مجلة الرسالة/العدد 119/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة/العدد 119/فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 119
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1935


24 - تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

الناحية السلبية من مذهب نيتشه

الإنسان

للأستاذ خليل هنداوي

إن انتشار مذهب الشفقة - في هذا الجيل - دليل على أن الإنسان أصبح يزداد خوفه من الألم. أصبح متراخيا، مخنثا يخشى من كل ما يعكر عليه طمأنينته ووجوده، لا يحمل الفرار من الألم وحده، بل لا يستطيع أن يتصور فكرة الألم عند الآخرين، حتى لا يقدر أن يؤلم الغير عندما يطلب العدل منه ذلك باسم العدل. الرحيم يبسط شفقته حتى على المجرمين والمسيئين (وقريبا يأتي ذلك اليوم الذي يتراخى فيه المجتمع الإنساني ويقعد عن معاقبة المجرم الذي يضره. لماذا يعاقب المجرم؟ إن المعاقبة يرى فيها ضربا من ضروب الجور. فكرة القصاص وضرورة القصاص تسوؤه. أليس في إقصاء المجرم وغل يديه عن عمل السوء ما يغني؟ فلماذا القصاص إذن؟ إن القصاص يضني. أما المثل الأعلى الذي يطلبه (وحش القطيع) فهو جزء ضئيل من السعادة المحققة لكل إنسان، يرافقه شيء ضئيل من الألم. إن الشقاء - عندهم - شيء يجب محقه

إن نيتشه - في هذا الفصل وهو خير فصوله - يعتقد أن الجبن والخوف من الألم هما من الصغار والحقار بمكان، إن الألم هو في الحق معلم الإنسانية وهو الذي يحقق أحسن نماذج شريفة. (أنتم تريدون سحق الألم ونحن نريد أن تكون الحياة أكثر قسوة وأشد رداءة. إن الكائن السامي الذي تفهمونه، نرى فيه (غاية) ولا نرى فيه (نهاية). نرى فيه مرحلة يبدو الإنسان من ورائها شيئا حقيرا مزريا حتى يدرك آخر عهده، بلى! في مدرسة الألم الكبير، في مدرسة هذا المعلم القاسي يتم الإنسان مراحل تطوره، أليس التضييق على هذه النفس الساقطة تحت أعباء الشقاء يزيدها قوة وصلابة! أليست هذه الرجفة التي تنتابها بازاء الحادثات الكبرى تزيد قوة احتمالها وصبرها وثباتها وتحويل المصائب إلى دروس مفيدة. كل هذا ألم يؤول بالنفس - في مدرسة الألم - إلى خروجها مهذبة نقية؟ إن في الإ (خليقة وخالقا) في الإنسان شيء هو مادة وطين ووحل، لا شعور له، فضاء، وفي الإنسان شيء هو خالق مبدع، ونقاش، بهجة فنان وصلابة ومطرقة، أأدركتم هذه المقارنة؟ ألا تزال شفقتكم تذهب إلى ما في الإنسان من مادة ينبغي سحقه وحرقه في النار حتى يتطهر، وإلى كل ما يجب عليه أن يتألم بالضرورة؟

وشفقتنا هل تدرون موقعها! إنها شفقة علينا حين نقاتل شفقتكم كما نقاتل كل ظاهرة من ظواهر الضعف والجبن، وهكذا: شفقة ضد شفقة

ويرى نيتشه أن المذهب الديموقراطي علامة من علامات الانحطاط، لأنه مهما تباعدت أصوله وتبدلت مناهجه متفق مع المذهب الديني، ففي الشريعة المسيحية وفي ديانة الألم الإنساني يتمثل ما يتمثل في مذهب المساواة. . . مقت الضعيف للقوي، وجنوح قوى إلى حياة لا ألم فيها. إن المسيحية تجعل الناس متساوين أكفاء أمام الله، وتعدعهم في بسعادة كاملة في الحياة الثانية، كذلك الديموقراطية جعلت الناس متساوين أكفاء أمام الشريعة والحق، وعملت على تحقيق سعادتهم في هذه الدار، ورجت أن تخلق مجتمعا يموت فيه التفاوت ويكون أهله في الحق سواء؛ لا يتمتع أحدهم بما لا يتمتع به آخر. حيث لا أمر ولا طاعة، ولا استبداد ولا استئثار، ولا سيادة ولا عبودية، ولا غنى ولا فقر

هذا هو المثل الذي تنهض إليه الديموقراطية، ويدعو إليه أصحابها على اختلاف مللهم ونحلهم. . . كلهم يعملون على رفض كل سلطة ذاتية، ليملكوا لأنفسهم كل امتياز. وكلهم يؤمنون بأن كل فرد يقدر بل ينبغي له أن يجد سعادته الخاصة في سعادة المجتمع بأسره، وهذه السعادة الاجتماعية يمكن تحقيقها بإشفاق كل فرد على المجتمع، وبالمحبة العامة السائدة. هذه الأفكار غرست في عقول أبناء الحاضر غرسا متينا، حتى أصبح لا يقوم - في أوربا - رجال تقوى فيهم روح السلطة والزعامة. ولن تجد في عصرنا هذا من يمثل روح نابليون الذي كان ينضوي تحت لوائه الألوف، يمشي فيمشون لا يسألونه أين يمشي، وهؤلاء من بأيديهم الحكومة اليوم لا يملكون من الحكم إلا قليلا، لأن شريعة العبيد رافعة رأسها في كل مكان، فهم يستمدون الحكم من هذه الشريعة، لا يحيدون عنها ولا يجدون عنها مصرفا، فهم خادمو هذا البلد، هم الجلادون فيه، وهم منفذو القانون

وقد بحث نيتشه علاقة الرجل والمرأة، وهو يرى أن المرأة ليس لها حق المساواة مع الرجل، دل على ذلك الحب الذي تنغمس في حمأته الكائنات. فوظيفة الحب - عند الرجل - غيرها - عند المرأة، ومكانة الحب عند المرأة غيرها عند الرجل. فالحب عند الرجل إن هو إلا حادث بسيط أو غريزة ضعيفة. أما الغريزة العنيفة فيه فهي غريزة القوة، هذه الغريزة التي تدفعه إلى بسط سلطانه إلى أقصى ما يقدر عليه. إن مناضلة القوى الطبيعية والقوى البشرية في سبيل تحقيق شخصيته هي ما يتطلب منه عصره وجهوده. فإذا أسلم نفسه إلى الحب، ووهب حياته وأفكاره للمرأة التي يهواها يصبح عبدا مقهورا وجبانا ذليلا، تسلخ عنه الرجولة الحقة والحب الحق

يقول زرادشت (كل ما في حياة المرأة هو لغز، وكل ما في المرأة له حل واحد وهو التوليد) فالحب إذن هو أبرز ما في حياة المرأة، وإنما مجدها وشرفها يدفعانها إلى أن تمثل دور (الأولى) في الحب، وأن تهب كيانها كله جسدا وروحا للرجل الذي تصطفيه، وأن تفتش عن سعادتها في الانسلاخ عن أرادتها الخاصة. يقول زرادشت: إن سعادة الرجل (أنا أريد) وسعادة المرأة (هو يريد!) إن المرأة التي تحب ينبغي لها أن تسلم نفسها إلى الرجل الذي يجب عليه أن يتقبل هذه المنحة. . . هذه هي شريعة الحب التي تجعل بين الرجل والمرأة حاجزا حائلا وفرقا بعيدا. خلقت المرأة للحب والطاعة، وويل لها إذا سئم الرجل من ظفره عليها وألفى أن هذه المنحة حقيرة بالنسبة إليه، وركض يسعى وراء غرام جديد. ينبغي للرجل أن يحكم وأن يحرس. يجب عليه أن يكون قادرا على أن يحيا حياتين، ليحقق سعادته لنفسه، وسعادة من وقفت عليه رجاءها. ولكن تعسا له إذا ضل تحت أثقال هذا العمل، وإذا أدرك حبه وعجز عن إضرام نار هذا الحب، فإن هذا الحب ليحور بغضا، وتنقلب المرأة به عليه، حتى لا ترى فيه إلا موضع ازدراء واحتقار

ولكن جيلنا هذا لن يقبل هذه الآراء. . . فالجيل الذي قدس العبد يجرب أن يؤله المرأة. . . لا يرى في المرأة عنصرا ساميا يستطيع أن يساعد الإنسانية في تقدمها. الرجل وحده يتعلق عليه ذلك لأنه السيد، وهو سيد ذو القوة الراجحة والعقل الأرجح والقلب الأمثل والإرادة الأشد نفاذا. والمرأة قد تكون نبيهة، ذكية تضارع الرجل نباهة وذكاء، تتفهم المسائل وتفصل أمهات الأمور الدقيقة وتحاكم وتجادل ولكن طبيعتها أقل عمقا وأقل غنى من طبيعة الرجل. إنها تبقى دائما طافية على سطوح الأشياء. إنها شيء لا يذكر. . . إنها مسكينة مزهوة بنفسها

يقول زرداشت (يعلم الرجل للحرب، والمرأة لتسلية المحارب. . . وما دون ذلك فهو جنون) ليست المرأة صنما وإنما هي لعبة سريعة العطب لكنها ثمينة وقد تكون خطرة. هي رقة في طبع الرجل. تغدو خطرة مرعبة حين يضرمها الهوى والحب والبغض، لأن طبيعتها لا تزال أكثر احتواء من طبيعة الرجل على وحشية الغرائز الأولى. ففيها رقة ملمس الهرة وفظاعة مخالب النمرة، فيها طبيعة نابية ثائرة، وأهواء جامحة لا تعرف منطقا، ورغاب قلقة. . . وكل هذا يجعل المرأة فقيرة إلى سيد يكبح جماحها ويقودها ويميت فيها جنونها، حتى إذا استشعرت الوجل أمست رقيقة ناعمة بفضل طبيعتها وزينتها وتبرجها وفضيلتها اللابسة ألف ثوب. فيعرو - إذ ذاك - قلب سيدها الإشفاق عليها، الإشفاق الكثير لأنها أكثر عرضة للألم. إنها مفتقرة إلى حبه، وقد قضى عليها بأن تكون أقل الخلائق وهما

أن نيتشه ينقم على المرأة التي تريد أن تتحرر من قيودها، وتهجر احترامها للرجل وتزعم بأنها قرينة مساوية، تريد أن تدخل معه فيما تطلب الحياة من نضال. أن نيتشه يبغض النساء اللواتي يمشين في صفوف الرجال، لأنهن يفقدن تأثيرهن ونفوذهن واعتبار المجتمع لهن. وإنما همهن أن يظهرن للرجال بطبيعة مباينة لطبيعتهم وجبلة مخالفة لجبلتهم، يصعب فهمها ويعسر حكمها. وهاهي المرأة المزاحمة للرجل أضاعت ما خصتها الطبيعة به وأهملت مهنتها التي تقضي عليها بوضع الأطفال

وفي النهاية يرى نيتشه أن أوروبا تتشوه وتزداد تشققا، قد استحالت إلى معتزل تسكنه طائفة من الناس توقوق - لا أحزان كبيرة ولا أفراح كبيرة - طائفة من رجال ونسوة تساووا في العجز والضعف والانحطاط، يقضون على الأرض حياة متشحة بالسواد، لا أمل فها ولا غاية لها.

(يتبع)

خليل هنداوي