مجلة الرسالة/العدد 12/القصص

مجلة الرسالة/العدد 12/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1933



قصة سودانية

تاجوج ومحلق

ما كنت أحسب قبل أن يحدثني صديقي حمدان، إن بجانب الغاب أكواخا تحوي جمالا، وأن في أواسط البيد جنات يرف ورد الحياة الفيّاح فيها، وتتفتح أكمام العيش الهني عن زهرات من الحب السعيد والهوى البريء.

لذلك لم تتهيأ لي الفرصة لركوب السفين حتى انتهزتها ميمماً الجنوب إلى أن رست بنا على مرسى الغاب المزعوم.

وهناك انتقلت من ظهر السفين إلى ظهر الهجين، فأخذ يخب بي بين نجاد ووهاد، تارة في رأد الضحى، وطوراً في طفل الأصيل، حتى انتهيت إلى حيث أراد الدليل.

فأدرت ناظري فيما حولي من الأدغال يخفق قلبي روعة، ويذهب لي حيرة، وإذا بشيخ كهل قد ائتزر بمئزر، والتفع برداء، يقوم في جفاء البداوة، وجفوة الأعراب، ماذا تريد يا زول؟ قلت التمتع والاستطلاع، فأربد وجهه، وانقبض جبينه، وكأنما الشر قد جثم بين عينية، فانخلع قلبي حذر أن أكون استبحت حماه، ولكن صديقي دلف إلينا بسرعة، وحيا البدوي في حديث مرسل ينم عن سابق معرفة، وقديم صحبة، فهدأت نفسه وسكن غضبه، وانبسطت أسارير وجهه، ثم أقبل علي باشاً مصافحا.

فسألت ممن الرجل؟ قل: من بني عقيل بن جعفر بن أبي طالب، قلت: وأنا من بني الحسين بن علي بن أبي طالب، فعاد إلي مصافحا معانقا، وكانت المصافحة حارة، والعناق طويلا.

ثم ساق رواحلنا إلى كوخ من القش بجانب خيمة من الوبر، ونادى: يا ليلى! ابن العمومة من بني هاشم شرف أحياء العرب، فبرزت ليلى من خبائها كما يبرز البدر من خلال الغيوم، ثم قالت: يا بشرى! هذا ابن الريف، قرّة العين، وسليل الحسين، وأطلقتها زغرّدة دوّت في الفضاء، فمال حمدان برأسه وقال: لها الله ليلى من فتاة بارعة الحسن تامة الجمال! أنظر تر جسما مستقيما منتصبا كأنه قضيب بان، وعينين سوداوين فيهما سحر وفيهما دلال، وشعراً لا معقوصا ولا مظفوراً وإنما هو مدلّى كخيوط الليل، ووجهها تمتزج حمرته بسمرته فيبدو من امتزاجهما دم جذاب يرق حتى ليكاد يكون روحا، وثغرا كأنما يبسم عن در، ويفتر عن لؤلؤ فقلت: يا سبحان الله! أما قرأت: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم. . وكان حمد مضيفنا تجاوز الكوخ ليدعوا بعض غلمانه، فقلت لحمدان (وكان من طبعه الانقباض) إن كنت رجلا حقا فأطلقها ضحكة عالية في وادي الهموم، كما أطلقتها ليلى زغرّدة في أجواز الهواء. قال: كيف؟ والمدنية الحديثة جعلت فينا أمزجة منقبضة وطبائع سوداوية، فأضعنا نضارة الشباب في هم مبرح. ولم نتلقى غفلات العيش على ما في طيها من نعم وخيرات، كما يتلقى قطان البادية من الأعراب، وسكان الغابات من عجائز السود، شظف الحياة، وضيق العيش. بصدر رحب، وثغر بشوش.

قطعت علينا الحديث خادم عجوز سوداء لليلى. أتت ولا شيء يسترها غير رقعة تحجب سوءتها، ثم مدت سماطاً بديع النسيج الا أنه مهلهل، وعادت فأتت بمبخرة فيها عود أو صندل

ثم أتى حمد وخلفه جزور فنحره، وحمله الخدم بعد لطهيه، وجاءت أقداح الشاي واستمرت تدور المرة بعد المرة، وحمد يحدثنا بحديث عذب فيه رطانة الزنوج، ولحن الأعراب

حدثنا انه يتصل بعرب الحمران، وأن لهم أحاديث كالمسك، في الهوى العذري، والحب الطاهر، وأن منهم (تاجوج ومحلق) الذين ضربت بحبهما الأمثال، وتحدثت عن عفتهما الركبان

قلت: ومن تاجوج ومحلق؟

فأجاب، كانت تاجوج فتاة جميلة، لم تر بلاد السودان فتاة أجمل منها إلى اليوم، وقد بلغ من جمالها أن الناس كانوا يحثون المطايا ليروها ثم يعودوا، وكان أبوها يدعى (الشيخ أوكد) شيخ القبيلة، أحبها ابن عمها (محلق) وتزوجها، وفي يوم أسكره الحب وتيمه الغرام، فألح عليها ان تتجرد من ثيابها وتمشي أمامه عارية فامتنعت حياء، ألح مرة أخرى فامتنعت، ثم ألح ثالثة فقالت، إذا أطعتك فماذا تفعل؟

قال: أنفذ كل طلب لك

قالت: أقسم، فأقسم، فتجردت ومشت أمامه ذهابا وإياباً. إلى أن قال: كفى كفى!

ثم قال، اطلبي الآن ما تريدين. قالت: أن تطلقني في الحال، فطار صوابه، فوقع على قدميها يقبلهما ويسألها العفو فأبت الا البر بقسمه، فطلقها وهام على وجهه ينشد في حبها الأشعار كمجنون ليلى.

ثم تزوجت بعد طلاقها رجلا من وجهاء قبيلتها فتأثّر محلق فغلبه على ماله، المرة بعد المرة ثم رده إكراما لتاجوج.

وأخيرا اشتد عليه الكرب وأضناه الحب، فألح على أهله أن يمكنوه من رؤيتها، فذهبوا إليها وأخبروها لحاله فرقت له، وذهبت لرؤيته، فإذا هو طريح الفراش وحوله نساء ينددن بها ليصرفن قلبه عنها، فلما دخلت لم يسعهنّ الا الوقوف احتراما لجمالها وإعجاباً بها، وأجلسنها إلى جانب سريره فلما رأته على تلك الحال تنهدت وقالت:

أإلى هذا الحال وصلت يا حشاي وأنا لا أدري؟ ثم وضعت رأسه على ركبتها وكان قد أغمي عليه، فلما أفاق نظر إليها وأنشد أبياتا منها هذا البيت الذي ننقله بلغته ولحنه وصورته:

حبك في الضمير قاطع لأكباده ... تقتلي الزول سريع قبل الشهادة)

ثم شهق شهقة ومات مسلماً الروح.

ثم أطرق حمد طويلا برأسه إلى الأرض وعاد فنظر إليّ ساهما وقال: حدث بعد ذلك أن غزانا عرب (الهدندوة) فوقعت تاجوج أسيرة في أيديهم فاختلفوا فيها اختلافا كاد يفضي إلى سفك الدماء وأراد كل فريق أن تكون تاجوج من نصيبه

فنهض أحد مشايخهم وكان حازما، ونادى: (تاجوج) من خبائها، فلما أقبلت طعنها بخنجره في صدرها فماتت وحسم النزاع.

ماتت تاجوج، ولكنها ظلت حية في نفوس الذين قتلوها كما هي حية في قلوب بني وطنها جميعاً ولا زال قبرها إلى اليوم يزار (في رأس النيل) بين خور جب وكسلا، وما زال أهل السودان يضربون بها وبمحلق الأمثال.

ثم جاء الطعام على عادة العرب (كسرة، مرقة، وشواء) فكانت رغبتنا في التهام حديثه أكثر من رغبتنا في التهام طعامه

فقلت وهو يستطعمني فأطعم، ثم ماذا بعد؟ فان أعذب الحديث حديث المائدة خاصة مع العرب الأجواد فقال: ثم إن بطناً من عرب الحران حلّ بهذا المكان القريب من هذه الغابة فأنجباني أنا وليلى، فكنت معها كمحلق مع تاجوج، غير أنها وفت لي فلم تستبدل بي زوجاً، ووفيت لها فلم أدخل عليها زوجة، مع كثرة تعدد الزوجات في هذا الحي الذي ننزل به

وما كدنا ننتهي من طعامنا وشرابنا وأحاديثنا حتى كانت الشمس مضيفة للغروب، والقمر يستعد للجلوس على عرش السماء، بعدها، فتهيئنا للجولان بالغابة ومعنا معداتنا من حراب ورماح، وموعدنا ببقية الحديث رسالة أخرى.

محمد البنداري. مدرس بالخرطوم