مجلة الرسالة/العدد 12/أدب القوة وأدب الضعف

مجلة الرسالة/العدد 12/أدب القوة وأدب الضعف

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1933



للأستاذ محمود الخفيف

أحس إذ أتناول هذا الموضوع أني بين عاملين: عامل الحياء وعامل الفخر. أما الحياء فأول دواعيه أن أعقب أنا الصغير على مقال أستاذنا العلاّمة أحمد أمين. وأما الفخر فحسبي أن يقرأ لي الأستاذ سطوراً قد تحظى برضاه في موضوع كهذا يعنيه.

يرى الأستاذ (أن الشاعر المجيد هو الذي يثير العواطف بقدر، ويبنيها على أساس عميق) ويرى أن الأدب في العصر العباسي كان أدباً ضعيفاً. إن أنت حصرته وجدته بين باك ومادح ومستهتر، ثم يرى أن عود الأديب الشرقي على نحو عود المغني الشرقي أشجى أغانيه أحزنها، وخير نغماته أبكاها.

وعلى ذلك يسمي الأستاذ ذلك النوع من الأدب الباكي الذي يتعمق في إثارة العواطف أدباً مائعاً، وذلك الأدب الذي لا يثيرها إلاّ بقدر أدباً قوياً، فهل يسمح لي الأستاذ أن أتجرأ فأقلب هذا الوضع، فأسمّي ذلك الأدب الوجداني الحاد الذي يبالغ في إثارة العواطف أدباً قوياً، وذلك الأدب الذي لا يمت إلى العاطفة بصلة قوية أدباً جافاً أو مائعاً؟

أرى الأنغام الوجدانية الحادة أساس الأدب الحاد، ولن يكون الأدب الحاد مائعاً، وأرى العبارات الخالية مما يثير العواطف أو التي تثيرها بقدر أساس التفكير العقلي، والخطوة الأولى نحو الفلسفة (القوية) ولن تكون الفلسفة القوية أدبا قويا، وعلا ذلك فما يسميه الأستاذ أدبا مائعا هو في الواقع أدب قوي، وأما ما يسميه أدبا قويا فهو فلسفة قوية.

والأدب والفلسفة شيئان: فالأدب لغة القلب، والفلسفة لغة العقل، والإنسان إنما يبدأ بقلبه فيفرح أو يبكي ويحب أو يبغض ويرضى أو يغضب ويأمل أو ييأس ويثور أو يهدأ حسب ما يحس من عواطف، فإن كان لابد من تخفيف حماسته، فليكن ذلك بشيء من حدة عقله، ولكني لا أرى تجريده من ذلك الحماس ولا أحسب ذلك ممكنا، إذ ما القلب بغير حماس؟ ثم ما الأدب بغير عاطفة؟

وإذا اشتدت العاطفة فكيف يكون الأدب مائعاً، وكيف تشتد العاطفة إلاّ إذا اشتدت بواعثها؟ وإذا ما اشتدت بواعثها فما القوة إن لم تكن القوة في إظهارها قوية رائعة؟

إن الإنسان بطبعه عسوف عنوف، لا يسكن إلاّ لعجز، ولا يرتدع إلاّ من خوف، ولا ي إلاّ عن ضعف ولا يقنع إلاّ مضطراً، ولو أطلق له العنان لكان شره مستطيرا ومكره خطيرا بيد أنه على غلظته لا يخلو قلبه من عواطف نبيلة، ولكنها خامدة، وميول خيّرة ولكنها كامنة، ولذلك فهي في حاجة إلى الإبانة والتنبيه، والأدب الوجداني الحاد يخاطب القلوب فيهزها ويستثير ما كمن فيها من نبل فيبعثه، ولذلك كان هو عماد المصلحين ودعاة الإنسانية، فإنك إن تخاطب الإنسان في منطق وفي عبارات جافة فقلّما يصغي إليك، وإن استمع فقليلا ما يعي، وإن أنت بدأت بقلبه فهززته في رفق وألنته بأنغام قيثارتك ثم أهبت به فقد يهوي إليك.

تحدّث شكسبير عن تأثير الموسيقى في النفوس فبدأ بالعجماوات فقال ما بال تلك الوحوش الكاسرة تسمع أناشيد الموسيقى فتقع متراخية وتظهر كأنها مأخوذة حائرة؟ وما بال ذلك العدد المضطرب من الخيل الجانحة يسمع الموسيقى فيهدأ فجأة ويسير في نظام كأنما تذهب الأنغام ثائرته وتسحره عن نفسه.

والأدب الوجداني موسيقى النفس، وموقفه من القلوب البشرية الفطنة موقف الموسيقى الحسية من تلك الخلائق الهائمة الثائرة، فهو الذي ينفذ إلى القلب ويختلط بالنفس فيلائم بين ذراتها وينظم تموجاتها. ويقلل من عنف الإنسان وجبروته فيجعله رقيقا وادعاً.

ولا تثريب على الشاعر، أو القصصي، أن يبكي فيبكي عيوناً تكاد أن تتحجر، ويفتح آذاناً ضربت عليها المطامع المادية ويهز قلوباً كانت لا تحفل دعاء أو تجيب رجاء.

وهو إن بكى على نفسه فغير ملوم، فإنما ينطق بما يحس، وبذلك ينفس عن قلبه، وقد تخفق قلوب معه وتهوي أفئدة إليه، وها هو ذا البارودي الفارس يقول:

أفي الحق أن تبكي الحمائم شجوها ... ويبلي فلا يبكي على نفسه حرّ؟

وماذا عليهم إن ترنّم شاعر ... بقافية لا عيب فيها ولا نكر؟

وهو في بكائه غير ضعيف، بل إن حدة عواطفه لتنهض دليلا على قوته، وإلاّ فما أضعف جيته ولامرتين وهوجو وأبا فراس والمعرّي وغيرهم ممن ضربوا على أوتار حزينة باكية!

ولقد بكى هؤلاء في شبابهم أعني في أيام قوتهم وبكوا لقوة إحساسهم ونبالة قصدهم وكمال إنسانيتهم.

ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعى التجلّد وهو غير جماد

وليس من الضروري أن يكون الشعر المتناهي في وصف ما يلاقي المحب من عذاب غير مؤسس على عاطفة صحيحة، لأن مثل هذا الشعر يكون ترجمة لإحساس الشاعر فما دام أنه محب فله أن يعبر عمّا يحس، وليس لنا أن نتهمه في ذلك بضعف، بل أنه يكون ضعيفا حقاً إن هو أحسّ عذاباً من وراء حبه ثم لم يستطع الإفصاح عنه.

ولم يكن الأدب العباسي ضعيفاً، لما جاء فيه من بكاء ومديح واستهتار، فإن الأدب في كل عصر صورة لذلك العصر، فإذا عبّر أدباء العباسيين عمّا يحسّون فلم نتهمهم بالضعف؟ وإذا كان أدبهم حزيناً باكياً يتخلله المديح والاستهتار فكيف كان يتسنى لهم أدب غيره، وإذا هم تطاولوا في غير عزّة وتفاخروا بغير فخر وضحكوا في غير مرح، أفما كنا نتهم أدبهم بأنه سقيم زائف أو بعبارة أخرى ضعيف مائع؟

ثم أن الضعف السياسي لا يسلتزم أن يكون وراءه ضعف في الأدب، بل لقد يكون الضعف السياسي ذاته سبباً قوياً من أسباب قوة الآداب كما يحدث عند انقسام الدول الواسعة كما كان الحال في القرن الرابع، وكما كان الحال عند الإغريق في مدنهم الحكومية وكما كان الحال في النهضة الإيطالية الحديثة.

وليت شعري لم لا يكون بكاء الشعوب على ما يصيبها قوة واستنهاضاً للهمم؟ هزمت فرنسا في حرب السبعين وخرجت ألمانيا متفاخرة بالنصر، فخاطب أحد الأدباء الفرنسيين الألمان الظافرين بقوله (نعم قد انتصرتم علينا ولكن ليس لديكم شاعر يشيد بنصركم كشاعرنا هذا الذي يبكينا على مصابنا) فهل كان بكاء الفرنسيين في ذلك الوقت ضعفا؟ اللهم لا.

وأما ما جاء عن مصعب بن الزبير حين استخفه الطرب وعن استخفاف المنصور به لذلك حتى جعله يتمثل بتلك الأبيات التي أوردها الأستاذ، فأقول أن مصعبا كان متغزلا وأن المنصور كان متفاخرا وشتّان بين الموقفين، فهذا تستملح فيه الرقة واللين وذلك لا يليق فيه إلاّ الصرامة والشدة. وإذا كان في كلام مصعب ضعف فماذا يكون في كلام الرشيد وهو يخاطب جارية بهذا البيت:

أما يكفيك أنك تملكيني ... وأن الناس كلّهم عبيدي؟

وبعد فيعجبني من الأستاذ قوله أن أرقى الأدب في نظره ما أحيا الضمير وزاد حياة الناس قوة، وهذا في رأيي هو الأدب الوجداني القوي هو ذلك الأدب الذي يرقق القلوب ويستثير الهمم ويطهر النفوس، هو ذلك الأدب الذي يجعل من الشيخ شاباً فتياً، وهو ذلك الأدب الذي يملأ المحاجر بالدموع والقلوب بالشفقة والحنان.