مجلة الرسالة/العدد 113/من أساطير الإغريق

مجلة الرسالة/العدد 113/من أساطير الإغريق

مجلة الرسالة - العدد 113
من أساطير الإغريق
ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1935



المحسن

(مهداة إلى الأستاذ دريني خشبة)

للأستاذ محمد روحي فيصل

منذ آلاف السنين، بينما الناس في اللهو والضلال كانوا منغمسين، سُمع من جانب السماء صوتٌ هائل كأنه الرعد القاصف قد اهتزت له أطباق الفضاء ومادت منه جوانب الأرض؛ فإذا بميازيب النور تجف على أثر ذلك، والظلام يغمر الدنيا كلها؛ كأنما الشمس الحبيبة - أمُّ الحياة - قد غاضت أشعتها الزاهية وانطفأ معناها الحي، وإذا بالأنهار والينابيع والغدران تجمد وتكف عن السعي، وقد استحال خريرها المؤنس الجميل إلى صمت كئيب موحش كصمت القبور، وإذا بريح صرصر عاتية تهب مجنونة على الأرض فتقتلع الأشجار بأصولها وفروعها وتهيج الغبار، وتخطف المنازل من أماكنها، وإذا بالضواري المروعة تنفر من مكامنها هائجة غاضبة تزأر. . .!!

وريع الناس وجبنوا فما يدرون ماذا دهاهم من الخطوب، ثم أقبل بعضهم إلى بعض يتساءلون: أي ذنب اقترفناه، وأية فريضة لم نقم بها حتى صب علينا الإله العظيم غضبه وويله؟

وكانت قافلة الحياة يومئذ من الشر والضلال في منزلة لم يعرفها التاريخ في أدنى عهوده، تسير على غير هدى وإلى غير غاية في معمعهٍ من الفساد وطريق من الرذيلة، وكان رجال الفن أدق الناس شعوراً وأرهفهم إحساساً. فقال الشاعر: (إني نظمت في مديح الإله قصيدة رائعة منتزعة من النفس؛ لا صادرة عن اللسان، ما احسب أن أحداً من الشعراء سبقني إلى مثلها على كثرة المادحين، أودعت فيه قلبي ودمي، وحرقت لها مخي وكبدي، ثم صغتها في لفظ عذب جميل! فأنا أسبح بحمده ما نطقت، وأنشر روحه أنى حللت ولقد أجثو في محرابه خاشعاً متصدعاً، أتلو آي التمجيد والاجلال، فكيف يغضب مني وينقم علي؟)

وقال الموسيقي: (وأنا أيضاً لحنت أنشودة قوية تحكي هديل الحمام وتغريد العنادل، ورجعتها ترجيع عاشق محزون، ثم قدمتها هدية حقيرة للإله الجبار، فلماذا غضب.؟) وقال النحات: (أما أنا فقد صنعت له تمثالاً عظيماً يجمع إلى معاني الجبروت تهاويل الجمال، وإلى قوة البنية رشاقة القسمات تُرى أيغضب الإله مني وأنا مجسَّده؟)

وانتفض المصور وقال: (أأنا مغضب الإله إذن؟ لقد أخذت زرقة السماء وخضرة الأوراق واحمرار الشفق، ونزعت من الورود ألوانها، والتمست من ذلك كله صورة لألهنا الكبير فما زلت أعمل فيها وأنسقها حتى برزت حية ناطقة في إطار واضح مشرق. . .)

ويضطرب الناس، وتطغي عليهم حيرة جاهلة عمياء؛ تتبينها في الوجوه الواجمة، والنظرات الحائرة، والخطى الثقيلة! ويتداولون الأمر همسا ويلتمسون الخلاص من الخطب ويجمعون رأيهم على الذهاب إلى وادي عبقر، موطن الوحي والإلهام. فراحوا جميعاً إلى حيث يلاقون إلههم الغاضب، يتقدمهم الشاعر ساهم الوجه، تائه البصر، وحمل المصور لوحته وريشته العذراء، وتأبط الموسيقي قيثارته المشدودة الأوتار، وجمع النحات إزميله ومنقاشه وحجره. . .

وفي لمحة خاطفة، طلعت الشمس، وغردت الطيور، واستأنفت الأنهار سعيها، ثم لامست الوادي غيمة كبيرة بيضاء هبط منها الإله الجبار!!

وخر الناس من الخشية سُجداً يلتمسون البركة والضراعة والغفران! وكما يسمع الحالم في النوم سمعوا صوت إلههم يقول:

لقد بعثت فيكم رسولاً كريماً ينشر الرحمة ويعلمكم العطف والتقدير فتجاهلتموه!

بعثته والإخلاص ملء برديه وفيض إهابه فلم تقدروه!

هو خادمكم الأمين يبذل عرق جبينه لصلاح مجتمعكم الواهي وينفق المال الذي بين يديه دون أجر غير أجري؛ لأنه يعطيكم أكثر مما يأخذ منكم، ويبني المستشفيات والملاجئ، ويقيم دوراً للعلم فنسيتموه أو تناسيتموه!

وحق عظمتي، لولا رحمتي التي وسعت كل شيء لجعلت الأرض فوقكم قاعاً صفصفاً. . .

عند ذلك صاح الساجدون كلهم:

ما اسم هذا الرسول الكريم؟

فأجاب الإله الجبار: المحسن

حمص محمد روحي فيصل