مجلة الرسالة/العدد 114/أقطاب الرواية المصرية

مجلة الرسالة/العدد 114/أقطاب الرواية المصرية

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1935



أبو عبد الله القضاعي

فقيه ومؤرخ وسياسي

للأستاذ محمد عبد الله عنان

عنيت منذ أعوام بدراسة طائفة من أقطاب الرواية التاريخية عن مصر الإسلامية ودرس آثارهم، ما دثر منها وما تبقى؛ وكتبت بالفعل عدة فصول عن ابن عبد الحكم والكندي وابن زولاق استقصيت فيها حياتهم وآثارهم؛ ثم تناولت بعد ذلك عدة أخرى من مؤرخي مصر الإسلامية في عصور متأخرة، مثل النويري والمقريزي وابن تغري بردي والسخاوي وابن إياس؛ وقصدي بذلك أن أترجم لمؤرخي مصر الإسلامية كلما سنحت الفرص، وأن أستوعب مصادر التاريخ المصري

والآن نستأنف هذا الدرس، ونخصص هذا الفصل لأستاذ من أساتذة الرواية المصرية، هو أبو عبد الله القضاعي، وهو مؤرخ وفقيه وسياسي معاً، عاش في فترة من أدق الفترات التي جازتها مصر الاسلامية، وشهد الدولة الفاطمية في ذروة القوة والعظمة، ثم شهدها تنحدر سراعاً إلى دور من الانحلال والتفكك يكاد يؤذن بذهابها، وشهد محنة من أشنع المحن التي عانتها مصر الإسلامية، وانتدب أيام المحنة ليكون سفيراً لأمته في طلب العون والغوث؛ وكتب عن مصر الإسلامية وعن حوادث عصره آثاراً هامة، لم تصل للأسف كلها الينا، ولكن ما انتهى إلينا منها على يد المؤرخين المتأخرين يدل على أهميتها وقيمتها

وهو القاضي أبو عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي الشافعي المصري؛ ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري، في عصر الحاكم بأمر الله، ودرس الحديث، والفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه، وبرز في التاريخ والأدب؛ وبدأ حياته العامة بتولي القضاء، ولبث يليه حيناً بالنيابة كلما خلا منصب قاضي القضاة بالوفاة أو العزل، ثم تولى التوقيع (أو العلامة) لأبي القاسم الجرجائي المعروف بالقطع وزير الخليفة الظاهر لاعزاز الله ابن الحاكم بأمر الله، ثم وزير ولده المستنصر بالله من بعده. ولما توفي الوزير أبو القاسم (سنة 436هـ) تقلب القضاعي في عدة وظائف ومهام رسمية؛ وكان المستنصر بالله يقربه ويث بحكمته وحسن تصريفه للأمور؛ وتجول القضاعي ودرس في بغداد ومكة والشام؛ ووقف على أحوال الدول الإسلامية يومئذ، وجرى السياسة في القصور المختلفة، وتبوأ في البلاط المصري ذروة الثقة والنفوذ. ثم جاء ظرف عهد فيه إلى القضاعي بمهمة سياسية دقيقة. ذلك أن الأزمات والفتن الداخلية التي توالت على مصر في عهد المستنصر بالله لبثت تتفاقم حتى انتهت بوقوع الغلاء والقحط؛ ثم كانت الطامة الكبرى بوقوع الوباء في سنة 446 هـ 1053م؛ وعانت مصر يومئذ آلاماً ومحناً مروعة. وتعرف هذه النكبة في تاريخ مصر الإسلامية (بالشدة العظمى). وقد بدأت كالعادة بالغلاء وندرة الأقوات، وكان بين مصر والدولة البيزنطية يومئذ علائق حسنة، فأرسل المستنصر بالله في سنة 446 هـ إلى إمبراطور قسطنطينية، وهو يومئذ قسطنطين السابع، أن يمد يده بالغلال والمؤن؛ وكانت الدولة البيزنطية تواجه يومئذ خطر السلاجقة الذين أشرفوا على حدودها الشرقية وعاثوا في آسا الصغرى؛ وكانت ترى أن تقوي صداقتها وتحالفها مع مصر التي كانت تخشى غزواتها من الجنوب ومن البحر؛ فاستجاب قسطنطين لدعوة المستنصر، وتم الاتفاق على أن ترسل المؤن من قسطنطينية إلى مصر، وأعدت بالفعل لتلك الغاية مقادير وافرة من الغلال تقدرها الرواية الإسلامية بأربعمائة ألف أردب ولكن قسطنطين السابع توفي قبل تنفيذ الاتفاق، وخلفه على عرش قسطنطينية الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لإرسال المؤن إلى مصر شروطاً أباها الستنصر، ومنها أن يمدها بالجند لمحاربة السلاجقة؛ فانقطعت المفاوضات بين الفريقين، وسير المستنصر جيوشه إلى الحدود الشمالية، ونشبت بين الفريقين معارك انتصر فيها المصريون بادئ ذي بدء. ولكن الأسطول البيزنطي غزا مياه الشام، وهزم المصريين في عدة مواقع؛ فكف المستنصر عن متابعة الحرب، وعاد إلى المهادنة والمفاوضة، وأرسل إلى بلاط قسطنطينية سفيراً مختاراً يسعى إلى عقد الصلح وتنظيم العلائق بين الفريقين

وكان ذلك السفير المصري إلى بلاط القياصرة، هو أبو عبد الله القضاعي الذي يحبوه المستنصر بثقته وتقديره. فقصد القضاعي إلى بيزنطية عن طريق الشام؛ وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه السفارة الشهيرة في سنة (446 هـ 1055م) ويقع هذا التاريخ في عصر الإمبراطورة تيودورا التي جلست على العرش سنة 1545م وتوفيت في أغسطس سنة 1075م؛ وعلى هذا فقد كانت سفارة المستنصر إلى الإمبراطورة تيودورا. وهذا ما يذكره ابن ميسر مؤرخ مصر بوضوح في حوادث سنة 447 هـ إذ يقول: (وفيها سير المستنصر، فقبض على جميع ما في كنيسة القمامة؛ وسبب ذلك أن أبا عبد الله القضاعي كان قد توجه من مصر برسالة إلى القسطنطينية، فقدم إليها رسول طغرلبك يلتمس من ملكتها أن يصلي رسوله في جامع قسطنطينية، فأذنت له في ذلك؛ فدخل وصلى بجامعها، وخطب للخليفة القائم؛ فبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر فأخذ ما كان بقمامة؛ وكان هذا من الأسباب الموجبة للفساد بين المصريين والروم) بيد أن هنالك من جهة أخرى ما يدل على أن الجالس على عرش قسطنطينية وقت مقدم القضاعي إليها لم يكن الإمبراطورة تيودورا، وأن الذي استقبل السفير المصري هو خلف تيودورا الإمبراطور ميخائيل السادس (ستراتيو تيكوس) الذي تولى عرش قسطنطينية في أغسطس سنة 1057م؛ فقد نقل المقريزي في كتابه (المقفى) في ترجمة القضاعي ما يأتي: (وقال أبو بكر محمد بن سامع الصنوبري، سمعت القاضي أبا عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي يقول: لما دخلت على ملك الروم اليون، رسولاً من قبل المستنصر بالله، وأحضرت المائدة، فلما رفعت جعلت ألتقط الفتات؛ فأمر الفراش أن يحضر أخرى، ففعل؛ فقال لي الملك أصبت منه وإنك لم تشبع، فقلت أنا والله مستكف؛ فقال لي لم أكلت الفتات؟ فقلت: بلغني مرفوعاً إلى النبي أنه قال: من التقط ما سقط من المائدة برئ من الحمق والفقر؛ فأمر الخازن في الحال بإحضار ألف دينار وإعطائها؛ فقلت صدق رسول الله ، فاستغنيت وبريت من الحمق)؛ وذكر المقريزي في الخطط أيضاً ما يؤيد هذه الرواية. على أننا نستطيع أن نوفق بين الروايتين فنفترض أن القضاعي وصل إلى قسطنطينية في أواخر عهد الإمبراطورة تيودورا؛ واستمر في أداء مهمته بعد وفاتها لدى الإمبراطور ميخائيل السادس؛ ومكث حيناً بقسطنطينية؛ ومما يؤيد طول مكث القضاعي بعاصمة القياصرة أنه عني هنالك بالدرس وجمع المواد التاريخية عن المدينة وخططها. أما مهمة السفير المصري لدى البلاط البيزنطي فلم تحددها الرواية الإسلامية تحديداً واضحاً، ولكنا نستنتج مما قدمنا من الظروف والحوادث أنها كانت تقوم على السعي في إقناع البلاط البيزنطي بالتحالف مع مصر ضد السلاجقة، وإعانة مصر بالأقوات والمؤن، تنفيذاً للعهود التي قطعها قسطنطين السابع للمستنصر وتوفي قبل الوفاء بها

ولكن القضاعي أخفق في مهمته. ذلك أن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة، لأنهم كانوا يومئذ أشد خطراً على الدولة الشرقية من مصر، وآثر القيصرأن يتعاقد مع رسول طغرلبك؛ وبعث القضاعي بذلك إلى المستنصر، فرد المستنصر بالقبض على أحبار قمامة ومصادرة نفائسها، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية كرة أخرى؛ وعاد القضاعي إلى مصر على أثر هذا الفشل، ونستطيع أن نضع تاريخ عودته في سنة 450 هـ (1058م) أعني بعد أن أنفق أكثر من عامين في رحلته. ثم توفي القضاعي بعد ذلك ببضعة أعوام، في 16 ذي القعدة سنة 454

كتب القضاعي عدة مصنفات في الفقه والتاريخ منها كتاب (الشهاب) وكتاب (مناقب الإمام الشافعي وأخباره) وكتاب (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) وكتاب (المختار في ذكر الخطط والآثار) وكتاب (عيون المعارف)، وقد دثر معظم هذه الآثار، ولم يصلنا منها سوى كتاب (الشهاب) و (مسند الشهاب) أو (مسند الصحابة) وهما في الحديث، وكلاهما بمكتبة الأسكوريال بمدريد؛ وانتهى إلينا أيضاً، كتاب (عيون المعارف) وهو على ما يصفه مؤلفه في مقدمته (موجز في ذكر الأنبياء وتاريخ الخلفاء وولايات الملوك والخلفاء إلى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة من الهجرة)، وتوجد من عيون المعارف نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية، ولكنا نرتاب في أنها مختصر لكتاب أكبر ربما كان هو المعروف (بتاريخ القضاعي) وهو الذي يقتبس منه كثير من المؤرخين المتأخرين، والظاهر أيضاً أن (عيون المعارف) و (الأنباء عن الأنبياء وتواريخ الخلفاء) هما اسمان لمؤلف واحد حسبما يبدو من مقدمة (عيون المعارف) المشار أليها

بيد أن أهم آثار القضاعي هو بلا ريب كتابه الشهير في الخطط وهو المسمى: (المختار في ذكر الخطط والآثار)؛ ولم يصلنا هذا الأثر، ولكن انتهت إلينا منه على يد الكتاب والمؤرخين المتأخرين، ولا سيما القلقشندي والمقريزي وابن تغري بردي والسيوطي شذور كثيرة تدل على قيمته وأهميته؛ وقد كان لمؤلف القضاعي في الخطط أهمية خاصة لأنه آخر رواية كتبت عن خطط مصر والقاهرة قبل أن تغير معالمها فترة الشدة والخراب التي نزلت بمصر أيام المستنصر بالله، وقبل أن تبعث بعد ذلك خلقاً جديداً في معظم معالمها وصروحها، وهي حقيقة ينوه بها المقريزي في مقدمة (الخطط) إذ يذكر كتاب القضاعي (المختار) ضمن مصادره ثم يقول: (ومات (أي القضاعي) في سنة سبع وخمسين وأربعمائة قبل سني الشدة فدثرا أكثر ما ذكر ولم يبق إلا يلمع وموضع بقلع) والظاهر مما نقل ألينا من كتاب القضاعي أنه أثر ضخم تناول فيه خطط مصر وآثارها وتاريخها منذ الفتح الإسلامي بإفاضة، وأضاف أليه ما انتهت إليه أحوال القاهرة المعزية حتى منتصف القرن الخامس والظاهر أيضاً أن كتاب (المختار) إنما هو المنعوت (بتاريخ القضاعي) لأن ما نقل إلينا منه من الشذوذ يمتاز بإفاضة واضحة، ولا وجود له في الموجز المسمى (عيون المعارف)

وقد كان القضاعي، كما يبدو من آثاره، مؤرخاً دقيقاً ثقة، يزن روايته ويمحصها، وكانت روايته عن مصر الإسلامية، ولاسيما عن حوادث عصره، مستقى خصباً لكثير من المؤرخين المتأخرين؛ وما زالت هذه الرواية ذائعة تتخذ مكانها بين مصادر التاريخ المصري حتى أواخر القرن التاسع حيث نرى السيوطي ينقل في حوادث فتح مصر عن كتاب (الخطط) للقضاعي مكتوباً بخطه، وفي ذلك ما يؤيد أيضاً أن الكتاب المنعوت (بتاريخ القضاعي) إنما هو كتاب يحتجب عنا هذا الأثر الهام بين مصادر التاريخ المصري، ولاسيما بين مصادر العصر الفاطمي الأول، الذي احتجب عنا معظم الآثار الخاصة به، والتي غدت كالحلقة المفقودة في مصادر تاريخ مصر الإسلامية

(النقل ممنوع)

محمد عبد الله عنان