مجلة الرسالة/العدد 111/دراسات في الأدب الإنكليزي
مجلة الرسالة/العدد 111/دراسات في الأدب الإنكليزي
3 - وليم وردزورث
بقلم جرجيس القسوس
نظرة ونظرية في الأدب
ظهرت الطبعة الأولى من ديوانه سنة 1798 كما بينا سابقاً، أما الطبعة الثانية فقد نشرت سنة 1800 حاويةً مقدمته الشهيرة التي ضمنها نظريته في الأدب عامة وشعره خاصة دون خيفة أو تردد. ولكولردج في الطبعة الأولى من هذه المجموعة ثلاث قصائد. غير أنه أضاف إليها قصيدتين أخريين ظهرتا في الطبعة الثانية. وهذه القصائد الخمس هي (الملاح القديم، والعندليب، - والحبّ). وما كاد الأدباء والكتاب يطلعون على آراء وردزورث في مقدمة ديوانه ويقرأون أشعاره في ديوانه حتى تناولوه بأقلام نارية وألسنة حادة، فسخروا ما شاء الله لهم أن يسخروا بآرائه وأشعاره. ولم يبق ديوانه في شكل واحد بل ظهر في أوضاع شتى، وكان الشكل الأخير الذي ظهر فيه سنة 1845 جامعاً جزأين مع المقدمة ومذيلاً بملحق في (التعابير الشعرية)
أما النظرية التي أودعها المقدمة فتتلخص فيما يلي: -
(على الشاعر أن ينتزع موضوعاته من الحوادث العادية المألوفة، وأن يعبر عنها بلغة سهلة واضحة ليفهمها (الراعي والعالم) على السواء. أي لا تكون خلواً من البلاغة، ولا تهبط إلى درجة الركاكة والفهاهة. وعليه أيضاً أن يلبس الحوادث كساء من الخيال الرائع لكي تظهر وهي عادية مألوفة غير عادية ولا مألوفة، وأن يقف تجاه كل حادث موقف العالم المدقق المحقق، الذي يحلل الأمور تحليلاً علمياً منطقياً، فيبحث عن المسبَّبات ويرجعها إلى أسبابها، محكماً في كل حالة عقله في التحليل وعاطفته في التعبير. أما الشعر فهو الانبعاث الطبيعي للشعور القوي الزاخر؛ وما الشاعر إلا إنسان يخاطب بشراً، إنسان شديد الإحساس والغيرة متضلّع من درس الطبيعة البشرية، تنكشف له نواح في الحياة ومظاهر في الطبيعة تحتجب عن غيره، وهو يعبّر عن موضوعه بلغته ليتغنى بها الجميع. بهذا يمتاز الشاعر من سائر البشر عموماً ومن علماء الطبيعة بعض الامتياز خصوصاً) ولقد نحا وردزورث في انتخاب موضوعات أشعاره منحى إسحاق ملتن ووليم بلايك وروبرت برنز وفراي وغيرهم، غير أنه لم يقتصر على أسلوب واحد في النظم، بل طرق معظم البحور والأوزان الشعرية التي سبقه إليها الشعراء قبله. أما سبكه اللفظي ففي غاية الدقة والبساطة، وتراكيبه خالية من الألفاظ اللاتينية التي يكتظ بها شعر ملتن، ومن قالكية بوب، أو إبهامية بروننج الناجمة عن تطرّفه في الإيجاز. ويندر أن تجد في شعره رجوعاً إلى الأساطير الأولى أو اقتباساً من الأدب (الأصولي) الكلاسيكي أو تقليداً له، ولقد أكثر من دراسة الشعراء الذين سبقوه وخصوصاً شكسبير، وملتن وجوسر وسبنسر وكونز وفراي وتشبع بآرائهم وأساليبهم فنسج على منوالهم في بدء حياته، غير أنه عاد فابتدع له أداة للتعبير خاصة به. أما ميزات شعره فتتلخص فيما يلي:
بساطة الأسلوب وسهولة التعبير، ووضوح المعنى في أغلب الأحيان
انتزاعه موضوعات أشعاره من الطبيعة والحوادث اليومية والأشياء العادية المألوفة. وقد ذكر هاتين الميزتين في الكلام على مقدمة ديوانه
تصوفه:
وهذه إحدى خصائص الحركة الأبتداعية التي كان يمثلها شاعرنا في بلاد الإنكليز أصدق التمثيل. ووردزورث يرى أن الله روحٌ تقطن في جميع مظاهر الكون أو الطبيعة الخارجية من هواء وجبال ورياح وصخور حتى الرعاة والحيوانات. وتظهر لنا هذه الفلسفة جليّة في قصيدته وتعرف عند أهل اللاهوت والصوفية (بشمول الألوهية) أو (وحدة الوجود) (أي أن الله إنما هو القوي والنواميس الطبيعية وأنه حال في كل شيء وليس مستقلاً). على أنه لم يتمسك بهذه العقيدة تمسكاً دينياً ذميماً كما يظن بعضهم، بل اتخذها عقيدة شعرية وقتية دفعته عاطفته وروحه الشعرية إلى إيرادها في سياق الكلام
ولعه بالطفولة والأطفال:
وهذا ظاهر في معظم قصائده مثل (نحن سبعة)، وفي القصائد التي ورد فيها ذكر الطفلة (لوسي). وتتجلى هذه الخاصية بوضوح في قصيدته (خواطر في الخلود من ذكريات الطفولة)؛ ففيها يرى أن الإنسان أقرب ما يكون إلى الله وإلى السماء في أوان الطفولة.
وهو يؤمن بسابق وجود الإنسان وأزليته أي أن الإنسان كان أصلاً في السماء فهجرتها روحه وظهرت في جسد بشري على الأرض. فالإنسان في عهد الطفولة يكون بحكم الطبع قريباً جداً من الزمن الذي قضته روحه في السماء، لهذا يفضل عهد الطفولة عهدي الكهولة والشيخوخة. إلا أنه يحسن بنا أن نرفق بالشاعر فلا نجري عليه الأحكام الجارفة في كل ما نعزوه إليه من العقائد. فهو - كما بينا سابقاً - لم يكن متعصباً لرأي أو لعقيدة واحدة منظمة شأن كبار الفلاسفة أو اللاهوتيين وإنما كان شاعراً يكتب عن عاطفة شديدة، فهو لا يستقر على رأي من الآراء ما دامت العاطفة لا العقل هي الدافع والمحرك له في أغلب منظوماته
الخيال الرائع
يمتاز وردزورث بإلباسه الأشياء الطبيعية المألوفة كساء من الخيال الراقي، وعنده أنه كلما ازداد الشاعر توسعاً وانطلاقاً في عالم الخيال ازداد لذة واستمتاعاً في الحياة. ويختلف عن كولردج باتخاذه عاديات الأشياء ومألوفها مواضيع تصويره وخياله متوخياً أن يبتدع مما هو عاديٌّ ومألوف شيئاً جديداً مبتكراً. فبينا كولردج يتدرج من عالم الروح والخيال إلى عالم المادة والحقيقة ترى وردزورث يشرع من عالم المادة وينتهي عند التصاوير الشائقة والأخيلة الرائعة
غموض معانيه
وهذه الميزة لا تلازم معظم أشعاره وإنما تصدق على البعض منها. وغموضه ناجم عن عجزه في بعض الأحيان عن التميز بين ما هو عادي مألوف وما يظنه غريباً نادراً؛ هذا عدا جنوحه إلى إلباس الأشياء العادية حلة من رائع الخيال مما يوقع القارئ في ارتباك شديد يجعله غير قادر على إدراك المعنى الصحيح وتفهم ما يتوخى الشاعر إفهامه
وعدا هذا يمتاز وردزورث بوصفه الحيوانات والطيور الأهلية منها والبرية. ويؤخذ عليه ندور ورود النكتة في أشعاره، وأن أشعاره لا تلهب الحماسة في نفس القارئ
ولكي يتم لنا البحث في أشعاره لا بد لنا من أن نقول كلمة في قصيدتين كبيرتين من قصائده ألا وهما الفاتحة والنزهة أما (الفاتحة) فهي ترجمة وافية لحياة وردزورث الشعرية، ففيها يبحث عن تطور نفسه الشعري ونمو سليقته منذ عهد الطفولة. في هذه القصيدة ملتقى حاضره وماضيه، وفي هذا الملتقى مبعث لشعوره. إذ أنه كلما ذكر أيام الصبى اللذيذة اختلجت في نفسه عاطفة قوية وتملكه شعور لذيذ لا يتمالك من بعثه شعراً حياً لا أثر للكلفة فيه. وللذاكرة المقام الأول والفضل الأكبر في تصويره أحلام الطفولة وأيام الصبى، إذ لولاها لنضب معين شعوره وإنحبس لسانه عن التعبير عما يجيش في صدره من مشاعر وفي نفسه من خلجات، ووقف قلمه عن وصف الأويقات العذبة الهنيئة التي قضاها تحت كنف أمه الرؤوم: الطبيعة بأبسط معانيها وأجلى مظاهرها. وهذه القصيدة مهداة إلى صديقه الشاعر كولردج، وتقع في عدة أبواب يختص الأول منها بحياة الطفولة، والثاني بحياة المدرسة، والثالث بالسنين التي صرفها في كمبرج، والرابع في حياة لندرة ومؤثراتها، والخامس بزيارته الأولى لفرنسا والألب وإقامته في فرنسا خلال الثورة الفرنسية، غير ذاكر شيئاً عن علاقته بأنيت فالون معشوقته المعهودة
أما (النزهة) ففيها يحلق الشاعر ويسمو في عالم الروحيات إذ هي مجلي تأملاته في الفلسفة والاجتماع وعلم النفس والصوفية، وفيها يطرق شتى الموضوعات العلمية البحتة، كتركيب العقل ونشوئه، وفلسفة العواطف، والتأمل؛ غير أنه يكسوها حلة من الخيال، ويعبر عنها بأبسط التراكيب وأسلس العبارات وأوضحها، هذا إذا ضربنا صفحاً عن جنوحه في بعض الأحيان إلى الغموض في المعنى. (والنزهة) تقع في تسعة أجزاء مقتضبة، كل فصل منها حاو لقسم من أقسام القصة التي يسردها ويجعلها هيكل هذه القصيدة الكبرى
وهو في جميع مباحثه هذه لا يتوخى غير الصدق وإظهار عظمة الخالق. أما مدار بحثه في هذه المواضيع فنفسه، لا لأنه صنع من جبلة غير التي صنع منها سائر البشر، بل لأنه أكثر علماً بنفسه من غيرها من النفوس
ولقد أثارت نظريته هذه وأشعاره جدلاً عنيفاً وبحثاً متواصلاً في البيئات الأدبية، فمن الأدباء من حمل عليه وطعن فيه، ومنهم من انتصر له. ومن الذين انتقدوه فرنسيس جفري وبيرون وهزلت، ومنهم أيضاً صديقه كولردج في فصل من كتابه (تراجم أدبية)، بيد أنه لم يكن هدّاماً في نقده ولا شديد التحامل عليه في تعليقه على آرائه كغيره من النقاد. أما إمرسن الكاتب الأمريكي الشهير فينتصر له، ويعدّ قصيدته (خواطر في الخلود من ذكريات الطفولة) التي تمثل عقيدة شاعرنا الفلسفية ونظريته الأدبية بعض التمثيل، من أروع بل أروع ما خلّفه لنا أدباء القرن التاسع عشر من القصائد. ولقد كان ديوان وردزورث معواناً للفيلسوف الإنكليزي الشهير جون ستوارت مِلْ على تخلصه في ربيع حياته من السويداء التي كانت تلازمه من حين إلى آخر، إذ وجد في قراءة القصائد الفلسفية والدينية منها راحة وعزاء بل خير شفاء له من دائه النفساني
ومؤرخو الأدب الإنكليزي يجعلون السنة التي ظهر فيها ديوان وردزورث لأول مرة، أي سنة 1798، فاتحة العصر الأبتداعي، لأن أشعاره تمثل الحركة الأبتداعية من الناحية الأدبية خير تمثيل. ولكي يتضح لنا معنى هذا القول علينا أن ننظر بعض النظر في خواص هذه الحركة، وخصوصاً الناحية الأدبية منها
(البقية في العدد القادم)
جرجيس القسوس