مجلة الرسالة/العدد 114/مصر وعصبة جنيف

مجلة الرسالة/العدد 114/مصر وعصبة جنيف

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 09 - 1935


تحدث بعض الكتاب لمناسبة الموقف الدقيق الذي تقفه مصر من النزاع الإيطالي الحبشي، عما كانت تجنيه مصر من المزايا لو أنها كانت عضواً في عصبة الأمم، وعما كانت تستطيع أن تؤديه في الظرف الحاضر لصون حقوقها لو أتيح لها أن تبسط وجهة نظرها أمام العصبة؛ وفي رأي هؤلاء أن مصر تخسر كثيراً إذ تحرم في هذه الآونة من رفع صوتها بطريق العصبة، وأن السياسة الإنكليزية هي التي عملت لإسكات صوتها وحالت بينها وبين جنيف.

ولسنا من رأي هؤلاء، ولسنا ممن يحسن الظن بالعصبة ولا ممن يؤمنون بوسائلها ومبادئها وغاياتها؛ ومن رأينا أن مصر لم تخسر شيئاً بابتعادها عن العصبة مهما كانت أسباب هذا الابتعاد.

ويكفي أن نتأمل هذا المنظر الذي تقدمه إلينا عصبة جنيف ونحن نكتبهذه السطور، لنقتنع بأن هذه الهيئة التي تزعم أنها رسول السلام والإخاء والحقوق الإنسانية، إنما هي شبح وستار فقط، تعمل وراءه قوى الاستعمار، فتأتمر وتتجاذب وتمثل مختلف الأدوار التي تمكنها من أعناق الفرائس؛ والفرائس هي الأمم الشرقية التي سلبت أو يراد أن تسلب حرياتها باسم المدنية الأوربية والتهذيب الأوربي.

فإيطاليا والحبشة كلتاهما عضو في عصبة الأمم، وبينهما نزاع أثارته السياسة الإيطالية عن عمد وإصرار سابق، وقد طرح النزاع أمام عصبة جنيف منذ يناير الماضي،، فماذا فعلت العصبة لتطبق نصوص ميثاقها؟ لقد أوصت بالعمل على حسم النزاع بطريق التحكيم، ولكنها ما زالت تصغي إلى وعيد السياسة الإيطالية، وتشهد نياتها وتصريحاتها الواضحة لغزو الحبشة وافتراسها؛ والحبشة تستغيث بالعصبة، والعصبة تسوف وتمد إيطاليا بالوقت اللازم لاستكمال أهبتها، وتفسح كل مجال لما تعرضه دول الاستعمار لاقتسام الحبشة أو فرض نوع من الحماية أو الانتداب عليها كوسيلة لإرضاء إيطاليا وحسم النزاع وتأييد السلام، وإيطاليا خلال ذلك تبرق وترعد وتصرح بأن العصبة إذا حاولت أن تنحرف ضد المطامع الإيطالية أو تنتقص من شرعيتها، فإنها تصفع العصبة وتجري مشيئتها بالعنف والقوة القاهرة

والدول الاستعمارية تحرك اليوم عصبة الأمم، وتوجهها علنا دون خفاء؛ وقد ابتدعت العصبة أو حملت أن تبتدع يوم قيامها نظام الانتداب خدعة غادرة تصفد بها عدداً من الأمم والشعوب التي وقعت في يد الحلفاء غداة النصر، والتي ما زالت ترزح تحت هذا الرياء الشفاف.

ولم نشهد عصبة الأمم تنتصر مرة لدولة شرقية أو أُمة مستضعفة مهما كان في جانبها الحق، ولا سيما إذا كانت هنالك مصلحة أو غاية لدولة من دول الاستعمار، سادة العصبة؛ ولم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من النزاع بين إنكلترا وتركيا على مسألة كردستان، وموقفها من النزاع بين إنكلترا وإيران على مسألة جزائر البحرين، ثم موقفها من مسالة منشوريا وعجزها المطبق عن أن تعمل شيئاً لرد الاعتداء الياباني على الصين؛ بل لم يغب عن الذاكرة بعد موقفها من العراق يوم التحقت بها ويوم اشترطت عليها أفدح الشروط ثمناً لهذا الالتحاق

ولماذا نذهب بعيداً ونقلب صحف العصبة ونحن نشهد موقفها اليوم إزاء النزاع بين إيطاليا والحبشة؟ إن صفة الاعتداء الصارخ هنا تلحق إيطاليا بلا ريب، ومع ذلك فهل استطاعت العصبة أن ترفع صوتها ضد المعتدي؟ وهل استطاعت حتى اليوم أن تفعل شيئاً ولو من الوجهة النظرية لغوث المجني عليه؟ وهو لن تفعل شيئاً بلا ريب حتى يقع المحتوم وتنقض إيطاليا على الفريسة تحاول التهامها، ولن ينفع الفريسة يومئذ إلا ما يتاح لها من وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها.

وبعد، فمن هم السادة في العصبة؟ ومن هم الذين يشرفون على مجلسها ويوجهونه؟ هم أقطاب الاستعمار ومنظموه، وهم المغيرون على حريات الأمم، وهم المستمرئون لاستغلالها وإذلالها واستلاب حقوقها المدنية الأوربية؛ هذه المدنية التي أضحت تلتمس ذريعة للسفك وافتراس الشعوب الآمنة

لقد كان قيام عصبة جنيف مهزلة وخديعة شائنة؛ مهزلة لأنها زعمت في ميثاقها أنها قامت لتحقق ما لم تستطع أن تحققه الأمم والإنسانية جميعاً مدى الأحقاب، أعني منع الحرب وتحقيق العدالة الدولية، وحماية الضعيف من القوى بالوسائل السلمية؛ وخديعة شائنة لأنها تبطن وراء هذه المظاهر الخلابة دستور الاستعمار المنظم والانتهاك المثير لحقوق الأمم باسم الانتداب والمدنية والتهذيب وما إليها.

فما الذي يمكن أن تجنيه مصر من الانتظام في عصبة جنيف؟ وأي ضير عليها إذ تبقى بعيدة عن هذه الهيئة المريبة العاجزة التي يفتضح أمرها اليوم؟ فعلى أولئك الذين يزعمون الغيرة على حقوق مصر - ومصر تعرفهم حق المعرفة - أن يفروا على أنفسهم أمثال هذه الدعاية التي تنم دائماً عما وراءها.