مجلة الرسالة/العدد 118/السنيون والشيعة وموقفهما اليوم

مجلة الرسالة/العدد 118/السنيون والشيعة وموقفهما اليوم

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1935



للأستاذ محمد رضا المظفر

أتيح لي أن أتناول (تاريخ القرآن) للأستاذ الزجاني أبي عبد الله، فأقرأ في مقدمته كلمة الأستاذ (أحمد أمين) القيمة في بابها. أقرأها، فيطربني ما فيها من نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد، نعرفه في أستاذ اليوم

ولا أكتم الأستاذ أني رجعت إلى ذكريات اختزنت عنه من قراءتي لفجر الإسلام وضحاه. ما آلم هذه الذكرى! فقد خلقت للأستاذ عندي شخصيتين، تباعدتا على قرب العهد بينهما، وكادت تدفعني يومئذ إلى مقالة أضعها بين يديه في (الرسالة) أوفي غيرها: لا تخرج عن عتاب بريء على كتابيه، وعن تشجيع على كلمته الأخيرة وتأييد لها، وهي التي أطمعتني فيه، لننشد صراط الإصلاح المستقيم، ولكني تلكأت لا لشيء، وما أدري لماذا كان؟ ولعله لصلاح!

ومنذ أيام كان عدد الرسالة الـ (110) في يدي، فقرأت كلمة الأستاذ محمد بك كرد علي، عن تاريخ القرآن ومقدمته، فطابت لي النبرة وجريت عليها حتى تناولت القلم، وهاأنا ذا أحدثك وأنا شيعي أجري مع سنيين في ميدان الإصلاح لحظيرة الوحدة التي أقامها لنا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم

شهد الله والنبي الأكرم أن من أثقل الأشياء على قلمي أن يقرن بين كلمتي سني وشيعي: يتقارنان تقارن افتراق، ويتصلان اتصال تنافر، كقطبي المغناطيس المتماثلين، وقد خلفت لهما السياسة الغاشمة هذا التنافر الشائن يوم خلقت، وآن لنا أن نخجل أمام الله ورسوله من استمرارنا على هذا الشنآن بين أعداء تستمر على مطاردتنا وتستغل افتراقنا. وما أجدرنا اليوم أن نضرب على هاتين الكلمتين في قاموس اللغة، فنستريح ونريح، ونعود أمة إسلامية واحدة كما أرادها الرسول، أو كما أرادها الله آمنة مطمئنة خير أمة أخرجت للناس!

يرجو الأستاذ (أحمد أمين) في مقدمته - بعد أن ألمع إلى بعض أسباب الخلاف - (أن يفكر عقلاء الفريقين في سبيل الوئام، ويعملوا على إحياء عوامل الألفة وإماتة الخصام، ويتركوا للعلماء البحث حرا في التاريخ، ويتلقوا النتائج بصدر رحب) ويتابعه الأستاذ (محمد بك كرد علي) فيقول: (ورأي صديقي هو رأي فريق كبير من علماء المسلمين اليوم) ثم ينقل لنا خطاب العلامة شيخ الجامع الأزهر، ويقترح أخيرا أن يكتبوا كتابا في منشأ هذا الخلاف بين السنة والشيعة والطرق العملية لإزالته

وأنا أقترح هذا الاقتراح نفسه على علماء النجف الأشرف عاصمة الشيعة الدينية والعلمية، ونقترح جميعا على الفريقين أن يتفاهموا جميعا قبل كل شيء، ولكن كيف نحقق هذا الاقتراح ونفرضه عليهم فرضا؟ يجب أن نعمل له! فهل نستطيعه ولا نجعله مثار نزاع جديد؟

وأؤكد لك أن نشدان علماء الشيعة هو هذه الوحدة المضاعة، يسعون لها ما سنحت الفرصة، وما عرض لها الزمن، احتفاظا بجامعة الإسلام العليا، وتوحيدا لكلمة المسلمين

في إبان تأسيس الحكم الوطني في العراق (والشيعة أكثرية العراق) نادى علماء النجف بالوحدة عاليا، وغالوا في ذلك إلى أبعد حد، وبذلك استطاعت الأمة العراقية أن تجعل من نفسها شعبا حيا وحكومة صادقة

ولم يكن أبناء الأقطار العربية الأخرى - وخاصة في مصر - يحسون بواجبهم إزاء العراق الفتي المتطلع إلى سحق العهد التركي البالي، فكانت لهجات متتابعة، ووخزات نافذة تلقتها صدور الشيعة من مصر وسوريا، تلح عليها إلحاحا، وتكدر عليها صفو الاتفاق أيما تكدير، وكان من بينها فجر الإسلام وضحاه (وأرجو ألا تخدش هذه الكلمة عواطف الأستاذ مؤلفهما، فإنها الصراحة نريد أن نتبعها) تعززها الأقلام المستأجرة في العراق، وبعبارة أصرح أقلام الاستعمار، بينما العراق في ضرورة ملحة إلى الاتفاق بين سنيه وشيعيه، ليرتقي سلم الاستقلال المنشود

إنما هي واحدة تجب رعايتها اليوم على كل باحث عن الشيعة من إخوانهم السنيين، غفل عنها في فجر الإسلام وغيره. هي واحدة تحل كثيرا من الشغب اليوم

نحن نفهم من كلمة الشيعة إذا قلناها: الإمامية الأثنى عشرية خاصة، لأنهم الأكثرية من بين فرق شتى، وذوو المؤلفات والمعارف التي يقال عنها مؤلفات الشيعة ومعارفها، ولأنهم اليوم شيعة العراق وسوريا وإيران والإمارات العربية على الخليج الفارسي والهند وأفغانستان، وما إلى ذلك، وهناك الزيدية في اليمن والبهرة في الهند. أما الفرق الأخرى التي يعددها مثل الشهرستاني في الملل والنحل وغيره، فقد أصبحت في خبر كان ولا يعرف لها أي أثر في هذه البلاد المترامية الأطراف، إلا بعض فرق لا يسمع لها حسيس في المجتمع الشيعي ولا غيره كالغالية

فإذا طوح القلم بالكاتب اليوم عن الشيعة، وقرأ ما كتبه السلف عنهم، خلط الحابل بالنابل، وألصق عقائد تلك الفرق البائدة بعامة الشيعة، وعلى الأصح بالشيعة بالمعنى المفهوم الآن، فكانوا في نظره مرجئة، وغالية، ومجسمة، ومجبرة، وسبئية، وزركشية، وما إلى ذلك

وهذا ما ينعى على الباحث المتتبع، وهذا ما يثير غضب أولئك الشيعة الأحياء، من غير ما حاجة تدعو الكاتب ولا ضرورة، وما أجدر الكتاب أن ينتبهوا اليوم لهذه الناحية، فلا يثيروا كوامن أحقاد شائنة بذرتها السياسية لأغراضها في زمن بعيد لسنا أبناءه، فلا يصطدم بآراء أفراد - لا فرق - لا نعرف عنهم كثيرا، ولا يصح أن يدخلوا تحت هذا الاسم. وعند ذلك قد نوفق إلى التفاهم فالتقارب حيث تفرضه الاخوة الإسلامية، ويكون بحثنا نزيها يتطلب الحقيقة ليس إلا، ليتلقى الطرفان بصدر رحب - على ما يقوله الأستاذ أحمد أمين - كما يتلقون النتائج في أي بحث علمي وتاريخي، وكما يقع البحث بين علماء الشيعة أنفسهم، وبين مذاهب السنة أنفسها، ما دامت السياسة بعيدة عنه ومادام بعيدا عنها

وإذا لم نستطع أن نصل إلى ما نتمناه من حمل علماء الأزهر وعلماء النجف على هذه الطريقة الحميدة، وعلى هذا العمل المبرور، فأكبر الظن أن من السهل علينا أن لا نذهب بعيدا، فنقترح على (الرسالة) الهادية أن تفتح لنا بين أعمدتها سبيلا للبحث النزيه، وتعززنا بشجاعتها الأدبية، فلا تصغي إلى سخط العامة - إذا ما كان - لنستطيع أن نلقي من أطمار الماضي ما رث وبلى

وفي النجف عندنا جمعية دينية علمية أسست هذا العام باسم (منتدى النشر) تسعى لهذا الواجب وتدعو إليه، (وهي تضم طبقة صالحة من علماء النجف وفضلائها)، وبصفتي كاتبها العام أذيع عنها هذه النية المحمودة، وأذيع عنها استعدادها للعمل في هذا السبيل. ولقد كان لما كتبه الأستاذان (أحمد أمين) و (محمد بك كرد علي) الوقع الجميل في نفوس أفرادها، ورحبوا بهذا التفكير العالي الكبير

وفي مصر (لجنة التأليف والترجمة والنشر) الموقرة، ففي استطاعة الجمعيتين أن يقفا في ملتقى الطريقين، ليأخذا بأيدي الباحثين إلى الحد المعقول، ويتلقيا النتائج للعمل عليها ونشرها في بلاد الله، كما نريد أن نقترحه على علماء الأزهر والنجف

ندعو إلى هذا عقلاء قومنا ليضعوا حد لهذه المهازل، وليقاروا على خطة واحدة لحل الخلاف. وعندي أن يسدل حجاب كثيف على الماضي البعيد، فيما يعود إلى الحوادث التاريخية التي لا تمس حياتنا العملية اليوم، فينحصر البحث في نقطة عملية لا غنى لنا عنها

كل ما عند الشيعة أنها تتمسك بعترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم سفينة النجاة، ولكن ليس كعقيدة وموالاة فحسب، فإن هذه عقيدة كل مسلم اعتنق دين الإسلام مصدقا لما جاء به النبي (ص)؛ وإنما تعني من التمسك بهم أن تأخذ بأقوالهم في أحكام الفقه وترجع إليهم في دين الإسلام، ولا تعرف للتمسك بهم معنى غير هذا، وتدلل على أن ما جاء به النبي ورثوه عنه، وعلمه مكنوز عندهم وهم أمناء عليه معصومون، لا كسائر الرواة عنه وعنهم، يروون الأحاديث كنقال يخطئون في النقل ويصيبون، ويصدقون ويكذبون

وبهذا بعدت الشقة العملية بينهم وبين إخوانهم أهل السنة، وكثر الخلاف في الفروع الفقهية؛ فكان وضوء السنة وكان وضوء الشيعة، وكانت صلاة السنة وكانت صلاة الشيعة، وكان وكان

فان استطعنا أن نتفق ونحل هذا اللغز بيننا حلا مرضيا، فقد وفقنا إلى كل شيء، واستطعنا أن نوجه جبهة الإسلام، كما يشاء لنا ديننا دين القيمة، وما هذا على الرجال المخلصين بعزيز

النجف الأشرف

محمد رضا المظفر

كاتب (منتدى النشر) العام