مجلة الرسالة/العدد 111/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 111/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1935



روض الشقيق في الجزل الرقيق

ديوان المرحوم الأمير نسيب أرسلان 1284 - 1346هـ

للأستاذ محمد بك كرد علي

بيت الأمراء أرسلان في لبنان عريق في النسب والأدب، وأشهرهم في هذا العصر الأمير شكيب أرسلان أحد من انبغتهم الشام من أرباب الأقلام، ويليه في الشهرة الأدبية شقيقاه الأمير عادل والأمير نسيب صاحب هذا الديوان. طبعه في دمشق شقيقه الأمير شكيب وقدم له مقدمة التزم فيها السجع على عادة أهل القرن الماضي، وعلق عليه حواشي وأردفه بترجمة الناظم ونسب العائلة الأرسلانية التي تنتسب إلى الأمير عون المتوفى سنة 13هـ. وكان قد حضر وقعة أجنادين، حضر مع خالد بن الوليد من العراق إلى الشام لنجدة أبي عبيدة بن الجراح، وحضر الأمير مسعود المتوفى سنة 45هـ وقعة اليرموك بألف وخمسمائة من أصحابه، وشهد وقعة قِنَّسرين. وأرومة هذا البيت ترتقي بعد ذلك إلى المنذر بن الملك النعمان الشهير بأبي قابوس ممدوح النابغة الذبياني. وقد فصل الأمير شكيب كل ذلك تفصيلاً وافياً استغرق أكثر من نصف هذا الديوان، وهو في 270 صفحة متوسطة القطع، وترجم لمن ورد ذكرهم من القضاة والعدول وغيرهم ممن شهدوا لهذا النسب، وردّ على بعض المؤرخين الذين أغفلوا لمقاصد حزبية ذكر آل أرسلان في بعض المواضع والمواقع، وقديماً قالوا: الناس مصدّقون بأنسابهم.

سمى الأمير أرسلان ديوان أخيه بروض الشقيق، في الجَزْل الرقيق، وذلك لجمعه بين متانة التركيب، ورقة الشعور؛ وفي لفظة الشقيق من التورية ما لا يخفى. وقد أشار إلى أصحاب الأدب الجديد، وهو من أنصار الأدب القديم بقوله: (لا ينبغي لناشئة العرب أن يعدلوا بهذه الأم العربية البرة أماً، ولا يجوز أن يجعلوا لها من بين اللغات نِداً، بل يجب أن يجعلوها قطب رحى المثافَنة، ويعلموا أنها نعم السند يوم المماتنة. فلا يرتبوا أفكارهم في لغة قبلها، ولا يضلوا في الأبانة عن ذات نفوسهم سبلها، حتى إذا صفت لهم مشارعها، وحنَت عليهم أجارعها، وصارت مَلَكتها جارية مجرى المهج من نفوسهم، نازلة منزلة الأدمغة من رءوسهم، كان لهم أن يستزيدوا من آداب الغرب والشرق ما شاءوا وتطالت إليه عزائمهم، وأن يضموا إلى البلاد العربي القديم طريف البضائع، وأن يضيفوا إلى الإرث العُدُملي الكريم حديث البدائع، مشروطاً في نقلها إلى خزانة العربية، لأجل تمام المقصد واجتناب الهجنة، أن يكون الأسلوب العربي الأصيل ظلها وماءها، وديباجة النطق بالضاد أرضها وسماءها، وأن تكون لغة الكتاب المنزل على أفصح العرب ألفها وياءها. .).

وهاكم نموذجاً من شعر هذا الأمير الشاعر من قصيدة يصف الفقير في ضنكه ويحث الموسر على إعانته، (وهي قصيدة فذة في بابها في وصف الفقر وشدته على المرء واستجلاب الرحمة والتحنان على الفقراء والتحذير من مغبة إرهاقهم):

رأيت سليل الفقر يعمل في الثرى ... مكباً على محراثه يتلهف

يخدُّ أديم الأرض خداً كأنه ... له قِبَل الغبراء ثار مخلف

كأني به نادته للحرب فاغتدى ... يكرُّ عليها بالحديد ويعطف

كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف

كأني به إذ خط في الأرض قبره ... يهمُّ على جثمانه ثم يصدف

به آية الجهد الذي ليس ناهضاً ... بهِ بشر غض البنان مهفهف

جبين بمرفضِّ الصبيب مضمَّخٌ ... وشعر بملتصِّ الغبار مغلف

وجِيد خفوق الأخدعين كأنما ... تبينت من أوداجه الدم ينطف

رثيت لمكروب سحابة يومه ... إذا قرَّ منه معطف ماج معطف

إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تتقصف

كأن أزيز الجوف عند وجيبه ... حسيسُ هشيم والندى يتوكف

يشقق عنه الثوب فالريح قد غدت ... تصافح منه جلده حين تعصف

وأثبت حَمْىُ الشمس في أم رأسه ... نبالاً فراس العظم منها منقف

تبطن منثور الغبار جفونه ... فضرَّج منها مقلة تتحسف

كأن حماة الشوك في ذيل برده ... طراز حواه العبقري المفوَّف

يمدُّ إلى الجبار كفاً تكدحت ... أناملها والله بالعبد أرأف ومنها:

وصفت لك الضراء يا صاحب الغنى ... وهل تعرف الضراء من حيث توصف

هي الفقر ما أدراك ما الفقر إنما ... لهاث الردى منه أخف وألطف

حياة بلا أنس وعيش بلا رضى ... فلا الرغد ميسور ولا العمر ينزف

بكيتك يا خلوَ اليدين بأدمعي ... فأنت صريع النائبات المذفف

يروح كثير المال يسحب ذيله ... وأنت المعِّني يا فقير المكلف

ألست الذي شاد الحصون بعزمه ... وناط نجاد السيف للحرب يزحف

وأجرى سفين البحر في اللج ينثني ... ومَّشى قطار النار في البيد يهذف

وقد ملأ الأنبار للخلق ميرةً ... وحاك لهم موشية تتغضف

بلى إن من هان العسير بكده ... على الأرض مفتول الشوى متقشف

أخو فاقة لم يدخل الطيب رأسه ... ولا مسَّ كفيه القضيب المعقف

أفي الحق أن يشقى الفقير بعيشه ... وذو المال في شر الغواية يسرف

وأن يدنف المثرى بأعقاب بطنه ... غداة خفيف الحاذ بالجوع يدنف

أما في كبود العالمين هوادةٌ ... ولا رحمة عند الشدائد تعطف

وهل فقدت بين الأنام قرابة ... يحثُّ بها منهم عديم ومترف

أرى المرء لا يأسو جراحة مملق ... ولو هزَّ فوْديه النصيح المعنف

أراه إذا ما نَعَّم الرغد جسمه ... غدا قلبه يقسو لديه ويصلف

إليكم بني غبراَء تدمى عيونهم ... وليس لهم إلا المياسير مسعف

يمدون نحو المحسنين أكفهم ... وما يستوي المكفيُّ والمتكفف

سألت عزيز المال حين يغوثهم ... من الرمل تحثو أم من البحر تغرف

ألا إنما الحسنى إليهم فريضةٌ ... وفي ذلك الآيات لا تتحرف

فإن طلبوا الإنصاف قيل سماجة ... ومن لك بالمظلوم لا يتنصف

عليكم بكشف العسر عنهم فإنما ... أخو الضر يمسي ضارياً حين يهجف

فلا ترهقوهم بالشقاوة والطوى ... فيبدو منهم بادر لا يكفكف

فإن لم ينالوا بالهوادة حقهم ... ينالوه يوماً والصوارم ترعف ولا تهملوا حسن الخطاب ولينه ... فإن الخطاب العذب نعم المثقف

لكم عبرة في الغرب من كل فتنة ... تهز الجبال الراسيات وتخسف

فلو كان عيش للمفاليس طيب ... لما قام منهم قائم متطرف

وفي الديوان كسائر الدواوين الشعرية مديح وقصائد في التهنئات، ومقاطع في الغزل والنسيب، وكلها من الشعر الجزْل. رحم الله ناظم عقودها وأمد في حياة ناشرها.

إلى صديقي العلامة الأمير شكيب أرسلان

نعم شقّ عليّ يا أخي أن تلقى دلوك في الدلاء، وأن تكتب مقدمة كتاب (قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث) بهذا اللسان الذي ما عهده فيك من تأدبوا بأدبك، وأكبروا عظمة بيانك. بالأمس كتبت مقدمة (النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي) للأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فمن منا لم يعجب بما كتبت وحبرت، وإن كنت أطلت وتوسعت؟ واليوم تكتب ما تكتب لقواعد التحديث، في فن لست منه ولا أنا في العير ولا في النفير، وجئت تغالي بكتاب ليس فيه من حديثه ولا أسلوبه أسلوب المؤلفين، ولا يستحق هذه العناية والدعاية وهذه الضجة؛ ولكل رأيه واجتهاده

أنا أجلك عن الدخول في هذه المآزق، لأنك في غنية عنها، ولست بحمد الله محتاجاً إلى مصانعة الناس، ولا نضبت أمامك الموضوعات، تحتاج لمعالجتها لتورثك شهرة وحسن ذكر؛ وما أخالك إلا كتبت ما طلب منك في غير وقت نشاطك، وليس لك من القول ما تقول فتبدع على عادتك. ومهما كانت منزلة الكتاب وكاتبه من نفسك، ما أرى لقلمك أن يجري إلا فيما يصلح أن ينسب إلى إحسانه؛ وحملة الأقلام مسؤولون إذا اقتصروا مع المؤلفين والطابعين على مقارضة الثناء، ولم يتعاودوهم بالنقد الصحيح؛ والإفراط في التقريظ شيمة المتأخرين من أهل عصور الانحطاط الأدبي في العرب؛ والنقد المفيد عادةُ نقاد الإفرنج في زماننا. ومن الأمانة للعلم والأدب أن يُدَلّ كل كاتب على مواضيع الخطل من كلامه، إلا أن نغشه ونغش قراءه، فنجسم ما صغر حجمه في العيان، ولا يشول مهما نفخناه في الميزان

وأكتفي الآن بجملة من مقدمتك، وقد بدأتها بقولك: (لا يخفى على أهل الأدب، أن الجمالَ والقسام في العربي (؟) واحد، وأن معنى القاسم هو الجميل، فلا يوجد إذن لتأدية هذا المعنى أحسن من قولنا (الجمال القاسمي) الذي جاء اسماً على مسمى، مع العلم بأن الجمال الحقيقي هو الجمال المعنوي، لا الجمال الصوري، الذي هو جمال زائل؛ فالجمال المعنوي هو الذي ورد به الحديث الشريف: إن الله جميل ويحب الجمال. وعلى هذا يمكنني أن أقول إنه لم يُعط أحد شطر الجمال المعنوي الذي يحبه الله تعالى، ويشغف به عباد الله تعالى، بدرجة المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، الذي كان في هذه الحقبة الأخيرة جمال دمشق، وجمال القطر الشامي بأسره، في غزارة فضله، وسعة علمه، وشفوف حسه، وزكاء نفسه، وكرم أخلاقه، وشرف منازعه، وجمعه بين الشمائل الباهية، والمعارف المتناهية، بحيث أن كل من كان يدخل دمشق، ويتعرف إلى ذاك الحبر الفاضل، والجهبذ الكامل، كان يرى أنه لم يكن فيها إلا تلك الذات البهية، المتحلية بتلك الشمائل السرية، والعلوم العبقرية؛ لكان ذلك كافياً في إظهار مزيتها على سائر البلاد، واثبات أن أحاديث مجدها موصولة الإسناد. . . الخ)

بأبي أنت وأمي يا شكيب! هل هذا بيانك الذي عرفته وعرفه فيك قومك؟ أنا لا أطلب غير حكمك، فلا أحتكم إلا إليك. أهذا كلام ترضاه لنفسك في كتاب يبقى؟ وما هذا القلق في المعاني والمباني؟ ربما أغتفر صدور مثل هذا الصدر من فتى يشدو في الأدب، ولكن من شيخ كتاب العرب لا ثم لا! وحديث السجع أنت عرفت رأيي فيه، ولعلك تذكر أني كنت لفت نظرك إلى ما أسميت به كتاب رحلتك إلى الحجاز: (الارتسامات اللطاف، في خاطر الحاج إلى أسمى مطاف) وقلت لك يومئذ إن القارئ مهما بلغ من ثقوب ذهنه لا يدرك لأول وهلة معنى هذا العنوان المسجوع، إلا بكثير من إجهاد الفكر؛ وهكذا كدت باستحسانك السجع في بعض المقامات والغلو في تقريظ من ترى تقريظه، أن تنسينا حسناتك علينا في كلامك المرسل الكثير، وأنا على ما تعلم من أحرص الناس على تخليده وتأبيده

بحقك، هل رأيت لأحد من بلغاء القرون الأولى سجعاً في شيء من أسماء كتبهم؟ وهذا الجاحظ وابن المقفع، وهذه أسماء كتبهما ورسائلهما، هل وجدت لهما سجعاً تتقزَّز منه كصاحبك أبي إسحاق الصابي الذي أفسد اللغة على علو مكانته في الأدب بما سجع ورصع؟ وأظنك موافقي على رأيي في أن التسجيع أضعف ملكات المؤلفين من عهد ابن العميد إلى زمن أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده الذي قضى بقوة حكومته على استعمال السجع في الصحف والرسائل الرسمية، فعدّ عمله هذا أكبر حسنة منحسانته؛ ولولا عمله ما دخلت اللغة في هذا الأسلوب الممتع الذي نقرؤه اليوم للمنشئين والمؤلفين؛ ونرجو أن تعود به اللغة إلى رونقها السالف من الرشاقة والجزالة، على نحو ما كانت على عهد سهل بن هرون والجاحظ وعمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف الكاتب وابن المقفع وإضرابهم. وما أظنك تنكر عليّ أن رصف أبي حيان التوحيدي في القرن الرابع، وابن خلدون في القرن التاسع، أرفع وأمتع من تعسف الصابي والصاحب بن عباد وأبي بكر الخوارزمي والقاضي الفاضل والعماد الكاتب وابن الأثير إلى آخر أعيان ذاك المذهب المتكلف.

وأظنك موافقي أن في قولك: (وإن كان يجب حذفه (السجع) من هذه اللغة من أجل كونه في طريقة قديمة، ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية، فإن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً) - إن في قولك هذا مغالطة لطيفة، وفي علمك أكرمك الله أن النثر غير الشعر، والكراهة آتية من التزيد والتكلف

لو كنت على مقربة منك ما تركتك تقول في مقدمة الديوان الذي نشرته بأخَرةٍ ودعوته: (روض الشقيق، في الجزل الرقيق) ما قلته في فاتحته: (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً أو في من عرضه على الأنظار، ولا لديوانه حلية أجمل من نشره في الأقطار؛ وخير وصف الحسناء جلاؤها؛ والجواد عينه تُغني عن الفُرار. ولعمري لو وصفته بأزهار الربيع، وأنواع البديع، وشققت في تحليته أصناف الأساجيع، وكان هو في الواقع دون ما أصف لما أغنيته فتيلاً، ولا رفعته عن درجته كثيراً ولا قليلاً؛ كما أني لو قدمته للقراء فريدة معطالاً، لا يرن له حجل ولا سوار، ولا يتلألأ عليه ياقوت ولا نضار، وكان هو في نفسه دراً نظماً، وأمراً عظيماً، وديواناً تتأرج أرجاؤه ندّاً ولطيماً، لما خفي أمره على ذوي الوجدان، ولا تعامى عن سبقه أحد ممن له عينان. .) ولو كنت مكانك لقلت وما باليت: (. . . الذي لا أجد لشعره وصفاً أوفى من عرضه على الأنظار؛ ولو وصفته بأزهار الربيع، وكان هو في الواقع دون ما أصف لما أغنيته فتيلاً؛ ولو قدمته للقراء فريدة معطالاً، وكان هو في نفسه دراً نظيماً، لما خفي أمره. .)

أليس هذا الإيجاز أوقع في النفس، وأجمل في أداء المعنى، وأدعى إلى الأفهام من أسجاع تثقل على الطباع؟ ونحن إنما نكتب لنُفهم، لا لنُعجم ونُبهم. وبعد فمالنا وللتقيد بما قاله بعض المتأخرين في معنى التعلق بأهداب السجع، ولدينا في أقوال المتقدمين والمأثور من كتاباتهم ما يحملنا على تقليدهم في أساليبهم، يوم لا هذا الترصيع والتسجيع، ولا ذاك الضرب المستكره من أنواع البديع

محمد كرد علي