مجلة الرسالة/العدد 120/أحلام السلام

مجلة الرسالة/العدد 120/أحلام السلام

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1935



وكيف انهارت في خمسة عشر عاماً؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

كان حلماً لم يطل أمده أكثر من خمسة عشر عاماً؛ ذلك هو حلم السلام الذي توهمت أوربا وتوهم العالم أنه سينعم في ظله حقبة من الزمن تكفي لبرء ما أثخنه من جراح، وما أصابه من استنفاد وتخريب وتحطيم. وقد لاح للإنسانية مدى حين أنها تستقبل عصراً جديداً من السلام والإخاء الدولي والتفاهم الحسن، واعتقدت الشعوب مدى حين أن قيام عصبة الأمم، وعقد مواثيق التحكيم، والتبشير بنزع السلاح، إنما هي عناصر جديدة في بناء العالم الجديد، وإنها الدعائم الأولى لصرح سلام جديد لا تزعزعه الشهوات القومية والنزعات الحربية؛ واستمر هذا الحلم يسطع حيناً ويخبو حيناً، زهاء عشرة أعوام، وبلغ ذروة قوته وروعته حينما عقد ميثاق تحريم الحرب الأمريكي، ونص فيه على أن الحرب قد حرمت كأداة للسياسة القومية، وتعهدت الدول بألا تلجأ في تسوية منازعاتها لغير التفاهم والتحكيم

ولكن حلم السلام تبدد فجأة، فرفعت عصبة الأمم قناعها المموه، وانهار مؤتمر نزع السلاح، وظهر أن ميثاق تحريم الحرب لم يكن أكثر من قصاصة ورق، واختفت أصوات الساسة الذين يستظلون بأحاديث السلام، وعلت كلمة الداعين إلى التسليح، وإلى تحطيم المعاهدات القديمة، وإلى الانتصاف القومي، وإلى تحقيق المطامع الاستعمارية. ولم يكن هذا التحول مفاجأة لأولئك الذين يعرفون سير التاريخ، ويستشفون طرف الحقيقة من وراء المظاهر الخادعة، ولكنه كان بالطبع مفاجأة أليمة للشعوب الآمنة التي ما زالت تحتمل على كاهلها كل عبء وكل تضحية في سبيل الشهوات السياسية والقومية، والتي ما زالت ترتجف فرقاً لذكريات الحرب الكبرى

كان مؤتمر الصلح الذي عقد في فرساي بين مارس ويونيه سنة 1919، أعظم مؤتمر دولي شهده التاريخ، وكانت معاهدة الصلح التي تمخض عنها هذا المؤتمر أعظم معاهدة عقدت بين الأمم، وأوسعها مدى، وأبعدها أثراً في سير التاريخ وفي تغيير أوضاع العالم الحديث؛ بل كانت معاهدة فرساي في الواقع دستوراً جديداً للعالم، تغير كثيراً من معالمه الجغرافية والتاريخية، وتقرر حدوداً جديدة، وتنشئ أمماً ودولاً جديدة، وتقضي على أمم ودول أخرى بالاختفاء من خريطة أوربا. ولم يكن ذلك لأن هذه الدول الجديدة أكثر حقاً في الحياة من الدول المختفية، أو لأن قيامها يكون أكثر تحقيقاً للعدالة الدولية وسير التاريخ، ولكن لأن قيامها يحقق شهوات عسكرية وسياسة للدول الظافرة، ولأن اختفاء الأمم القديمة يقضي على وحدات سياسية وعسكرية ضخمة كانت تخشاها الدول الظافرة. وقد عرف التاريخ الحديث كثيراً من هذه المعاهدات والمؤتمرات الدولية الكبرى التي كانت تغير معالم أوربا، وتفتتح في تاريخها عصراً جديداً، فمعاهدة وستفاليا التي اختتمت بها حرب الثلاثين في سنة 1648، ومؤتمر فينا الذي عقد في سنة 1814 لتسوية المشاكل والتغييرات التي أحدثتها الحروب النابوليونية، ومؤتمر برلين الذي عقد على أثر الحرب التركية الروسية (سنة 1878)، والذي أسفر عن تمزيق الدولة العثمانية القديمة، وسلخ معظم أملاكها الأوربية، كلها أمثلة من هذه المؤتمرات الشهيرة الحاسمة ذات الأثر البعيد في مصاير التاريخ والأمم؛ ولكن مؤتمر فرساي كان أعظمها جميعاً وأبعدها أثراً

وقد ظن العالم بعد أن شهد مصائب الحرب وويلاتها المروعة مدى أربعة أعوام، إنه يستطيع أن يعتصم من خطر الحرب بدروسها وعبرها الأليمة، وإن ما لقيته من فظائعها وأهوالها في هذه الفترة السوداء من تاريخ الإنسانية، كفيل بأن يزهدها في الحرب وخوضها أمداً طويلاً؛ وقامت عصبة الأمم لتكون أداة صلح وتفاهم بين الدول المتنازعة، ونظم مؤتمر نزع السلاح ليعمل على تحديد التسليح إلى الحد الذي يتفق مع السلامة القومية، وعقد ميثاق لوكارنو ليكون دعامة في صرح التفاهم بين أعداء الأمس، ولقرب ما بين فرنسا وألمانيا، وعقدت بين مختلف الدول مواثيق بعدم الاعتداء، وكللت دعوة السلام بعقد ميثاق تحريم الحرب، وغمرت صيحة السلام والتفاهم جو السياسة العالمية مدى حين؛ ولكن هذه المظاهر الخلابة لم تك إلا ستاراً خادعاً تضطرم من ورائه ضرام الأحقاد والمنافسات القومية الخالدة؛ فقد كانت الأمم الظافرة والمغلوبة معاً تجد في مضاعفة تسليحها وأهبتها العسكرية، وكانت المعاهدات والمحالفات السرية تعقد كما كانت تعقد من قبل، وتؤلف من الدول جماعات وكتل خصيمة مثلما كانت بالأمس؛ وكانت عصبة الأمم أثناء ذلك تنحدر شيئاً فشيئاً إلى أداة لينة في يد الدول الكبرى توجهها لتحقيق مآربها السياسية أو الاستعمارية؛ وهكذا وقف العالم فجأة على الحقيقة المرة، وهي أن هذه الخمسة عشر عاماً التي انقضت على خاتمة الحرب الكبرى لم تكن إلا فترة استعداد واستجمام، تستعيد فيها الدول نشاطها وتنظم اهباتها ومواردها، تحفزاً لحرب أخرى

وكما أن الحرب الكبرى كانت فورة المطامع والأهواء الاستعمارية والمنافسات التجارية والصناعية، فكذلك ستكون حرب الغد؛ وقد ظهرت بوادرها الأولى، بل لقد أضرمت شرارتها الأولى بذلك الهجوم البربري الذي نظمته إيطاليا عن عمد وسبق إصرار لغزو الحبشة؛ وليس في تاريخ الاستعمار كله اعتداء دبر بمثل هذا الإصرار الآثم والصراحة المثيرة، وإن كان تاريخ الاستعمار كله يقوم على العدوان والجريمة؛ وهذه الشرارة التي تضرمها إيطاليا الفاشستية تسطع الآن في أرجاء أوربا، وقد يندلع لهيبها بين آونة وأخرى؛ ولكن إيطاليا الفاشستية تتحدى أوربا كلها والعالم كله، ولن يضيرها أن تضطرم أوربا غداً بنار حرب عامة؛ ذلك أنها تذهب بعيداً في الاعتداد بقوتها واستعدادها وما تثيره فكرة الحرب من الذعر والروع، وقد أخذت بنفس الأحلام القيصرية التي أخذت بها العسكرية البروسية في الحرب الكبرى. ولقد كانت الفاشستية منذ قيامها بالنسبة للمثل الإنسانية العليا عاملاً من عوامل الدمار والهدم، فقد هدمت صرح الديموقراطية والنظم الحرة والكرامة الفردية ومبادئ العدالة الخالدة، وجعلت من الشعب كتلة مصفدة مسوقة، تدفعها إرادة الطغيان المسلح إلى حيث لا تعلم ولا تبغي؛ والفاشستية تنزع بطبيعتها إلى العنف والعدوان ولا تعتمد إلا على القوة الهمجية، كما أنها لا تخضع لغير هذه القوة؛ وهي تجوز الآن في إيطاليا - وفي ألمانيا - ذروة تجاربها ومغامراتها؛ وسنرى ما إذا كان هذا الاندفاع الدموي الذي تصوره عقلية الفاشستية العنيفة في صور العظمة والمجد القيصري، سيغدو قبراً للفاشستية أم سيحقق شيئاً من مطامعها وأحلامها

وهكذا تطورت فكرة الحرب والسلام بسرعة، وعادت فكرة الحرب كأداة للسياسة القومية تتخذ مكانتها الخالدة في تفكير الأمم القوية؛ ولم تكن فكرة السلام العام سوى حلم وخدعة، استظلت بها الدول الظافرة حتى تستر نصرها وتفوقها المسلح، واستظلت بها الدول المغلوبة حتى تستأنف استعدادها وتسلحها؛ ولم يكن من المعقول أن يبقى الظافر متغلباً إلى الأبد، ولم يكن من الممكن أن يبقى المغلوب ضعيفاً مهيضاً إلى الأبد؛ والآن نجد أعداء الأمس - الغالب والمغلوب - وجهاً لوجه، يلوح كل منهما بقوته واستعداده، ويفصح عن مطامعه وغاياته التي كان يسترها بالأمس لضعف في أهبته؛ نرى ألمانيا بعد أن استعادت حريتها في التسليح وأخذت تستأنف أهبتها العسكرية، تطالب بتعديل حدودها واسترداد مستعمراتها؛ ونرى فرنسا تعمل بكل ما وسعت لمضاعفة أهباتها وتوطيد الجبهة التي حشدتها ضد ألمانيا، ونراها لا تحجم في هذا السبيل عن مناصرة إيطاليا في مشروعها الدموي لافتراس الحبشة، لكي تستبقي صداقتها وعونها ضد ألمانيا في الغد المرتقب، ونرى حمى الحرب تسري إلى جميع أرجاء أوربا، والدول جميعاً تأخذ أهبتها لمعركة عامة لم يبق على نشوبها إلا مسألة زمنية، وقد تنشب في أية لحظة في أسابيع أو أشهر قلائل

والخلاصة أن العالم، بعد أن تبدد حلم السلام الزائف يجد نفسه في نفس الحالة النفسية والواقعية التي كانت في سنة 1914؛ وبعد أن كان حديث الحرب قبل عامين أو ثلاثة يعتبر مسألة بغيضة بعيدة الاحتمال، إذا بشبح الحرب الأوربية يحلق في الأفق واضحاً قوي النذير، وليس من ريب في أن الفاشستية تحمل كثيراً من تبعة هذا التطور الدولي الخطر؛ ولقد كان انهيار الديموقراطية في إيطاليا وألمانيا وغيرهما محنة بعيدة الأثر؛ ذلك أن الديموقراطية أكثر إيماناً بمبادئ السلام والإنسانية؛ وأما الفاشستية وزعامتها الغاشمة فلا تؤمن إلا بالقوة العنيفة، ولا تؤمن بحق الفرد أو الأمة، ولا تسيرها سوى العوامل والشهوات الحزبية والمذهبية الضيقة؛ وقد عملت الفاشستية باستمرار على إذكاء الأحقاد الجنسية والقومية، وعلى إضرام روح العدوان والحرب، وإضرام المطامع والمنافسات القديمة التي كانت من أكبر العوامل في إثارة الحرب الكبرى، فهي اليوم تحمل أكبر تبعة في خلق هذه العقلية العسكرية المتحفزة التي تعمل لإشعال نار الحرب بكل ما وسعت من جرأة واستهتار بكل مبادئ الحق والسلام

إن التاريخ يعيد نفسه بصورة واضحة؛ ولقد كانت القوة وما زالت خلال العصور عماد السياسة القومية؛ وليس التاريخ كله سوى مراحل متعاقبة من نضال قومي لا تفوَّق فيه لغير القوة الغاشمة، ولم يتقدم العالم خطوة في هذا المعنى عما كان عليه في العصور الوسطى؛ ولقد كان ممكناً أن تكون عصبة الأمم ومبادئها رمزاً للتقدم في تقدير الحقوق القومية والسلام العالمي، لو لم تعرض العصبة منذ بدايتها لتأثير نفس الأهواء بوسائل وأسماء أخرى،، ولو لم تنابذها دول قوية كاليابان وألمانيا، لأنها لم تستطع أن تؤثر في توجيهها؛ وهاهي ذي عصبة الأمم تواجه قدرها المحتوم، فإما أن تستطيع بكثير من الشجاعة والجرأة أن تضرب على أيدي أولئك الذين عبثوا بمبادئها واجترأو على تعكير السلم، وأن تنفذ ما اتخذته أخيراً من القرارات الحازمة، وعندئذ تسترد كل ما فقدت من هيبة، وترد إلى الشعوب الضعيفة شيئاً من الأمل، وكثيراً من الثقة؛ وإما أن يخونها التوفيق مرة أخرى، فينهار آخر حجر في صرح التفاهم الدولي، وتنطلق الشهوات القومية من عقالها سريعة لا تلوي على شيء، وعندئذ يضطرم العالم مرة أخرى بضرام حرب يعلم الله وحده مداها ومبلغ هولها وروعتها

محمد عبد الله عنان