مجلة الرسالة/العدد 120/أحمد شوقي

مجلة الرسالة/العدد 120/أحمد شوقي

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1935


بمناسبة ذكراه الثالثة

اجتمع رأي الناس - ما عدا الشعراء - على أن شوقي طيب الله ذكره، كان تعويضاً عادلاً عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحي الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان العربي قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبثة في الكون، وأسرار الجمال المضمرة في الطبيعة، ومعاني الخير الغامضة في الحياة؛ وأن فقده كان فقداً للوجدان الفني في الشعب الذي علمه كيف يتذوق الأدب ويستسيغ الشعر وينضح عواطفه الجافة بفيض هذه القريحة النابغة الثَرَّة؛ فالأعوام تعقب الأعوام، والذكرى تخلف الذكرى، والأسى لا يزال يُرمض الجوانح لامتناع الصبر عليه واعواز العوض منه؛ فسيبقى شوقي كما وضعه القدر كمالاً في نقص كان، وهيهات أن يصير نقصاً في كمال سيكون؛ وسيدور الفلك ويدور، ويقصد النقد ويجور، ويتطور الذوق ويسمو، وشعر شوقي ثابت ما ثبت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقي العرب!

ذلك لأن الطبيعة اختارته لرسالة الشعر بعد فثرة موئسة من الرسل، ثم آثرته بالنصيب الأوفى من الفكر والخيال والعاطفة، وهن الملكات الثلاث التي ترفد القريحة وتمد الطبع، وعلى تفاوتها في القوة والضعف يتفاوت الفنان في السبق والتخلف؛ ثم زوّدته بالأذن الموسيقية والقريحة السخية والأداة الطيعة، فشب عبقرياً بالفطرة، لا شأن للبيئة في تنشئته، ولا للمدرسة في إعداده، ولا للفرصة في توجيهه؛ وهل كان أثر البيئة وقفاً عليه، وتعليم المدرسة خاصاً به، ومواتاة الفرص امتياز له؟ إنما كان مثله في رسالة الشعر كمثل الأنبياء في رسالة الدين، يختارهم الله من الضعفاء والفقراء والأميين ليكون جلاله عليهم أبهر، ومعجزته فيهم أظهر، وحجته منهم أبلغ

وشوقي رجل روحه أقوى من فنه، وشعره أوسع من علمه، وحكمته أمتن من خلقه، وقدرته أكبر من استعداده، فلا يشك قارئه في أنه وسيط لروح خفية تقوده، ورسول لقوة إلهية تلهمه؛ وما اكتسب من القراءة والأسفار إلا إرهاف الذوق، وتحصيل المادة، وتوسيع الخبرة؛ والذوق في الفن كالعقل في العلم إنما يحصلان بالدرس والتجربة والسن؛ والطبيعة تصنع صاحب العبقرية، ولكنها تبدأ صاحب الذوق

الشاعر المطبوع رجل يتأثر خياله بقوة، وينفعل قلبه بسرعة، ثم يكون بين خياله وقلبه تجاوب سريع مستمر؛ له أذن مرهفة الحس تفطن للإيقاع وتطرب للنغم، وذوق سليم الإدراك يعرف جمال الشعر ويعلم مواقع الكلم، ونفس ترى المُثُل الروائع فتحمَى وتتحمس، ثم يدفعها السمو الفني فيها إلى المنافسة الحرة والمعارضة النبيلة؛ وإذا تناول الفكرة الأساسية الأولية لموضوع ما، لا يلبث أن يراها في دخيلة نفسه تنمو وتتسع وتتركب وتتشعب وتتلون، ثم تغدو ولوداً خصبة؛ ثم لا ينفك شاعراً بالحاجة الملحة إلى الإنتاج الناشئ عن غزارة الفيض وحرارة العاطفة؛ ثم يدرك في يسر ما بين المعاني المجردة والمواد المحسَّة من علاقة، فيتخذ من هذه ألواناً لتلك، بحيث تولد هذه الأفكار في الذهن مكسوة بهذه الصور؛ تتمثل في خاطره المواد من ذات نفسها على الوجه الأنسب للتصوير والوضع الأجمل في النظم، فإذا كان الموضوع مؤثراً انثالت عليه العواطف معجلة تريد أن تظهر، مزدحمة تحاول أن تفيض

ذلك هو الشاعر المطبوع، وذلك هو شوقي؛ علمناه بالدرس، وعرفناه بالصحبة، فما انخزل يوماً في تحليقه وإسفافه عن مواقف العبقرية. ولئن كان في شعر شبابه مأسور الفكر، محصور الخيال، محدود النظر، لا يعبر إلا عن رأي القصر، ولا يصور إلا بألوان البيئة، لقد كانت هذه الحقبة الرسمية غيبة للشاعر عن نفسه، وذهولاً منه عن وجوده؛ وقديماً كانت صلات الشعراء بالملوك والخلفاء عاهة الشعر وآفة العبقرية، فلما أعتقته الحرب من رق الوظيفة، وأطلقته إنجلترا بالنفي إلى الأندلس، تيقظ فيه الرسول الشاعر والحكيم المصلح، فحلق بخياله في كل جو، وسطح بعقله في كل أفق، وشدا بالإسلام والعروبة والمصرية شدوا ردده كل لسان واهتز له كل قلب؛ ثم زاد في القيثارة العربية الأوتار الناقصة، فأضاف الشعر القصصي والشعر التمثيلي إلى شعرنا الغنائي؛ فكان بذلك وحده الشاعر الكامل!

شوقي كله من صنع الطبيعة، ولد منشداً كما ولد البلبل مغرداً؛ فالحكم على شعره بقوانين النقد الوضيعة، وآراء الناقدين الشخصية، لا يضعه في مكانه، ولا يزنه بميزانه. اقرأه ثم راجع فيه نفسك، واستشر في أثره حسك، فإذا وجدت ذهنك يشتغل، وشعورك يشتعل، وروحك تتصل بروحه، وذوقك يرتاح لذوقه، فثق أنك بازاء شاعر علت مزاياه على النقد، وسخرت مواهبه بالقيود:

إن شوقي سيظل على رغم الهتاف به مغموط الحق مادام الشعر العربي للخاصة، لأن الخواص أكثرهم لا ينصفونه، والعوام كلهم لا يفهمونه، فمتى زالت معرّة الأمية عن الأمة العربية أصبح لشعره يومئذ شأن وأي شأن

أحمد حسن الزيات