مجلة الرسالة/العدد 118/الجمال البائس

مجلة الرسالة/العدد 118/الجمال البائس

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1935


3 - الجمال البائس

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال الراوي:

نظرت إليها ونظرت. أما هي، فرنت إلي في سكون، وكانت نظراتها معاتبة طويلة فيها التملق والتوجع، وفيها الانكسار والفتور، وفيها الاسترخاء والدلال

وبينا كان طرفها ساجيا فاترا كأنه ينظر أحلامه، إذ حددته إلي فجأة ونظرت نظرة مدهوش، فبدت عيناها فزعتين ولكن في وجهها مطمئن

ثم لم تكد تفعل حتى ضيقت أجفانها وحدقت النظر متلألئا بمعانيه، فبدت عيناها ضاحكتين ولكن في وجه متألم

ثم ابتسمت بوجهها وعينيها معا، وأتممت بذلك أجمل أساليب المرأة الجميلة المحبوبة في اعتراضها على من تحبه، وجدالها مع فكره، وكسر حجته في كبريائه، وانتزاع الفكرة المستقلة من نفسه

وأما أنا؛ فكان نظري إليها ساكنا متألما يقر أنه عجز عن جواب عينيها، وسيبقى عاجزا عن جواب عينيها. . . .

إن وجهها هو الابتسام وروح الابتسام، وجسمها هو الإغراء وروح الإغراء، وفنها هو الفتنة وروح الفتنة، وهي بهذا كله، هي الحب وروح الحب. غير أن فهمها على حقيقتها في الناس يجعل ابتسامها عداوة من وجهها، وإغراءها جريمة لجسمها، وفنها رذيلة في جمالها، وهي بهذا كله، هي الشقاء وروح الشقاء

أما إني أحب فنعم ونعما، بل أراه حبا فالقا كبدي، وليس يخلو فؤادي أبداً من سوالف حب مضى؛ وأما إني أسترذل في الحب وأمتهن فضيلتي وأنزل بها - فلا وأبدا

إن ذلك الحب هو عندي عمل فني من أعمال النفس، ولكن الفضيلة هي النفس ذاتها؛ والحب أيام جميلة عابرة في زمني، أما الفضيلة فهي زمني كله؛ وذلك الجمال هو قوة من جاذبية الأرض في مدتها القصيرة، ولكن الفضيلة جاذبية السماء في خلودها الأبدي

على أنه لا منافرة بين الحب والفضيلة في رأيي، فان أقوى الحب وأملأه بفلسفة الفرح والحزن لا يكون إلا في النفس الفاضلة المتورعة عن مقارفة الإثم. وههنا يتحول الح إلى ملكة سامية في إدراك معاني الجمال، فيكون الوجه المعشوق مصدر وحي للنفس العاشقة. وبهذا الوحي والاستمداد منه ينزل المحب من المحبوب منزلة من يرتفع بالآدمية إلى الملائكة ليتلقى النور منها فنا بعد فن، والفرح معنى بعد معنى، والحزن السماوي فضيلة بعد فضيلة

فهذا الحب هو طريقة نفسية لاتساع بعض العقول المهيأة للإلهام كي تحيط بأفراح الحياة وأحزانها، فتبدع للدنيا صورة من صور التعبير الجميلة التي تثير أشواق النفس. كأن كل محب وحبيبته من هؤلاء الملهمين، هما صورة جديدة من آدم وحواء، في حالة جديدة من معنى ترك الجنة، لإيجاد الصورة الجديدة من الفرح الأرضي والحزن السماوي

والخطر في الحب ألا يكون فيه خطر. . . . فهو حينئذ نداء الجنس، لا يكون إلا دنيئا ساقطا مبذولا فلا قيمة له ولا وحي فيه، إذ يكون احتيالا من عمل الغريزة جاءت فيه لابسة ثوبها النوراني من شوق الروح لتخدع النفس الأخرى فيتصل بينهما، حتى إذا اتصل بينهما خلعت الغريزة هذا الثوب واستعلنت أنها الغريزة فانحصر الحب في حيوانيته وبطلت أشواقه الخيالية أجمع

قال الراوي: وعرفت الحسناء هذا كله من عرضها نظرة وتلقيها نظرة غيرها، فقالت للأستاذ (ح): أما أن يكون مع أثر الشعر والفكر في الجمال ودعوى الحب أثر الزهد في الجسم الجميل وادعاء الفضيلة - فان بعيدا أن يجتمعا

قال (ح): وأين تبعدينه ويحك عن هذه المنزلة؟ إني لأعرف من هو اعجب من هذا

قالت: وماذا بقي من العجب فتعرفه؟

قال: أعرف رجلا متزوجا أحب أشد الحب وأمضه حتى إستهام وتدله، فكان مع هذا لا يكتب رسالة إلى حبيبته حتى يستأذن فيها زوجته كيلا يعتدي على شيء من حقها. وزوجته كانت أعرف بقلبه وبحب هذا القلب، وهي كانت أعلم أن حبه وسلوانه إنما هما طريقتان في الأخذ والترك بين قلبه وبين المعاني، تارة في سبيل المرأة وجمالها، وتارة من سبيل الطبيعة ومحاسنها

فتنهدت وقالت: يا عجبا! وفي الدنيا مثل هذا الزوج الطاهر، وفي الدنيا مثل هذه الزوجة الكريمة؟ ثم إنها وجمت هنيهة تجتمع في نفسها اجتماع السحابة، ثم استدمعت، ثم أرسلت عينيها تبكي. فبدرت أنا أرفه عنها حتى كفكفت من دمعها، وكأن (ح) قد وخزها في قلبها وخزة أليمة بذكره لها الزوجة، ثم الزوجة الطاهرة، ثم الطاهرة حتى في وسوسة شيطان الغيرة. ارتفعت ثلاث مرات بالزوجة، لترى هذه المسكينة أنها سافلة ثلاث مرات، وكأنه بهذا لم يكلمها بل رسم لها صورتها في عيشها المخزي وقال لها: انظري. . . . .

ويا ما كان أجملها يترقرق الدمع في عينيها الفاتنتين الكحيلتين فيبث منهما حزنا يخيل لمن رآه، أنه من أجلها سيحزن الوجود كله

ليس البكاء من هاتين العينين بكاء عند من يراه إذا كان من العاشقين، بل هو فن الحزن يضع مجالا جديد في فن الحسن. وأكاد أعجب كيف وجد الدمع مكانا بين المعاني الضاحكة في وجهها - لو لم يكن هذا الدمع قد جاء ليظهر على وجهها الفن الآخر من جمال المعاني الباكية

وسألتها: ما الذي خامر قلبك من كلام الأستاذ (ح) فأبكاك، وأنت كما أرى يتألق النور على جدران المكان الذي تحلين به، فيظهر المكان وكأنه يضحك لك؟

فتشككت لحظة ثم قالت: أبك ما تقول أم أنت تتهكم بي؟

قلت: كيف يخطر لك هذا وأنا احترم فيك ثلاث حقائق: الجمال، والحب، والألم الإنساني؟

قالت: لا تثريب عليك، ولكن صور لي ببلاغتك كيف أحببتك وأنت غير متحبب إلي، وكيف جادلت نفسي فيك وداورتها عنك، وكلما عزمت انحل عزمي؟ فهذا ما لا أكاد أعرف كيف وقع، ولكنه وقع، هذه قطرة من الماء الصافي العذب فضع عليها (المكرسكوب) يا سيدي وقل لأي ماذا ترى؟

قلت: إنك تخرجين من السؤال سؤالا. فما الذي خامر قلبك من كلام (ح) فبكيت له؟

قالت: إذن فليست هي قطرة من الماء بل تلك دمعة من دموعي، فضع عليها المكرسكوب يا سيدي

قال الراوي: وكانت حزينة كأنها لم تسكت عن البكاء إلا بوجهها وبقيت روحها تبكي في داخلها. فأراد الأستاذ (ح) أن يستدرك لغلطته الأولى فقال: إنك الآن تسألينه حقا من حقوقك عليه، فكل امرأة يحبها هي عروس قلمه ولها على هذا القلم حق النفقة. . . . . .

فضحكت نوعا ظريفا من الضحك الفاتر كأنما ابتكره ثغرها الجميل لساعة حزنها، ونظرت إلي. فقلت: إن كان الأمر من نفقة العروس على قلم فما أشبه هذا (بلا شيء) جحا

فضحكت أظرف من قبل، وخيل إلي أن ثغرها انطبق بعد افتراره على قبلة أفلتت منه فأمسكها من آخرها. . .

ثم قالت: ما هو (لا شيء) جحا؟

قلت: زعموا أن جحا ذهب يحتطب، وحمل فوق ما يطيق، فبهظه الحمل وبلغ به المشقة، ثم رأى في طريقه رجلا أبله فاستعان به، فقال الرجل: كم تعطيني إذا أنا حملت عنك؟ قال: أعطيك (لا شيء). قال: رضيت

ثم حمل الأبله وانطلق معه حتى بلغ الدار، فقال: أعطيني أجري: قال جحا: لقد أخذته. واختلفا هذا يقول أعطني، وهذا يقول أخذت؛ فلببه الرجل ومضى يرفعه إلى القاضي، وكانت بالقاضي لوثة وعلى وجهه روأة الحمق تخبرك عنه قبل أن يخبرك عن نفسه. فلما سمع الدعوى قال لجحا: أنت في الحبس أو تعطيه (اللا شيء). . .

قال جحا في نفسه: لقد احتجت لعقلي بين هذين الأبلهين؛ ثم أنه أدخل يده في جيبه وأخرجها مطبقة، وقال للرجل: تقدم وافتح يدي. فتقدم وفتحها. قال جحا: ماذا فيها؟ قال الرجل: (لا شيء)

فقال له جحا: خذ (لا شيئك) وامض فقد برئت ذمتي

قالوا: فذهب الرجل يحتج، فقال له القاضي: مه؟ أنت أقررت أنك رأيت في يده (لا شيء) وهو أجرك؛ فخذه ولا تطمع في أزيد من حقك. . .

وضحكت وضحكنا، ثم قالت: أنا راضية أن أكون عروس القلم، فلجر علي القلم نفقتي، وليصور لي كيف أحببت، وكيف آمرت نفسي وجادلتها؟

قلت: لا أتكلم عنك أنت ولا أستطيعه. بيد أنني لو صنفت رواية يكون فيها هذا الموقف - لوضعت على لساني العاشقة هذا الكلام تحدث به نفسها

تقول: كيف كنت وكيف صرت. لقد رأيتني أعاشر مائة رجل فاخلطهم في شتى أحوالهم وأصرفهم في هواي وكلهم يجهد جهده في استمالتي، وكلهم أهل مودة وبذل، وما منهم إلا جميل مخلص قد أنق وتجمل وراع حسنه كأنما هرب إلي في ثياب عرسه ليلة زفافه وترك من أجلي عروسا تبكي وتصيح بويلها. ثم أنا مع ذلك مغلقة القلب دونهم جميعا أصدقهم المودة والصحبة، وأكذبهم الحب والهوى؛ فلست أحبهم إلا بما أنال منهم ولست أتحبب إليهم إلا ما أنولهم مني، وهم بين عقلي وحيلتي رجال لا عقول لهم، وأنا بين أهوائهم وحماقاتهم امرأة لا ذات لها

ثم أرى بغتة رجلا فردا فلا أكاد أنظر إليه وينظر إلي حتى يضع في قلبي مسئلة تحتاج إلى الحل. . .

وأرتاع لذلك فأحاول تناسيه والإغضاء عنه، فتلج المسئلة في طلب حلها وتشغل خاطري وتتمدد في قلبي وهو هو المسئلة. . .

فأفزع لذلك وأهتم له وأجهد جهدي أن أكون مرة حازمة بصيرة كرجال المال في حق الثروة عليهم، ومرة قاسية عنيدة كرجال الحرب في واجبها عندهم، ومرة خبيثة منكرة كرجال السياسة في عملها بهم؛ ولكني أرى المسئلة تلين لي وتتشكل معي وتحتمل هذه الوجوه كلها لتبقى حيث هي في قلبي فانه هو هو المسئلة. . .

وأغتم لذلك غما شديدا وأراني سأسقط بعد سقوطي الأول وأقبح منه، إذ الحياة عندنا قائمة بالخداع وهذا يفسده الإخلاص؛ وبالمكر وهذا يعطله الوفاء، وبالنسيان وهذا يبطله الحب. وإذ عواطفنا كلها متجردة لغرض واحد هو كسب المال وجمعه وادخاره، وفضيلتنا عميلة لا تتخيل، حسابية لا تختل، فيستوي عندنا الرجل بلغ جماله القمر في سمائه، والرجل بلغت دمامته الذباب في أقذاره؛ والحب معنا هو كم في كم ويبقى ماذا. . . أو كما يقول أهل السياسة هو (النقطة العملية في المسئلة). ولكن المسئلة التي في قلبي لا ترى هذا حلا لها، لأنه هو هو المسئلة. . .

فيزيد بي الكرب، ويشتد علي البلاء وأحتال لقلبي، وأدبر في خنقه وأذهب أقنعه أن الرجل إذا كان شريفا لم يحب المرأة الساقطة إذ يعاب بصحبتها والاختلاف إليها، فإذا كان ساقطا لم تحبه هي، فإنما هو صيدها وفريستها وموضع نقمتها من هذا الجنس، وأسرف على قلبي في الملامة والتعذيل فأقول له: ويحك يا قلبي! إن المرأة منا إذا تفتح قلبها لحبيب تفتح كالجرح لينزف دماءه لا غير، فيقتنع القلب ويجمع على أن ينسى وأن يرجع عن طلبه الحب؛ وأرى المسئلة قد بطلت وكان بطلانها أحسن حل لها، وأنام وادعة مطمئنة، فيأتي هو في نومي ويدخل في قلبي ويعيد المسئلة إلى وضعها الأول فما أستيقظ إلا رأيته هو هو المسئلة. . . .

فأتناهى في الخوف على نفسي من هذا الحب وأراه سجنها وعاقبها، وقهرها وإذلالها، فأقول لها: ويلك يا نفسي! إنما همك في الحياة وسائل الفوز والغلب، فأنت بهذا عدوة مسماة في غفلة الرجال صديقة، وقد وضعت في موضع تعيشين فيه بإهانات من الرجال يسمونها في نذالتهم بالحب. فأنت عدوة الرجال بمعنى من الدهاء والخبث، وعدوة الزوجات بمعنى من الحقد والضغينة، وعدوة البغايا أيضا بمعنى من المغالبة والمنافسة، وكل ما يستطيع الدهاء أن يعمله فهو الذي علي أنا أن اعمله، فماذا أصنع وأنا أحب؟ وكيف انجح وأنا أحب؟ ولكن النفس تجيبني على كل هذا بأن هذا كله بعيد عن المسئلة ما دام هو هو المسئلة. .

قال الراوي: وكانت كالذاهلة مما سمعت، ثم قالت: ألك شيطان في قلبي؟ فهذا كله هو الذي حدث في سبعة أيام

قال (ح): ولكن كيف يقع هذا الحب. وهبك صنفت تلك الرواية ووضعت على لسان العاشقة ذلك الكلام، فبماذا كنت تنطقها في وصف حبها، وما اجتذبها من رجل فاز بقلبها ولم يداورها، بعد مائة رجل كلهم داورها ولم يفز منهم أحد. أتكون في وجه هذا الرجل أنوار كتباشير الصبح تدل على النهار الكامن فيه؟

قالت هي: نعم نعم. بماذا كنت تنطقها؟

قلت: كنت أضع في لسانها هذا الكلام تجيب به عاذلة تعذلها:

تقول: لا أدري كيف أحببته، ولكن هذه الشخصية البارزة منه جذبتني إليه، وجعلت الهواء فيما بيني وبينه مفعما بالمغناطيس مصدره هو، ومعناه هو، ولا شيء فيه إلا هو

عرضته لي شخصيته ظاهرا لأن جواب شخصيته في، وأصبح في عيني كبيرا لأن جواب شخصيتي فيه، ومن ذلك صارت أفكاري نفسها تزيده كل يوم ظهورا وتزيدني كل يوم بصرا، وأعطاه حقه في الكمال عندي حقه في الحب مني؛ وبتلك الشخصية التي جوابها في نفسي أصبح ضرورة من ضرورات نفسي

قال الراوي:

ولما رأيتها في جوي نسميه وعاصفته، أردتها على قصتها وشأنها، فماذا قلت لها وماذا قالت؟

(في العدد القادم بقيتها)

(طنطا)

مصطفى صادق الرافعي