مجلة الرسالة/العدد 119/افتتاح إفريقية وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
مجلة الرسالة/العدد 119/افتتاح إفريقية وكيف غزاها الاستعمار الأوربي
بقلم مؤرخ كبير
تتمة
لم يبق اليوم في إفريقية من الأمم المستقلة سوى الحبشة، وجمهورية ليبيريا؛ ولكن ليبيريا ليست في الواقع سوى منطقة للنفوذ الأمريكي، وقد أنشئها الزنوج الأمريكيون الأحرار؛ ومع أنها جمهورية مستقلة وعضو في عصبة الأمم، فأن السياسة الأمريكية هي التي تشرف على شؤونها العليا؛ وعلى هذا فليس في أفريقية اليوم أمة تتمتع باستقلالها الصحيح سوى إمبراطورية الحبشة؛ وهي تتمتع بهذا الاستقلال منذ فجر التاريخ. وقد حاول الاستعمار الأوربي غير مرة أن يحطم استقلالها، ولكنها استطاعت لأن تسحق مشروعاته ومحاولاته؛ والآن يعيد التاريخ دورته ويتربص الاستعمار الأوربي بالحبشة مرة أخرى، ويحشد كل قواه وعدده المدمرة، ويطالب علنا بافتراسها والقضاء على استقلالها تحقيقا لشهوة الفتح والتوسع؛ وهانحن أولاء نشهد العاصفة وقد انقضت، فهل تستطيع مملكة سبأ الخالدة أن ترد عنها عادية هذا الغزو المبيت؟
وهل تستطيع الفوز بهذا الاستقلال الذي حافظت عليه منذ الأحقاب؟ وهل تبقى الحبشة آخر حصن للاستقلال الأفريقي، أم تسقط صريعة الاعتداء، فيجهز الاستعمار بذلك على آخر ملاذ لهذا الاستقلال؟ هذا ما سيكشف عنه المستقبل القريب
وقد رأينا فيما تقدم كيف اقتسمت الدول الأوربية إفريقية فيما بينها، واستقرت كل منها في بعض مناطقها وأراضيها، وأنشأت الدول الكبرى - إنكلترا وفرنسا وألمانيا - كل منها في أفريقية إمبراطورية استعمارية شاسعة. وكانت إيطاليا إحدى الدول التي شاركت في افتتاح إفريقية، غير أنها خرجت منها بصفقة يسيرة. ويرجع ذلك إلى أنها كانت في أواخر القرن الماضي، حين بدأ افتتاح إفريقية، ما تزال دولة ثانوية، حديثة عهد باستقلالها ووحدتها القومية؛ هذا إلى أنها لقيت خلال غزواتها الاستعمارية نكبة لم تلقها أية دولة أوربية، إذ هزمت جيوشها وسحقت في موقعة (عدوة) الشهيرة حسبما نفصل بعد، فوضعت هذه الهزيمة الساحقة حدا لمشاريعها الاستعمارية مدى حين
بدأت إيطاليا محاولاتها الاستعمارية في سنة 1882، إذ أرسلت إلى بلاد احتلت خليج عصب وما يليه جنوبا؛ واحتلت ثغر مصوع وما يليه من الساحل شمالا (سنة 1885)؛ وأرسلت حملة أخرى إلى بلاد الصومال مما يلي المحيط الهندي، فاحتلت شقة ضيقة طويلة على الساحل، من نهر جوبا حتى رأس جردفوي، وهي التي تعرف اليوم بالصومال الإيطالي (سنة 1888). وكانت إيطاليا يومئذ دولة ناشئة فتية تجيش بآمال كبيرة، وكان وزيرها الشهير (كرسبي) روح هذه المغامرات الاستعمارية؛ وكان يحلم بإنشاء إمبراطورية استعمارية إيطالية ضخمة في شرق إفريقية تضم الحبشة، وتصل ما بين الإرترية والصومال؛ وكان تفاهم الدول الأوربية على اقتسام إفريقية يخول لإيطاليا حرية العمل في تلك المنطقة. فلما تم احتلال الإرترية والصومال، اعتقد كرسبي أن الفرصة قد سنحت لغزو الحبشة، والعمل لإنشاء الإمبراطورية الاستعمارية التي يتوق إلى إنشائها
وكانت الحبشة منذ منتصف القرن التاسع عشر تجوز فترة من الضعف والتفرق؛ وكان ملكها يومئذ الإمبراطور تيودور، وهو أمير من أمهرا يدعى كاساي، اغتصب العرش من الرأس (علي) ملك الحبشة المسلم، وأقام نفسه إمبراطورا، وبسط على الحبشة حكمه المطلق، وأثار بشدته وعنفه في معاملة الأجانب سخط الدول الأوربية، وقبض على عدد من المرسلين والنزلاء الإنكليز وأبى أن يطلق سراحهم، فجهزت إنكلترا حملة لغزو الحبشة بقيادة السير نابيير؛ ونفذت هذه الحملة إلى الحبشة في سنة 1868، وهزمت جيش الإمبراطور، فاضطر تيودور أن يطلب الصلح، ثم أنتحر يأسا وغما؛ وانسحب الإنكليز، وعادت الحرب الأهلية في الحبشة، واستولى على العرش كاسي أمير تجرى، ونصب نفسه إمبراطورا باسم يوحنا الثاني؛ ولبثت الحبشة في حالة اضطراب وفوضى؛ واحتل الإيطاليون في تلك الفترة ساحل إرترية والصومال؛ وكانت الجيوش المصرية قد نفذت قبل ذلك بأعوام إلى بعض مناطق الحبشة مما يلي السودان فاستطاع الإمبراطور يوحنا أن يوقع بها هزيمة فادحة وأن يرغمها على الجلاء عن الحبشة (سنة 1876)، ولما توفي يوحنا سنة 1889 خلفه على العرش منليك أمير شوا، باسم الإمبراطور منليك الثاني. وبدأ منليك حكمه في ظروف صعبة؛ وكانت إيطاليا قد استطاعت أن تتقرب إلى الحبشة، وأن تبسط عليها نفوذها شيئا فشيئا تحت ستار المعاونات والصلات الودية، وما زالت حتى استطاعت بسياسة الضغط والوعيد أن تحمل منليك على أن يعقد معها معاهدة حماية مقنعة هي التي تعرف بمعاهدة أوشالي (مايو سنة 1889)، وبها وضعت الحبشة تحت نوع من الوصاية الإيطالية؛ وحاولت إيطاليا خلال الأعوام التالية أن تتدخل في شؤون الحبشة تدخلا قويا، وأن تفرض عليها إرادتها، واستطاعت أن تحتل بعض أنحائها المجاورة الإرترية، ولكن الشعب الحبشي لم يلبث أن ثار لهذا الاعتداء على أرضه وحرياته؛ وقاد منليك هذه الثورة الوطنية، فجردت عليه إيطاليا جيشا ضخما قوامه خمسون ألف مقاتل بقيادة الجنرال باراتيري؛ ولكن الوطنية الحبشية غمرت كل شيء وسحقت الجيوش الإيطالية في موقعه عدوة الشهيرة من أعمال ولاية تجرى (2 مارس سنة 1896)، ولم تبق منها سوى فلول ممزقة، وحطمت آمال إيطاليا ومشاريعها الاستعمارية، وأرغمت على الاعتراف باستقلال الحبشة؛ واستمر منليك الثاني أو منليك الأكبر محرر الحبشة أعواما طويلة يقودها في سبيل الإصلاح والتقدم؛ وفي عهده نظمت الحبشة علائقها مع الدول الأوربية، واستطاعت أن ترغمها جميعا على احترام استقلالها. وفي سنة 1906 عقد تحالف ثلاثي بين بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا يقضي بالعمل المشترك بينها لحماية أراضيها ومصالحها في تلك المنطقة، وينص على وحدة الحبشة واستقلالها، وينص أيضا على تفوق المصالح الإيطالية في الحبشة. ولما توفي منليك الأكبر سنة 1913 خلفه حفيده (ليجي ياسو) بعهد منه؛ ولكن عوامل التفرق عادت تعمل عملها، واضطرمت الحرب الأهلية مرة أخرى، وعزل (ليجي ياسو) بعد خطوب وحوادث جمة، وتولت العرش (زوديتو) كبرى بنات منليك، وعين الرأس تفري وصيا للعرش ووليا للعهد، فاستأثر بكل سلطة حقيقة. ولم تمض أعوام قلائل حتى أعلن نفسه إمبراطورا إلى جانب (زوديتو) ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، انفرد بالملك تلقب باسم (هيلا سلاسي)، وفي عهده قطعت الحبشة مراحل كبيرة في سبيلا التقدم والاتحاد والإصلاح الوطني، والتحقت بعصبة الأمم (سنة 1923)، وزار الإمبراطور إيطاليا سنة 1925 فاستقبل في رومة بحفاوة كبيرة، وعقدت على أثر ذلك بين البلدين معاهدة صداقة وتحكيم واعتقدت الحبشة أنها في ظل عصبة الأمم، وظل الصداقة الإيطالية الجديدة، قد أمنت مطامع الاستعمار ومشاريعه الغادرة
وكانت إيطاليا منذ نكبة (عدوة) قد وجهت مطامعها الاستعمارية شطرا آخر. وكانت طرابلس، هي المنطقة الوحيدة التي بقيت من شمال إفريقية بعيدة عن الاحتلال الأوربي؛ وطرابلس تواجه إيطاليا في الضفة الأخرى من البحر، وفيها مناطق منبسطة شاسعة تصلح للحرث والاستعمار؛ ومنذ فاتحة هذا القرن تعمل إيطاليا لانتزاع طرابلس من قبضة تركيا الضعيفة، ولم تلق إيطاليا اعتراضا من إنكلترا أو فرنسا إذ كانتا تؤثران أن تحل في طرابلس دولة ثانوية مثل إيطاليا وتخشيان أن تحتلها منافستها القوية ألمانيا. وهكذا استطاعت إيطاليا بموافقة إنكلترا وفرنسا أن تعد عدتها لاحتلال طرابلس. وفي أواخر سنة 1911 وجهت إيطاليا إلى تركيا بلاغا نهائيا تزعم فيه أن مصالحها في طرابلس قد عبث بها، وأتبعت ذلك في الحال باحتلال ثغري طرابلس وبنغازي، وتركت تركيا كعادتها طرابلس لمصيرها، ولم يتقدم للدفاع عنها سوى حاميتها الصغيرة؛ ولكن ذمرة من الضباط البواسل بين ترك ومصريين استطاعوا أن يحشدوا رجال القبائل لقتال العدو المغير، واستطالت الحرب الطرابلسية زهاء عام (حتى أكتوبر سنة 1912) وانتصر الإيطاليون في النهاية وعقدوا الصلح مع تركيا، واعترفت تركيا بالحماية الإيطالية على طرابلس. ولكن إيطاليا اشترت ظفرها غاليا بالمال والرجال، ولم تتقدم مع ذلك كثيرا داخل طرابلس، لأن رجال القبائل واصلوا الدفاع عن وطنهم، واستمرت إيطاليا تعاني أشد المتاعب في طرابلس مدى أعوام طويلة. ولم توفق إلى إخماد القبائل إلا منذ سنة 1925، إذ جردت عليها قوى جرارة. واستعانت بأشنع وسائل الفتك الحديثة، ومع ذلك فإنها تقيم في طرابلس على بركان من الحفيظة والبغض قد ينفجر لأول فرصة
ومنذ قيام الطغيان الفاشستي في إيطاليا، تضطرم إيطاليا الفاشستية بآمال وأطماع جديدة، وتساورها حمى التوسع والفكرة الإمبراطورية. وكانت إيطاليا قد حصلت منذ سنة 1915 بمقتضى معاهدة لندن السرية على وعود من فرنسا وإنكلترا بأن تعوض عند دخولها في الحرب بمنح استعمارية في إفريقية، ولكن الحلفاء نكثوا وعودهم في مؤتمر الصلح، واكتفوا بما استولت عليه إيطاليا في أوربا من تراث النمسا. ولكن إيطاليا الفاشستية شددت في طلب الوفاء بالعهود المقطوعة، واستطاعت أن تحصل على مزايا استعمارية جديدة في إفريقية، مثل استيلائها على واحة جغبوب المصرية وواحة العوينات السودانية بفضل نفوذ إنكلترا، واستيلائها على منطقة شاسعة من السودان الفرنسي بمقتضى المعاهدة الفرنسية الإيطالية الأخيرة. ولما اعتقد موسوليني أنه سما بإيطاليا وقواها العسكرية والمعنوية إلى أرفع مكانة، اتجه بأنظاره إلى الحبشة، ورأى أنه بغزوها واحتلالها يمحو وصمة الماضي المؤلم، ويحقق حلم إيطاليا المحطم في إنشاء إمبراطورية استعمارية كبيرة تشمل الإرترية والصومال والحبشة. وهانحن أولاء نشهد منذ أشهر قوى الفاشستية تتدفق بواسطة قناة السويس إلى شرق إفريقية، وهاهي تغزو أراضي الحبشة؛ وهكذا يزمع الاستعمار الأوربي أن ينقض على آخر وحدة مستقلة في إفريقية ليفترسها كما افترس أخواتها من قبل، وليعمم الاستعباد جميع أرجاء القارة السمراء
وليس من موضوعنا أن نتحدث هنا عن مصاير هذه الحرب الاستعمارية الجديدة، فان في الحبشة شعبا باسلا استطاع منذ فجر التاريخ أن يذود عن حرياته واستقلاله، واستطاع حتى في العصر الحديث أن يلقي على أولئك الذين يتربصون به اليوم درسا عميق الأثر، ولكنا نلاحظ بهذه المناسبة أن إيطاليا الفاشستية تذهب بعيدا في أحلامها القيصرية. أجل إن موسوليني يتشح اليوم بثياب قيصر، ويفكر على طريقة الدولة الرومانية، ويتصور أنه يستطيع بما اكتمل له من الاستعداد الحربي أن يخلق دولة القياصرة من جديد، وأن يجعل من البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية، وأن يرد مصر - بعد الاستيلاء على الحبشة - إلى حظيرة الإمبراطورية الجديدة؛ ولكن موسوليني ليس بقيصر، وليست إيطاليا الفاشستية بالدولة الرومانية، وهيهات أن يسمح العالم الحديث لهذه الفاشستية المحمومة بأن تضع لمحة من أحلامها العريضة موضع التنفيذ. ولقد كانت إيطاليا منذ جيلين فقط أمة مستعبدة ممزقة تجاهد لاستقلالها ووحدتها، ولكنها اليوم، وهي حديثة عهد بنعمة الاستقلال، لا ترى بأسا من أن تجني على استقلال شعب حر باسل، لأنها فقط تحلم بافتتاحه واغتيال أرزاقه؛ ولكنا نحن الذين لا يؤمنون بعظمة الفاشستية، ولا بخلالها ووسائلها المثيرة، نتوقع أن تكون هذه المغامرة الذميمة - وقد اجترأت الفاشستية على تنفيذ مشروعها - قبر الفاشستية وقبر مطامعها وأحلامها الدموية الأثيمة
(تم البحث)