مجلة الرسالة/العدد 111/الشباب
مجلة الرسالة/العدد 111/الشباب
للأستاذ عبد الرحمن شكري
مقدمة
مستقبل الإنسانية رهن بطموح الشباب إلى المثل العليا وعزوفه عن حقيرات الأمور وإبائه الضيم للناس ولنفسه، وبألا يقنع من الحياة بما يرى، وبأن يحاول أن يبلغ من جليلات أمورها البعيد الداني إلى قلبه ونفسه، وبأن يحاول أن يقهر طاغوت الأمور وجبروتها، وأن يستنقذ الدهر من عبث العابثين الذين جعلوا الحياة مهزلة رخيصة ومأساة وضيعة
الناظم
إن الشباب حديقة الأزمان ... عَطِر الروائح ناصع الألوان
مثل الربيع إذا جلوت بسحره ... نَوْرَ الرُّبَى وأطايب البستان
روحٌ من الفردوس يُثمِل نَشْرُه ... تغدو الحياة به رياض جِنَان
ما راعه حكم الحِمَام وصَوْلُه ... إن الشباب من الخلود لَدَاني
لا اليأس يضنيه ولا جزع إذا ... كثر العثار وزلت القدمان
ينسى الذي يمضي لينشد مقبلاً ... مستأنفاً للعيش بالنسيان
ولو أن رفضا للقضاء يذيقه ... كأْساً تذيب القلب من ذيفان
والشيب بالتسليم يكسر سمها ... حيث الشباب لِغِرَّة الأسوان
وهو المغامر في الحياة بنفسه ... نشوان لا من خمرة النشوان
نشوان من خمر الحياة وكأسها ... تغنيه عن نشوات بنت الحان
فكأنما فك الزمانُ قيودَه ... عنه وما للدهر من سلطان
ويصوغ من أحزانه نغماً له ... فكأنه خلْوٌ من الأحزان
يسمو إلى الغرض البعيد طموحه ... ويرد خطب الدهر بالإيمان
متحصن منه بأمنع معقل ... متكفِّل إيمانه بأمان
ويكاد من فرط الهناءة والهوى ... يدع الثرى ويهم بالطيران
والشيب يرسب في الحضيض تخلفاً ... وترى الشباب كذروة الأكوان
ما أرَّقته ذكرة من أشيب ... جم التردد خَطْوُهُ متداني وله على إدبار دَهْرٍ عزةٌ ... تنأى به عن ذلة وهوان
كِبْرُ الشباب ولا اعتداد مُسَوَّدٍ ... بالجاه والأجناد والأعوان
إن كان صعلوكاً فليس بخانع ... فكأنه ذو التاج والإيوان
إن العزيز هو العزيز على الصِّبى ... والشيب مهما عز ذل جَنَان
ذل الجَنَان لوهن جثمان ولا ... ذل كذل الوهن في الأبدان
ورث المراح ذخيرةً لمبذر ... خال الحياة رخيصة الأثمان
لَذَّاتُه دَيْنٌ يؤديه إذا ... حل المشيب وهد من جثمان
تتعادل اللذات في ريعانه ... ولواعج للشيب في ميزان
عهد الصراحة والمروءة والندى ... وتَألُّفِ الخلان بالخلان
عهد المحبة والأخاء وربما ... تُلْفِيها في القلب يمتزجان
عهد إذا طلب الكرى لم يُعْيِه ... وكرى المشيب مؤرَّق الأحزان
عهد الصِّبى عهد المنى، فإذا مضى ... لم يبق الأمُرُّ سُؤْرِ دنان
وتكاد ذكراه إذا فات الصبى ... تحيي الصبى وترد غرب زمان
أطماعه عُلْوِيَّةٌ، أحلامه ... ذهبية الآمال كالعقيان
عهد الصيال ولا صيال لأشيب ... هاب الحياة وصولة العدوان
والخطب أن يَهْوِي المشيب بصائل ... ما كان يخشى جولة الحدثان
حتى تراه بالحياة مُرَوَّعاً ... قلق الضلوع مؤرَّق الأجفان
والخوف طبع في المشيب وقلما ... تلقى الشباب على غرار جبان
ولربما جمح الشباب بِسادر ... عَبَدَ الحياة عبادة الشيطان
ولربما عبد الحياة أخو النهى ... كعبادةٍ لله والأوطان
قال المشيب ورُبَّ قولة صامت ... تعظ المصيخ له بغير لسان
ما سَرَّني أني فطنت وإنني ... والحلم والتبيان في أكفان
ونسيت ما نَشْرُ الجنان وخلدُها ... وذكرت أن العيش مهلة فاني
ولقد علمت الآن ما عهد الصبى ... من بعد جهلي فيه والنسيان
والآن عالجت الحياة كما أرى ... لا ما أريد من البعيد الداني وعددت من سُنَنِ الحياة وحكمها ... ما يفعل الإنسان بالإنسان
في حرصه أو قَسْوِهِ أو رِقِّهِ ... من فتكه بالروح والأبدانِ
وفزعت من ظُلْمِ الحياة وطالما ... ذَلَّلْتُ منها أيَّمَا طغيان
وتلوت في التاريخ آيات الأسى ... مسطورةً بمدامع الأحزان
فعسى الشباب بمقبل من دهره ... يبلو الحياة بعزمة وأماني
ويَسُنُّ للدنيا الوسيعة سُنَّةً ... لا سنة للحرص والحرمان
يستنقذ الأزمان من عبث الورى ... ويُطَهَّر الأحشاء من أضغان
ويُذِل طاغوت الأمور فيحتذي ... شرعُ الحياة شريعةَ الرحمن
ويُحيلُ ظلم العيش عدلاً سائغاً ... يُنسَى به ما كان من عدوان
عبد الرحمن شكري