مجلة الرسالة/العدد 116/ملكة الجمال

مجلة الرسالة/العدد 116/ملكة الجمال

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1935


للدكتور عبد الوهاب عزام

للأقلام محن تقضي عليها أن تسف إلى ما لا تود الكتابة فيه، وتكره على أن تخط ما تريد الترفع عنه. وقلمي مكره على الكتابة في هذه الحماقات، مرغم على أن يعنى بهذه الترهات

- 1 -

كنت أحادث جماعة من الأصدقاء، فسارت بنا شجون الحديث إلى أن تكلمنا في المدينة الحاضرة حسنها وقبيحها، وجليلها وسفسافها. قلت: أحسب أن المسيطرين على أخلاق الناس في كثير من مناحي المعيشة الحاضرة جماعة من التجار المفسدين. قال صديق: كيف ذلك؟ قلت: في طبع الإنسان الكلف بالذات، والاستهتار بالشهوات، وقد سار العالم آلاف السنين على هدى التجاريب، وتعليم الأنبياء والحكماء، يزن آلامه ولذاته، ويعدل بين مصالحه وشهواته، ويضع شرائع، ويسن سنناً ليعيش الإنسان على شريعة تعرف وتنكر، وتستحسن وتستقبح، وتقول هذا حلال وهذا حرام، حتى استقامت للإنسان خطة في سياسة نفسه ومعاملة الناس. وصار يجاهد نفسه ليمنعها لذاتها، علما بأن وراء اللذة العاجلة شراً أعظم منها، ويصبر نفسه على ما يكره إيثاراً للعافية في العقبى، واستمساكا بالفضيلة التي سكن إليها، ومكنتها في نفسه سيرة الآباء

قال صديقي: هذا حق فما وراءه؟ قلت: أرى العصر الحاضر مفتوناً كل الفتنة بالأهواء، مستكلباً على الشهوات، قد فتحت له من الملاهي أبواب، ومدت له إلى الغي أسباب؛ فشغلت من الحياة جانباً. هذه الملاهي والمراقص والحانات والمواخير. ورأى كثير من الناس هذه الدور مجلبة ربح عظيم، ووسيلة مال وفير، فأقبلوا عليها إقبالاً، وافتنوا فيها افتناناً، واستعانوا على تزينها وجلب الناس إليها بكل ما أنتجت الحضارة من علم وفن، ولم يدعوا حيلة في الاستهواء إلا اتخذوها، ولا وسيلة إلى تهافت الناس عليها إلا توسلوا بها. امتن كل فيما يعرض، وتؤدي المنافسة والطمع في المال إلى استباحة المحظورات، فينظر الناس أول الأمر ثم يسكنون، ويخدعون أنفسهم فيما يرون، بما تصبو إليه غرائزهم وتغرم به شهواتهم حتى يصير هذا أمراً معروفاً وعملاً مألوفاً. ثم يحدوهم حب الربح والمنافسة إلى أن يثيروا شهوات الناس بأفانين أخرى وهلم جرا، حتى لا يصدهم وازع من فضيلة أو عادة، وعبثاً يحاول القانون أن يصد التيار، أو يقيم الجرف المنهار، وهكذا تقاد الأمم بأذنابها، وتأتم بضلالها. وقس يا صاحبي على هذا أزياء النساء. فتنافس التجار فيها هو الذي يطيلها ويقصرها، ويطلع كل يومين ببدعة تبين عما دق من المرأة وجل، وما ظهر وما بطن. ولست أجد بداً من ذكر الحقيقة (العارية)، وهي أن النساء الخليعات هن القدوة في هذه السبيل، يلبسن ما يلفت النظر إليهن، ويميزهن من غيرهن، فيروق النساء الأخر هذا الزي، والمرأة لا تحب أن تغلب في زينتها وتجملها. فيصير هذا الخروج على السنن سنة مألوفة وطرافة (مودة) معروفة. وما ترى في ألبسة البحر من تغير مستمر غايته أن تبرز المرأة عارية متزينة؛ فهذه سبيله، تبدأ به الخليعات الجريئات فتتهافت عليه الأخريات

ووراء هذه جماعة من تجار الكتاب، والفسقة المفسدين؛ يريدون أن ينالوا رغائبهم بشريعة، ويفسدوا في الأرض على علم فيكذبون على الجمال والفن والحرية ما شاءت مآربهم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويسمون الرذائل بغير أسمائها، فالفسق إعجاب بالجمال، وكل خليعة فنانة، وكل خليع أستاذ، ويتنافس أصحاب المجلات في كتابة ما تحبه النفوس المريضة، وعرض الصور التي يهفو إليها الشبان، لا يبالون في سبيل المال أن تصلح الأمة وأن تفسد، وتعمل التجارة عملها حتى تجد الرجل الحريص على الفضيلة، الداعي إليها إذا ابتلى بمجلة أغضى عن مفاسدها، فصار له رأي في نفسه، وفي غير مجلته، وعمل آخر تجاري في المجلة. وقد عجبت لبعض الكتاب المعروفين بالغيرة على الأخلاق، والتنديد بالخلاعة والمجون، وبدع العصر الحاضر، إذ رأيت المجلة التي يشرف عليها تنشر من الصور والكلام ما لا يلائم آراءه، ويوافق مواعظه

- 2 -

قال صديقي: والشيء بالشيء يذكر، وملكات الجمال ما ترى فيهن؟ لقد سرت البدعة إلينا، قلت استمع: كنت في الصيف الماضي ذاهباً إلى إيران فعرجت على لبنان أياماً. وبينا أنا في ظهور الشوير، رأيت الناس يزدحمون، ويستبقون إلى بعض الفنادق وسمعت أن هذه الجموع وتلك الوفود تتزاحم لتشهد اختيار ملكة الجمال في لبنان. قال رفيق لي: قد سرت العدوى إلى البلاد العربية، فقلت غاضباً: كلا. قال ألست ترى وتسمع؟ قلت لا أكذبك، لست أرى في هذه الأزياء ولا أسمع في هذه الرطانات عروبة، فلا تعد هؤلاء من العرب وقرأت منذ أيام أن ناساً اجتمعوا في حمانا من لبنان لاختيار امرأة يسمونها ملكة الجمال، وأن قنصل مصر ببيروت رأس هذا الجمع فأسفت أن شغل القنصل الفاضل نفسه بهذه السفاسف، وشارك في هذه المخازي. وقرأت عن انتخاب آخر في بكفيا. وحمدت الله، إذ لم أجد من المنتخبات اسماً يدل على عربية أو إسلام

وقرأت من بعد في الجرائد عن حماقات كهذه في الإسكندرية، فرأيت الداعين إليها بين صاحب ملهى يريد أن يجذب الناس إليه، وصاحب جريدة غير عربية يبغي رواج جريدته، وأمثال هذين. وبعد قليل رأيت صورة الملكة وقرأت أحاديث عنها، فعلمت أن فتاة أسمها شارلوت سماها بعض ذوي المآرب ملكة الجمال في مصر، ولقبوها مس إيجبت ورشحوها للذهاب إلى بروكسل لتشارك في مباراة الجمال. قلت شارلوت ليس اسماً مصرياً، ومس إيجبت لا تعرفها مصر، فما اهتمامك بجماعة من الحمقى أرادوا أن يشهروا فتاة، أو يشهروا بها، أو يتملقوا إليها، أو ينالوا مالاً أو لهم مآرب أخرى. ثم تذكرت ما سطرت في أول هذا المقال، تذكرت أن زمام الأخلاق في هذا العصر بأيدي هذه الطغمات وأشباهها، وأن هذا الذي تستنكره اليوم سيصبح إذا سكتنا عليه، عادة تعد المجادلة فيها ضرباً من الأفن. وفكرت أن مس إيجبت هذه ستذهب إلى أوربا باسم مصر، وتشارك في سوق الرقيق هناك، وتبوء مصر بكل ما في ذلك من عار وحماقة. فرأيت أن الأمر جدير بالاهتمام، وأنه إن سكت عنه عقلاء الأمة صار سنة، وظن المفسدون، كما تسول لهم مآربهم، أنها سنة حسنة ينبغي ألا تحرم منها مدينة أو قرية، وقد وفدت على مصر من قبل ملكة الجمال في تركيا فلم يستح بعض الوقحين من طلبة الجامعة أن يقترحوا أن يحتفل بها في نادي الجامعة. من مبلغ عنا هذه الفتاة، أنا لا نعرفها ولا نعرف جمالها ولا ملكها، وأن القحة البليغة أن تذهب إلى أوربا مدعية أن مصر أرسلتها، ومصر بريئة منها وممن يرسلونها. ليت شعري أرضى المصريون: الحكومة والأمة بهذه السبة. هل رضوا أن تنوب عنهم على رغم أنوفهم فتاة تذهب إلى بروكسل زاعمة أن مصر أرسلتها

كنت أحسب أن موقف مصر الحاضر بين دولة مستعبدة، ودولة مهددة سيخرج بطلاً أو بطلة، تهيب بالمصريين ليغسلوا العار، ويحموا الديار، أو نرسل وفداً يدفع عن حقوق مصر عند عصبة الأمم؛ فإذا السفهاء في شغل عما يحيط بهم باختيار امرأة يرسلونها إلى بروكسل!

وقد أجاب أهل دمشق داعي العروبة والكرامة والفضيلة، فاجتمعوا حين سمعوا أن امرأة ستذهب إلى سوق الرقيق باسم سورية، واستنكروا ذلك، وأجمعوا على مطالبة الحكومة بأخذ الطريق على هذه السنة السيئة، فأجابت الحكومة دعوة العقلاء ومنعت اجتماع السفهاء لاختيار ملكة للجمال، وفي ذلك للمصريين وغيرهم أسوة حسنة

سيقول السفهاء: جماعة لا يعرفون الجمال، ولا يقدرونه، ولا يميزون الحسن من القبيح، فهم ساخطون ثائرون. والله يعلم أن الجمال يعبد قلوبنا، ويملك مشاعرنا، وتهفو إليه أفئدتنا حيثما تجلى في السماء أو في الأرض، ولكنا لا نعرف الجمال في الأسواق، يصفق حوله الفساق، ولا نعرف الجمال تسأل فيه الآراء، وتعرض المرأة كما تعرض العجماء

عبد الوهاب عزام