخم هائل الأنحاء، ولكنه أنيق الثياب محبوكها بقول له:

(لحظة! لقد رأيت فتاة تدخل هذه السيارة، فافتح الباب من فضلك لتخرج)

فابتسم حامد وقال: (رأيت فتاة تدخل في هذه السيارة؟ أواثق أنت؟) ويلتفت وراءه ليطمئن

فقال الرجل بلهجة جافية: (أقول لك أفتح الباب)

فقال حامد: (معذرة، ولكنك مخطئ. . . . إني لست سائق سيارتك)

فاحتد الرجل وصاح به: (إنها. . . إنها. . . ألا تنوي أن تفتح؟)

وعالج الباب، ولكنه كان موصدا من الداخل، فأعياه فتحه، فارتد إلى نافذة حامد وقال بصوت اجتمع له الناس:

(افتح. . . أقول لك افتح. . . أخرج هذه الفتاة)

وصار المحتشدون على الرصيف جمعا حافلا، وأكثرهم من العامة والنوبيين، والصبيان، وسائقي السيارات المختلفة، وعلت أصواتهم بالنكات والضحك، فزاد الرجل حماقة، وجعل يدق الباب بجمع يده، وتهور فوضع قدمه على سلم السيارة وهم أن يدخل رأسه من نافذتها لينظر، فلم يبق مفر من عمل يعمله حامد ليدفعه عنه ويتخلص منه؛ ولو غيره في مكانه لكان الأرجح أن يلكمه، ولكن حامد لم ير أن يتقي شرا بشر، واكتفى بأن يطير له طربوشه عن رأسه، فطار عقله وراءه، وارتد عن السيارة لينقذه من التراب البليل - أو الوحل - وسر الناس هذا المنظر فضحكوا، وقهقهوا، واغتنمها الصبيان فرصة فاقبلوا على الطربوش يدفعونه بأرجلهم كأنه كرة ويصيحون ويصخبون، والرجل يسبهم ويلعنهم ويحاول أن يدرك واحدا منهم، ولكنه ثقيل وهم خفاف، فكف، وعاد إليه الرشد مع التعب، ونظر فإذا السيارة قد غابت!

وقالت فريدة لحامد في بيتها عصر يوم:

(هل تعرف لماذا دعاك عمك؟)

قال: (لا)

قالت: (ليسألك عما حصل في قهوة الحمام، وعلى بابها)

قال: (من أخبره؟ أنت؟) قالت: (بل هو)

قال: (هو؟)

قالت: (نعم، ألا تعرفه؟ الخطيب! واتهمني بالسكر أيضا)

قال: (اتهمك أنت؟ ولكنك لم تذوقي شرابا سوى الماء. أنا الذي شربت بيرة)

قالت: (ولا أنت - فاهم؟)

قال مستغربا: (ولا أنا؟ ولكني شربت بيرة - ولم لا أشرب؟ وماذا يدعوني أن أقول غير الحق؟)

فهزت كتفيها وقالت: (كما تشاء! ولكني أنذرك إذا اعترفت)

فسألها متعجبا: (تنذرينني؟ لست فاهما؟)

قالت: (يا صاحبي، لا أستطيع أن أتزوج سكيرا - أنا هكذا - من الطراز القديم المحافظ)

فانتفض واقفا وصاح: (ماذا تقولين؟)

قالت بضحك: (أليس كلامي مفهوما؟)

قال: (ولكنك مخطوبة. . . .؟)

قالت: (كنت مخطوبة. . . أما بعد أن كشفت لي عن حبك المكتوم، فقد اغتنمت الفرصة وقذفت بالشبكة في وجهه)

قال: (ولكني فقير. . . .)

قالت: (وأنا أحب الفقر. . . ليس أمتع منه، لا تخف أن أجيء إليك بغناي الثقيل المنفر. . . والآن ألا تقبلني؟)

فدنا منها وهو يقول: (لم ألثم شفتيك منذ. . . .)

فقالت: (منذ يناير سنة 1927. . . دونت ذلك في مذكراتي. . . (اليوم لثم ثفتي. . . . . .)

إبراهيم عبد القادر المازني