مجلة الرسالة/العدد 111/حول الأوزاعي (ثالثا)

مجلة الرسالة/العدد 111/حول الأوزاعي (ثالثا)

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 08 - 1935



للأستاذ أمين الخولي

. . . ولا مفر لي من أن أعد قراء الرسالة ألا أعود إلى هذا الموضوع بعدها؛ ثم سلام على الأخ السيد السنغافوري، وانتصاحٌ خير انتصاح بنصيحته في أن أعدل منطقي؛ وجزاه الله عن هذه النصيحة خير الجزاء؛ ولعله يعمل معي على هذا الإصلاح الرشيد الذي أبادر عليه، فيدعني أضع بين يديه هذه النقط ليصلحها كما يشاء، وله أن يبعث إلى هذا الإصلاح بأي طريق يؤثره. وربما لا يكون لقراء الرسالة بهذا الإصلاح اهتمام فليجعله - إن كان ذلك - بيننا خاصاً

يا سيدي؛ فسرت في حديث عن الأوزاعي التأثر الروماني، بالتأثر بالثقافة والبيئة الذي لابد من تقديره؛ فكتبت تقول لي إن القانون الروماني الحديث مأخوذ من الفقه الإسلامي؛ وإذ ذاك قلت لك هذا الرأي قديم نشر في مصر ولا يؤثر في قولي؛ فقلت لي إني أكتب ذلك للقراء، لا لك وحدك. والذي نشر في الكتب المطبوعة منذ ربع قرن؟ أليس هو للقراء؟ أم مهمة الرسالة أن تذيع ما في الكتب؟ أم أين منطقي. . . وأقول لك لا يؤثر على قولي ولا يتصل به من قرب، فترى من اللازم أن أجيب عن كل ما كتبت أنت وأبسط للقراء رأيي مدعماً ببراهين لا تنقص - على الأقل - عن براهين مناظري؛ ولكن لم أكن مناظرك في هذا، ولا عرضت له؛ وعنونت كلمتي الثانية أيضاً كما عنونت هذه الثالثة، حول الأوزاعي؟ فلا أنا فتحت البحث ولا أنا أردت الخوض فيه؛ وستعرف آخر الأمر لماذا ذلك؛ فالآن أين منطقي. . وأقول لك وقتي - وقتي أنا - وعملي وواجبي ومصالحي، فتقول لي لماذا يضيق الوقت ذرعاً بالخوض في هذا البحث وحده، فبربك أين منطقي؟. . . وأقول لك حين تسوي بين الأخذ والتأثر أنهما متغايران والثاني منهما قد يكون حاداً قوياً، وهو متاركة ومجانبة واحتياط من المخالطة، فلا يعجبك ذلك. وتحدثني عن سد الذرائع، كأنك تريد أن أخوض معك مناظرة أصولية، ولما نفرغ من المناظرة في تاريخ القانون، التي تجبرني عليها، حين تزعم أن أصل البحث الذي نحن فيه أنه وجد في الفقه الروماني تشابه مع الفقه الإسلامي فهم منه البعض وجود علاقة بين الفقهين، وعلم الله أني أرد العلاقة إلى أبسط من هذا التشابه وذاك الأخذ الذي تحب أن تتكلم فيه، فتجبرني على المناظرة فيما لا أرى القول فيه أو أكون هارباً منك، فأين منطقي. . .؟

وأقول لك إن قانون البيئة والثقافة ينطبق على الإسلام تمام الانطباق، فتقول لي إنك تريد أنه خارق لا ناقض وتفرق لي بينهما، وفي منطقي - المريض - أن الناقض والخارق كلاهما مخالف وأنا أقول إنه موافق، فما التفريق بين الناقض والخارق؛ وأين منطقي. . .

وتقول إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة وفي زمن واحد. فأقول لك نمت وزادت وتغيرت بالزمان والمكان واختلف فيها اختلاف هائل؛ فتقول لي إنما أريد الأصول والحدود والفرائض؛ وهل وجود الأصول هو وجود فهم الأصول والاختلاف فيها، والتطبيق عليها؛ وأين منطقي. . .

وأقول لك إن بعد المرامي القرآنية سبب للاختلاف، فتحتج في الرد على هذا بأمر علي لابن عباس أن يتوخى الجدال بالسنة حرصاً على ألا يخطئوا في فهم القرآن وتأويله، وهو عين ما أقوله من تسبيب الاختلاف، فأين منطقي. . .

وأقول لك عدم صراحة النصوص من أسباب الاختلاف، فتقول السبب الأكبر هو كذا، وهذا عندي هو السبب الأكبر، وهل وجود السبب الأكبر - عندك - ينفي السبب، أو الأسباب الكبيرة، والصغيرة وو. . .، وأين منطقي

وأقول لك اختلف الأدباء في فهم معنى الكذب في القرآن واستعماله فيه، فتقول لي فرق بين رسوم الألفاظ وحدودها المنطقية وبين صرائح مؤدياتها اللغوية، وهل ليست مؤدياتها هذه هي معانيها وما يفهم منها، وهل ليس هذا هو ما يحدد ويقدر حين يراد التفريق الدقيق والفهم المحلل والمحرم، وإلا فما هذه الحدود المنطقية وما تلك المؤديات التي تختلف عند السيد. . . وأين منطقي. . .؟ إن منطقي لم يفهم مطلقاً أن خطبة حجة الوداع يفهمها المسلم اليوم بمثل ما فهمها المسلم سنة عشر من الهجرة دون خلاف، لأن الألفاظ يغيرها الاستعمال، وتوسعها وتضيقها الظروف الحيوية والأدبية وغيرها، وهذا معنى قاله قدماء أدبائنا وقاله أصوليونا حين طلبوا فهم القرآن بمثل ما كانت تفهم العرب وقت نزوله، لا بغير ذلك من المعاني؛ ثم منطقي هذا لم يفهم الكلام في التفريق بين العربية وما تطور من اللغات حتى كاد ينقطع عن أصله الأول قبل مائتي سنة، لأنّا لم نكن بصدد دراسة مميزات العربية، بل بصدد صراحة آيات الأحكام ووضوح مراميها أو وقوع المشترك فيها، لا لبعد المرمى الدقيق الإعجاز فقط

وتقول إن أغلب النصوص الفقهية من السنة، فلا أفهم ذلك، فتحتج عليه بأن السنة مبينة للكتاب، فهل البيان يثبت الأغلبية والأكثرية وهي أمر إحصائي؟ ثم كيف غلبت وهي تابعة لأصل هو الكتاب لا تجئ بما ليس فيه، فكل ما فيها فيه، فما هذه الأغلبية، وأين منطقي. . . أصلح الله شأني وأصلح شأنك إن قبلت مني هذه الدعوة في غير غضب، وإلا فدع نصيبك منها لي كله

وأقول لك تتأثر الأمم بميراث بعضها؛ فتقول لي قد مضى على الرومان قرن وأكثر، ولم يبق من ثقافتهم عين ولا أثر؛ فرحم الله أسلافنا وعوضنا خير العوض في بعيد ماضينا الذي حالت عليه أحوال وتقلبت أزمان؛ ورحم الله منطقي مع هذا التراث، ما دام قرن أو أكثر لا يدع عيناً ولا أثراً، وما دامت الحياة في الدنيا جارية على القلع والغرس، بل ليتها جارية عند السيد على ذلك، فإن البرسيم يسمد الأرض عندنا للقطن؛ والغارس في مكان القلع مستفيد من المقلوع عند الفلاحين لا عند منطقي أنا. . .

وإذا رأيت أن الإسلام يؤثر ولا يتأثر، فتلك منك رغبة في إكرامه، لعله لا يحرص عليها، لأنه لا يحب أن يخالف سنن الله التي لا تتبدل

وقلت: (الواجب ألا يعتقد مسلم خلافه هو كذا وكذا) فقلت لك فهذا الاعتقاد أصل من أصول الإسلام لا يصح أن يجري فيه الخلاف إذن، فعجبت من ذلك، وسألتني بأي منطق استنتجت من قولك ذلك، وأقول لك إنه بهذا المنطق المحتاج إلى الإصلاح وقع هذا الكلام في عبارتك ففهمته، ثم كنت ذكرت يا سيدي في هذا المجال أول ما ذكرت: الضلال والزيغ ومحاربة الإسلام فتركت لك ذلك أولاً ثقة بجميل غيرتك؛ وأما الآن فأقول لك: إن هذا الكلام الذي كنت ذكرته عن عجبك من وزارة الأوقاف الإسلامية كيف تقول كذا وكذا في الفقه، ومني كيف أقرر هذه الضلالة وأفسرها؛ هذا الكلام كله هو الذي يجعلني أفهم - ولو لم تقل - أنك ترى هذا أصلاً من أصول الدين يكفر منكره؛ ولا تتأول للمخالف فيه حتى يهون أمره عليك ولا تغضب

وأخيراً أقول للسيد بجرأة المؤمن، وواجب النصح، ولو غضب أو قذف: أولى لي - أنا أولاً - ثم لحضرتك ثانياً، أن تدع المناقشة في تاريخ القانون الروماني لدراسة يحق لها أن تتكلم في هذا أو ترتئي فيه؛ لا لمقال ينشر في سنغافورة بعد خمسة وعشرين عاماً من نشره في مصر؛ وهو كل بضاعتنا وما تدور عليه مناقشتنا. والأمثل لنا أن ندرس فقهنا درساً جيداً، وندرس تاريخه درساً عميقاً؛ ويدرس قوم منا الرومان وتاريخ قانونهم، ثم نلتقي بعد ذلك لنبحث عن الحقيقة، ونتعاون على الوصول إليها، لا لنكفر كل قائل، ونتهم كل متكلم، ونتحدث عن الرومان والإسلام واليونان والعرب والفرنجة والمستشرقين والمبشرين في صفحة وبقطرة مداد واحدة. تلك نصيحتي إليك يا سيدي أكررها جزاء لك على خالص نصحك لي بأن أغير منطقي؛ وإني لعلى أتم استعداد لتغييره لو كان منطقي أنا، لكنما المنطق وحده عقلية إنسانية لا يد لي فيها ولا يد لك بتغييرها. فنبهني أصلحك الله إلى ما أحيد عنه من منطق الإنسانية، ولا تخلق لنا منطقاً خاصاً بنا فننعزل عن الدنيا؛ وكفانا ما كان من عزلة وانقطاع. وهذا الذي بينت هو الذي منعني من الخوض معك في مناقشة العلاقة بين القانونين - الروماني والإسلامي - وهو الذي تجنبته منذ كتبت أول ما كتبت وحين كتبت آخر ما كتبت

وإذا كنت - وحق المنطق وكرامة العقل - لم أغالطك مطلقاً، فإني وحرمة الأخوة الإسلامية لم يدر بخلدي أن أحقرك بل أنا أحقر من ذلك، والحق أجلُّ مني ومنك. والسلام عليك ورحمة الله

أمين الخولي