مجلة الرسالة/العدد 119/أقصوصة عراقية:
مجلة الرسالة/العدد 119/أقصوصة عراقية:
رصاصة في الفضاء
(عن كتاب (الدفتر الأزرق) للكاتب، الذي سوف يطبع وينشر
في المستقبل القريب)
بقلم محمود. ا. السيد
- 1 -
حادثة غريبة حدثت في مرقص الهلال في بغداد
كان أول من استقر عليه نظري في ذلك المرقص، ليلة حدثت هذه الحادثة التي أروي لكم، وهي من ليالي صيف 1928، ثلاثة حسبتهم من طلبة المدارس العليا أو صغار الكتبة في الدواوين؛ على مقربة منى يقصفون وينظرون إلى من حولهم من النظارة مستكبرين، ناقدين المرسح نقد راغب في إصلاحه: إصلاح الرقص الخليع فيه والغناء المحزن القديم
وكان النظارة تجارا صغارا وذوي حرف، وعمالا، رأيتهم أخوانا متقابلين في حلقات صغيرة من الكراسي الخيزرانية حول موائد مربعة مكسوة بقماش الكتان؛ تفعم كل مائدة منها أطباق النقل والأقداح وزجاجات الخمور، وأنوار المصابيح الكهربائية المعلقة فوق رؤوسهم، الملونة بألوان العلم العراقي، تبدد الظلام. . .
وكان (جماعة) من الشباب (العوام الأريحيين)، ذوي العباءات الرقيقة السوداء التي تشف عما تحتها، والعمائم (العصفورية) المرقشة باللون الأزرق، يتراشقون بالنكات والفكاهات من وراء حوض مبلط بالقاشاني الأحمر كائن في وسط المرقص تجلله الأعلام وسعف النخيل، وأصواتهم وكلماتهم الشعبية الظريفة تثير الضحك، وتحي في نفوسه القوم اللذة والسرور
وكانت الراقصة المغنية الأولى، تلقي فاتحة الأغاني، التي أعدت للقوم في تلك الليلة - وهي عامية مشجية - جذلى، أو متظاهرة بالجذل، واثقة بنفسها كما كان يبدو من حركاتها، معتقدة بأنها تجيد الغناء. ثم أنشدت هذه الأبيات من الشعر الشعبي الجديد:
(عن قص الشعر لاتلومونا ... والوقت هذي فنونه) (قص الشعر صار بوطننا ... على الموده شحلو فنّه)
(قص الشعر لنا زينه ... شبه الذهب بالخزينه)
(كل من يمشي بخياله ... والمحب تنظر عيونه)
وقال واحد من الثلاثة - أولئك الذين حسبتهم من الطلبة أو صغار الكتبة - وهو مبدن ذو وجه مربع كأنه مصنوع بفأس النجار، يخاطب أحد صاحبيه مشيرا إليها:
- إنها لذات وجه صغيرا جدا، وقد صبغت وجنتيها بالصبغ الأحمر لتستر اصفراره ولا شك، فما أقبحها!)
ورفع إلى فمه كأسه، ولم يستمر في انتقاده. أجاب الذي خاطبه وهو أشقر اللون حسن البزة:
- (كلا يا أخي. إنها لجميلة يجملها شعرها الفاحم المقصوص طبقا للطريقة العصرية التي شاعت في الأيام الأخيرة)
وراح ثالثهما، وهو فتى غرانق، طلق المحيا باسم الثغر، يشعل طرف سيكارته ويدخن صامت، والتفت إليه ذو الوجه المربع يسأله:
- (هل سليمان قادم إلينا؟)
- (سوف يأتي. ولكنه لن يأتيانا بقلب مفتوح السرور، أنهم ظلموه حقا إذ استلوب منه وظيفته، على ما تعلمون)
قال الأول: وقد احتسى آخر حسوة من كأسه!
- (ليس في خدمة الحكومة شرف للإنسان، فان كان سليمان فتى (وطنيا) مخلصا في عقيدته السياسية فأمامه سبل العمل المطلق كثيرة، والجهاد. إن خوض المعركة في ساحة الجهاد الوطني قد اقتربت ساعته؛ فالشعب قد أرهقته الضرائب، والاستقلال الذي وعدونا صار مجموعة من المناصب العالية، وعمت في نظمنا الفوضى، فماذا نريد أكثر من ذلك لكي نسوغ خروجنا ونهوضنا نحن الشباب؟ وإلى متى نحسب أن سبل العيش مسدودة أمامنا، فلا نعرف من طرائق الارتزاق والتكسب إلا الوظيفة؟)
قال له صاحباه:
- (صدقت. . هذا صحيح) وبعد حوار قصير سكتوا، وكانت فترة بين فصلين
- 2 -
أقبل الفتى الذي عرفت من بعد أنه هو سليمان على صحبه في بداية الفصل التالي عجلا يلهث، فحيا، وألقي على المائدةجريدة كان يحمل، ونزع سدارته، ثم جلس، وكانت آثار التعب بادية عليه، واستغرب صحبه حاله، وناوله ذو الوجه المربع سيكارة ثم سأله:
- (هل حدث حادث غير الذي نعلم؟ وهل كان اليوم أيضا تظاهر سياسي؟)
- (تظاهر سياسي؟ كيف؟ تظاهر سياسي مرة أخرى؟ أولم يكفنا ما لقينا أمس في تظاهرنا من ضرب الشرطة إخواننا المتظاهرين بالعصي وإرهاقهم؟ وما الفائدة؟)
وكان يجيب صاحبه وهو يتكلف الهدوء، ولكنه كرر (ما الفائدة) مرتين ثم انفجر صاخبا
وكان العواد والكماني يطربان الحاضرين بقطعة موسيقية من مبتكرات سامي الشوا إيذانا بانتهاء دور الراقصة المغنية الأولى
- (لم يبق أمل. . .)
نطق بهذه العبارة حانقا، يائسا، وضرب المائدة بقبضة يده ثم قال:
- (. . . البلاد مقيدة بالمعاهدة، والمناصب الكبرى للأجانب وذوي العقول القديمة، وفتيان العراق لا يجدون واسطة لأعلان شعورهم ضد الاستعمار؛ وهم إذا ما تظاهروا معلنين سخطهم على الصهيونية مثلا كما فعلوا أمس، سحقوهم بسنابك الخيل. . . قبض الشرطة الآن على عبد الكريم، وأحمد حسن وطاهر، ولطفي. . . وواحد من المتظاهرين في المستشفى جريح. .)
واشتد صخبه وصراخه. وكان صحبه، مع ترحيبهم به؛ وتقبلهم آراءه، يتلقون نظرات المحيطين بهم الدالة على استغرابهم هذه الخطبة، التي لم يسمع أحد مثلها في المراقص، في شيء من الارتباك. وناد الفتى الغرانق الخادم ليأتي ضيفهم الثائر بربع من الخمر الأبيض
ثم أقبل صاحب المرقص على سليمان متلطفا يسكته، وينبهه إلى أن فيما قاله الكفاية، وأن الخوض في شؤون الوطن وسياسته في المرقص بين الكأس والعود ضرب من العبث؛ (واليوم خمر وغدا أمر)؛ وكان الرجل أديبا ظريفا، فأفض على الجماعة بجملة من النوادر قبل أن يتولى عنهم وينصرف وتركت النظر إليهم، واستماع أحاديثهم منصرفا إلى دراسة المرسح!
وكما كان الجاحظ وهو من أئمة الدين يؤلف الرسائل في القيان، كنت عازما على كتابة فصل في نقد مغنيات بغداد آلائي يطربن أبناء الشعب في ساعات لهوهم ومرحهم. فقلت أخاطب نفسي: (إليك المادة الأولى من مواد الموضوع)، ثم أخرجت قلمي ودفتر مذكراتي فكتبت:
(كانت المغنية الراقصة الأولى التي يسمونها جميلة العودية معتدلة القامة، نحيفة ترتدي ثوبا قصيرا بنفسجي اللون، يتوج رأسها تاج من اللؤلؤ المزيف. وجهها مستطيل. نظراتها تدل على غباء. تضاحك الناس بين حين وآخر. . . وأما غناؤها. . .)
وكتبت صفحة أو صفحتين من دفتري في ذكر غنائها؛ وطريقة إنشادها، ثم انتقلت إلى وصف الثانية، وقد جاء دورها وحانت مني التفاتة إلى أشخاص قصتي؛ فألفيتهم عاكفين على مائدتهم يأكلون ويشربون ويتحادثون، وكان سليمان يفرغ الثمالة من زجاجة (الربع) التي كانت أمامه في كأسه، ثم يطلب من الخادم زجاجة (ربع) ثانية، وعجبت له كيف سكن بعد هياجه، ثم سمعته يقول لصاحبه:
- (إنني أكرهها. . أكره تلك المغنية الهزيلة. . أكره تاجها المزيف. . أكره وجهها المستطيل. . أكره نظراتها. . وأحب زهراء وإن لم تكن مغنية من ذوات الفن ولا ذات شرف في هذا المجتمع)
وجاءه الخادم بزجاجة؛ ولم يجبه أحد. وفتح الجريدة التي كان ألقاه ساعة أقبل على المائدة وأشار إلى مقالة فيها وقال:
- (صرت منذ اليوم أعلن حبي لها على رءوس الأشهاد، فهذه المقالة بل هذه الفلسفة الجديدة قد غيرت رأيي)
وقرأ:
(لا تحتقروا أحدا من النساء، فبنو الإنسانية سواسية في هذه الدنيا. . . . .)
ولم أستغرب هذه (الفلسفة الجديدة) - على ما وصفها - ولم أعرف صاحبها، التي راح يؤيدها سليمان في حماسة شديدة. وخيل إلي من عينيه المحملقتين وصوته الراعد، أن الثورة الكامنة في أعماق نفسه على وشك الظهور مرة أخرى. ولكنه كان مضطربا قلقا، فلم يكمل قراءة المقالة. ورنا إلى المسرح معجبا برقص الراقصة الثانية؛ وكانت فنانة رومية مستتركة وافدة من استانبول. وهز رأسه، ثم هز رأسه إذ أطربه صوتها الرفيع العذب وأناشيدها التركية الرقيقة. وانشغلت عنه بكتابة وصفها:
- طويلة بيضاء في صفرة كلون الذهب. . .)
واستمررت في الكتابة غير منتبه إلى ما يجري حولي، نحو ساعة أو أكثر أو أقل، لا أدري. وقبل أن ألقي القلم جانبا رنت في أذني قرقعة أحداثها سقوط أطباق على الأرض، وصرخة صارخ يقول:
- (أنت خاطئ يا أخي! أنت خاطئ ومخطئ كل الخطأ!)
وكان الصارخ سليمان. قلت: (حقا لقد ثار صاحبنا). ورفعت رأسي لأنظر إليه، فألفيته واقفا منفوشا شعر رأسه يعربد، ويقول مخاطبا رجلا غريبا لم أره من قبل، كان واقفا أمامه ينظر إليه نظرة شامت مستهزئ:
- (أنا شجاع، شجاع! لقد طردوني لأنني أبيت أن أخدمهم لتحقيق غاياتهم
هذا حق، ولكنني لم أثر لحرماني من الوظيفة. . . ما أنا بسكران!. . . لست ثائرا لأني أصبحت محروما من الوظيفة يا كامل، بل لأن الوطن يريد رجاله. انظر يا كامل! ويلك! أنا رجل أقابل ألف رجل من هؤلاء المخانيث لو دعت الحاجة؛ وهاكم البرهان:
والتفت إلى صحبه مهتاجا، وكانوا حيارى واجمين ثم قال:
- (رصاصة لأجل الحرية!)
وسرعان ما أخرج من جيبه مسدسا فأطلق رصاصة في الفضاء
وهرع بعض النظارة إليه ليمنعه من الاستمرار في إطلاق الرصاص، وبعضهم إلى باب المرقص لينجو بنفسه، إذ أدرك في هذه الحادثة بادرة للجريمة. وجاء شرطي يعدو ويشق لنفسه طريقا إلى سليمان في الزحام. . . ولم أعد أفهم من الحوادث المتتالية شيئا. . .
- 3 -
بعد يومين أو ثلاثة ذكرت الصحف: (أن محكمة الجزاء حكمت على سليمان بن محمود وهو موظف سابق معزول، بأن يسجن عقابا له على إطلاق الرصاص من مسدسه وهو سكران في مرقص الهلال) ولم أسمع له ذكرا بعد ذلك
العراق - الأعظمية
محمود. أ. السيد