مجلة الرسالة/العدد 117/عبرة الحادثات

مجلة الرسالة/العدد 117/عبرة الحادثات

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1935


للدكتور عبد الوهاب عزام

المدنية الأوربية، على خيراتها وما أجدت على الناس من علمها ورفاهيتها، مدنية مادية دعائمها المعادن والأحجار، يصاغ قلبها من الذهب والحديد وأشباههما، ويغذى بالفحم والنفط وأخواتهما، وتدور بهما دواليب المصانع والمغازل والمناسج. قد استحكمت فيها الآلات، وأتقنت الصناعات حتى أغنت عن الإنسان أدواتها، ونافسه عتادها، فثارت العداوة بين الآلات وصانعيه وعمالها ومالكيها. وقد أوحى ذلك إلى بعض الأمريكيين فاخترعوا إنسانا آليا يخدم خدمة الإنسان ويتحرك حركاته، وهل الإنسان في المصانع إلا آلة سريعة العطب؟

طبع إنسان هذا العصر آليا دائراً لا يألف الاستقرار ولا يعرف السلام، ولا تتمكن في قلبه المحبة، ولا تستقر في سريرته الشفقة. وأستكبلت هذه الآلات على غذائها، وتنافست في أقواتها، وأحس كل أنها القوة لا العدل، والغلبة لا الإنصاف، فنفخوا في الأمم روح العصبية، وغرور العنجهية، وزعم كل قبيل أن أوله خير الأولين، وأنه سيد الحاضرين، وأن بنيه سادة الآتين، وأن الأرض كلها له، وأن الويل لمن جادله. ثم ما شئت من أناشيد مثيرة، وتربية هائجة، وإيقاظ الوحشية في النفوس، وإشعال البغضاء في الأفئدة، حتى صار الناس على رغم العلم والفلسفة وعلى ما قربت بينهم الوسائل الحديثة أميل إلى الحرب والجلاد، وأحب للتخريب والتدمير من أناسي القرون الخالية؛ فبينا تراهم في ظاهر من السلام والوئام، يتغنون بحضارتهم، ويعكفون على دراستهم، ويتكلمون في العدل والحرية والاخوة، إذ تحكهم التجارب قدح الزناد، فإذا النار تحت الرماد؛ تغلب عليهم الطباع الحربية، وتسيطر عليهم الحياة الآلية، فإذا الأمم كلها جنود ومصانع للسلاح والمدمرات، وإذا الأوربي كالذئب الذي لبس جلد الشاة ثم خلعه

ومهما يكن حظ القوم من العدل والنصفة، ونصيبهم من المودة والألفة، فذلك فيما يشجر بينهم من خلاف. فأما أهل الشرق سكان آسيا وأفريقية من الأمم الملونة فليس لهم في العدل حماية، ولا في القانون نصفه، (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل). وما يزال صدى الأحداث يدوي في آذاننا، وحسبك حروب طرابلس والبلقان والريف. فان ساغ الأوربي أن يطمئن إلى عدل أوربا وانصفها، وقوانينها وجماعة أممها، فليس للشرقي أن يسكن إلى ذلك، فهو مال مباح ودم مهدور

وتلك أمة ينفخ قادتها فيها المغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها وورمت أنوفها. ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عاماً حتى دوخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا ولا تسد مطامعنا. ونظروا فإذا في أفريقية دولة واحدة مستقلة حفظ عليها استقلالها من دون أمم أفريقية أنها دولة نصرانية لم يستبيح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها على نصرانيتها أمة سوداء ضعيفة تسكن أرضاً واسعة، صاح زعيمهم هلم إلى الحبشة! فانبرت العقول تخترع الأوهام والتعلات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل. وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حيناً، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حيناً. وسار الشر الحبشة في جيوشه ومفترياته

ويشفق بعض الدول من هذه الغارات ويخاف عقباها فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي. وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطاليا. تهيب مصر بجيشها فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل! وتدعو بينها فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، ولم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح؛ أنفس عزيزة وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها. وتعد للخطوب عدتها: لا ترعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني. ولو ترك لنا من قبل أن نعبئ جيوشنا ونعد سلاحنا لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأني يعز من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:

ودرى من أعزه الدفع عنه ... فيهما أنه العزيز الذليل

هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يجلب لها خيراً ولا شراً - رب عيش أخف منه الحمام!

ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهائهم وقادتهم، أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبر الموعظة وينتفعوا بها. ومهما تنجل عنه السحب المكفهرة، وتتكشف عنه الحادثات المنذرة، فليعملوا برأي واحد ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة حتى لا يقفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى، (إن في ذلك لذكرى)

عبد الوهاب عزام