مجلة الرسالة/العدد 119/يوم افتتاح المدارس

مجلة الرسالة/العدد 119/يوم افتتاح المدارس

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 10 - 1935



صور دمشقية سوداء طبق الأصل. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

ذهبت أمس إلى المدرسة الأمينية، وهي المدرسة الإسلامية التي انحطمت على جدرانها ثمانية قرون وهي قائمة، وماتت من حولها ثمانمائة سنة وهي حية، ونشأت دول وانقرضت، وبدئت تواريخ وختمت، وتبدلت الأرض وتغيرت، وهي ماضية في سبيلها، عاكفة على عملها، قد انقطعت عن الأرض من حولها، واتصلت بالسماء من فوقها، فعاشت في سماء العلم والناس يعيشون في أرض المادة. . .

دخلتها فإذا هي صامتة ساكنة، لا يسمع في أبهائها صوت مدرس بدرس، أو دارسين بتلاوة، وإذا في كل فصل من فصولها رهط من التلاميذ، متفرقون في زوايا الفصل، لا تنفرج شفاههم عن بسمة السرور، ولا تلمع عيونهم ببريق الجذل، وإذا الأستاذ صاحب المدرسة قابع في غرفته، يفكر حزينا، وينظر آسفا؛ وهو الذي لم يأل العمل جهدا، ولم يسيء بالله ظنا؛ فلما رآني قام إلي يحدثني عن المدرسة، ويعلمني علمها، فإذا المدرسة قد زلزلت في مطلع هذا العام المدرسي، لأن الناس قد مالوا عن المدارس الإسلامية وزهدوا فيها، وزاغوا إلى المدارس الأجنبية وأقبلوا عليها، وضنوا على مدارسنا بدينار واحد في العام، ليمنحوا تلك ثلاثة أرباع الدينار في الشهر. .

وأفاض الأستاذ في البيان، حتى امتلأت نفسي حزنا، فخرجت حزينا فمررت على (الكاملية) فإذا هي في خطب أشد، ومصيبة أفدح، فجزت بـ (الجوهرية) فإذا هي ماتت بعد شيخ الشام، الشيخ عيد السفر جلال، وإذا فيها بنات يقرأن ويصحن ويلعبن، فسلكت على (التجارية) فإذا دارها الكبيرة في زقاق الفخر الرازي، خلاء قواء، وإذا هي قد انتقلت إلى الخيضرية فاتخذت فيها دارا، ورأيت (الجقمقية) القاعة التاريخية الجميلة، والمدرسة الأثرية الجليلة، فإذا هي قد اتخذت دارا. . .

فذهبت وأنا أحس الألم يقطع في كبدي، والأسى يحز في قلبي، ووددت لو أن الله قبضني إليه قبل أن أرى مدارسنا الإسلامية، لا تستطيع أن تعيش في البلد الإسلامي، ولا تجد من يشد أزرها، ويأخذ بيدها. . . وأممت شارع بغداد أروح عن نفسي بخضرة البساتين، وجمال الكون، وانطلاق الهواء، ومنظر الجبل، فما راعني إلا أفواج من الناس قد ازدحمت على باب بناء كبير، كأنه قلعة من القلاع، أو قصر من القصور، حتى لقد كادت تسد بكثرتها الشارع العريض: ما راعني إلا الناس على باب (مدرسة اللاييك)، يتدافعون ويتزاحمون، كأنهم على باب الجنة، فكل يطمع أن يسبق إليها، وكلما فتح الباب لواحد، لحظته العيون بالغيظ، ورمقته بالحسد. . . فسألت قوما أعرفهم ينظرون كما أنظر، ماذا هناك؟ فقالوا: هم المسلمون يريدون يسلموا أبناءهم إلى رجال اللابيك ليصبوا في قلوبهم ما يشاؤون من عقائد باطلة في الدين، وعواطف زائفة في الوطنية، وزهادة في اللغة، وكره للتاريخ الإسلامي، والقومية العربية، ويدفعون إليهم الأموال الطائلة، وما يشترون بها إلا الكفر لأبنائهم، والزيغ والإلحاد، وحب الغريب، وبغض القريب، وما يشترون بها إلا أعداء لهم ولأوطانهم، يحاربونهم في دورهم، ويغزونهم في أخلاقهم وعقائدهم، وهم قد انحدروا من أصلابهم، وخرجوا من ظهورهم؛ أفرأيت بلاء أشد، وخزيا أكبر، من أن يحاربونا بأبنائنا، ويأخذوا على ذلك أموالنا؟. . .

فقلت: لا والله! وسرت، أخشى أن يتمزق والله من الألم كبدي، فمررت على (مدرسة الفرير) فإذا الجموع أكثر، والازدحام أشد، والمسلمون يرجون الخوري. . . أن ينسي أبناءهم القرآن، ليحفظهم الإنجيل، ويبغض إليهم محمدا وأبا بكر وعمر، ويحبب إليهم بطرس ولويس ونابليون. . . فسرت مسرعا، لا يطول بي وقوف فتحرقني نار الحزن، وأخذت طريقي إلى مدرستي، أسلك إليها سارع البرلمان، فإذا على باب (مدرسة الفرنسيسكان) أمام الكنيسة الفخمة، جمهور من المسلمين لا يحصيهم عد، يأخذون بأيدي بناتهم، ليدخلوهن إليها. . . فعدت أدراجي إلى شارع الصالحية فأخذت حافلة (الترامواي) إلى مدرستي في حي المهاجرين، في لحف جبل قاسيون

ولم يستقر بي في المدرسة مقام، حتى أقبل علينا شيخ من مشايخ المسلمين، على رأسه عمة بيضاء كأنها برج، وحول يده كم كأنه خرج، تتدلى منه سبحة لا يفتأ يعد حباتها ويلعب بها، وقد يخطئ مرة فيسبح عليها، يجر بيده ولدا، فخذاه مكشوفان وعلى رأسه كمة فقلت له:

- ما هذا يا شيخ؟ أعورة من أعلى، وعورة من أسفل؟ - قال: وما ذاك؟

- قلت: ألم يكفك تكشف عورته، وأنت تذكر الله، وتتلو كتابه، وتظهر منه ما أمر الله بستره، حتى تضم إلى العورة عورة أخرى تجئ فوق رأسهن فتلبسه القبعة؟

- فقال (ولوى لسانه وتفيهق وتشدق): ما هي بعورة في مذهبنا

- قلت: وما مذهبك يا مولانا؟

- قال: مذهب الإمام مالك

- قلت: ذاك لمن لا يفرق بين عورة الملتحي وعورة الأمرد، هذا الذي في مذهب مالك، لا مع مثل ابنك الذي لا تؤمن معه الفتنة

وإذا أنت فهمت مذهب مالك بهذا الفهم الأعوج، أفليس في الناس فساق، يأكلون عرض ابنك على مذهب مالك، ما دام مذهب مالك حجة يحتج بها كل ما جن وفاسق. . . رحم الله مالكا وجعل افتراءكم عليه حسنات له

وتركته وقمت إلى قسم الشهادة الابتدائية، أرى التلاميذ. . . فإذا أكثرهم لا يستر إلا نصفه الأعلى، وإذا هم متأنثون مائلون مميلون، فجعلت أسألهم من هنا وهناك، فقلت:

- ما شروط الصلاة؟ من يعرفها منكم؟

- قالوا: لا نعرفها، درس الديانة ليس من دروس الامتحان فلا نحفظه

- قلت: فماذا قرأتم في السنة الماضية؟

- قالوا: وماذا نقرأ، عندنا ساعة واحدة في الأسبوع. . .

- قلت: فلنبحث في التاريخ، من يحدثنا عن وقعة اليرموك، أو القادسية؟

- قالوا: ما قرأناها. . . نحدثك عن سيرة نابليون، ووقعة واترلو. . . هذا ما قرأناه وسنقرؤه في هذا العام. . .

وبعد. . . فهذا طرف من الحقيقة، وقليل من كثير من الواقع، نسوقه بلا تعليق!

(دمشق)

علي الطنطاوي