مجلة الرسالة/العدد 122/بين المعجزة والعلم

مجلة الرسالة/العدد 122/بين المعجزة والعلم

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 11 - 1935



للأستاذ زكي نجيب محمود

أخي س:

. . . لم أكن أتوقع من صروف الدهر مهما أسرفت في عبثها، أن تُخرج منك، وأنت القديس المتبتل في يفوعتك، زنديقاً يكفر بما كان يؤمن به قلبك ويدين!! حتى جاءتني هذه الرسالة منك، ففضضتها وأجلت فيها البصر سريعاً، فإذا بصفاتك تختفي وتتنكر، وإذا بك تبدو لعين صديقك إنساناً غريباً يشك بعد يقين، وينكر بعد إيمان! لقد مضيت في كتابك لي ترفض كل ما يزعمه الناس من المعجزات وخوارق الطبيعة، وتلوح في كل سطر بالعلم وقوانين العلم، وتعتز في كل سطر بالفلسفة ونتائج الفلسفة؛ ثم ختمت الرسالة بهذه العبارة أخذتها من كتاب سبينوزا (في الدين والدولة): (يظن الدهماء أن قوة الله وسلطانه لا يتجليان بوضوح إلا بالحوادث الخارقة التي تناقض الفكرة التي كونوها عن الطبيعة. . . إنهم يظنون أن الله يكون مُعَطَّلاً ما دامت الطبيعة تعمل في نظامها المعهود، وعكس ذلك صحيح، أي أن قوة الطبيعة والأسباب الطبيعية يبطل عملها ما دام الله فعَّالاً؛ وهم بذلك يتخيلون قوتين منفصلة إحداهما عن الأخرى: قوة الله وقوة الطبيعة؛ والواقع أن الله وقوانين الطبيعة شيئ واحد). ولقد ساءلتني بعد ذلك قائلاً: (ما حاجتك إلى التمسك بالمعجزات وخوارق الطبيعة ما دام العلم يفسر لنا كل شيئ بقانون؟!)

وإني لأستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بما انتهى إليه هذا العلم نفسه، من أن الطبيعة المادية لا تسير وفق قانون صارم كما يذهب بك الظن، بل إنها قد تغير سلوكها بما لا يمكن التنبؤ به، كالكائنات الحية سواء بسواء؛ وإن هنالك بين أساطين العلم من يزعم أنه ليس في الطبيعة كلها ذرة واحدة تخلو من الحياة أو ما يشبه الحياة، وكل الفرق بين حياتها وحياة الإنسان هو في الدرجة لا في النوع، فكما أنني لا أستطيع أن أتنبأ بما أنت فاعله غداً، كذلك لا يستطيع العلم أن يقطع جازماً بما ستؤول إليه هذه الذرة أو تلك، لأنها يا سيدي تتمتع بشيء مما تتمتع به أنت من حركة وإرادة، وليست مجرد آلة صماء في يد القانون!! ولكن يجب أن أسارع إلى القول بأنه وإن تكن الذرة الفردية على شئ من الحياة التي تغير في سلوكها، فإنها في مجموعها أقرب ما تكون إلى النظام الدقيق في سيرها، كما أن الإنسان الفرد حُرٌّ في تصرفه إلى حد بعيد، ولكنه في المجموع يسير وفق أسس وقواعد لا تكاد تعرف الشذوذ.

نعم أستطيع أن أقوض علمك هذا من أساسه بضربة واحدة حين أُذكّرك بهذه الحقيقة العلمية التي تعترف للطبيعة بإمكان التغير في بعض جوانبها، فذلك وحده كفيل بتعليل أي تبديل في نظام الكون المعهود، ولكني سأفرض معك أن قوانين الطبيعة يستحيل عليها الخطأ، وأن المادة لا تملك لنفسها تغييراً ولا تبديلاً عما رسمه لها قانونها الأعلى، فمن ذا الذي زعم لك أن المعجزة كسر لقانون الطبيعة، وإنه لذلك يجب اطراحها ونبذها؟ نحن نسلم معك أن قانون الجاذبية صارم لا يقبل الشذوذ، وأن التفاحة إذا انفصلت عن فرعها سقطت من فورها على الأرض بفعل قانون الجاذبية هذا، ولكن هب يداً امتدت إلى التفاحة أثناء طريقها إلى الأرض فلقفتها فحالت بذلك بينها وبين الأرض، أيكون ذلك كسراً للقانون؟ كلا! القانون لا يزال قوياً سليماً، غير أن إرادة بشرية حالت دون تطبيقه لا أكثر ولا أقل. . . أإذا تركت أقلامك وكتبك مبعثرة في أرض غرفتك ثم عدت بعد حين فوجدتها صعدت إلى ظهر المكتب صفوفاً منظمة، أفنقول إن قانون الجاذبية قد انقلب رأساً على عقب لأن الكتب والأقلام قد صعدت إلى أعلى بدل أن تستقر على الأرض منجذبة بها؟ أم أنت جازم في مثل هذه الحالة بأن شخصاً بشرياً قد تدخل في الأمر بإرادته وحال بين قانون الجاذبية وبين تنفيذه حيناً، فأمكن للكتب بذلك أن تفلت من يده، ولكن القانون لا يزال قائماً لم يخدش ذلك من قوته وشموله؟! لا أحسبك مرتاباً في صحة هذا القول، فأنت موافقي ولا شك أن الإرادة البشرية قد تستطيع أن تتوسط بين القانون وبين تطبيقه فتعطله دون أن تبطله، نعم إنك موافقي على ذلك، ولكني لو حورت العبارة قليلاً سائراً بها نحو الأقوم والأصح فستغضب للعلم وكرامة العلم؛ لو زعمت لك أن لله إرادة حرة كهذه التي للإنسان، يستطيع بها أن يعطل قانون الطبيعة حيناً قد يقصر أو يطول ولكنه يظل قائماً معمولاً به لا يصيبه عطب ولا خسارة، كان ذلك الزعم مني في رأيك جهلاً وحماقة، يا رعاكالله! أفتستطيع أن تحدثني بما يبرر عندك أن يكون للإنسان ما ليس لله؟!!

معذرة، يا صديقي، فسأقص عليك حديثاً عن كلبي، وللحديث صلة بموضوعنا، فقد وضعت كتاباً بالأمس على مقعد إلى جانبي، فجاء الكلب يتحسس ويتجسس ويشم الكتاب، وأظنه قد حسبه قطعة من الجماد لا خير فيها، فترك الكلبُ الكتاب وانصرف؛ وإذا فرضنا أن التفاهم مع الكلب ممكن، ثم جئت تقسم له أن في الكتاب ما ليس يدرك بالشم واللمس، وأن فيه معنى إذا كان لا يدركه هو فليس عجزه دليلاً على عدم وجوده، نفر وسخر وأكد لك أن حواسه مقياس للحقيقة لا يخطئ. . . وإني لأحسب الكون يا صديقي كتاباً مفتوحاً فيه من المعاني السامية ما يمكن فهمه وإدراكه لذوي البصيرة السليمة. ولكني أؤكد لك أن هنالك طائفة من الناس ستمد أيديها وأنوفها إلى جوانب الطبيعة تتحسسها، ثم تجزم في يقين لا يعرف الشك ولا التردد بأن هذه الطبيعة جماد في جماد يسيره هذا وهذا من القوانين في طريق مرسومة معلومة لن تشذ فيها خارقة ولا معجزة. . . وأعجب العجب أن تكون هذه الطريقة الكلبية علماً، وأن يكون كل ما عداها تخريفاً وجهلاً.

نشدتك الله إلا حدثتني كيف جاز لك أن تقطع أن ليس في الكون من الحقائق ما تعجز عقولنا وحواسنا عن إدراكه؟ ولم لا يكون في هذا الكون الفسيح من هو أكبر منا عقلاً وأحد ذكاء فيستطيعفي كتاب الكون ما لا نستطيعه؟ ترى لو أتانا الله حاسة سادسة وسابعة وثامنة، فماذا عسانا نعرف بتلك الحواس الزائدة، أم تظل أبواباً مغلقة لأن العلم قد نفد؟!

تعال معي إلى الكون نحتكم إلى ظواهره لنرى هل استطاع العلم أن يعللها جميعاً، أم أن هناك ألوفاً وألوفاً يقف أمامها العلم مكتوف الأيدي ولا يمكن فهمها إلا أن تكون (خوارق) فوق العلم وقوانينه. أم تُراك فاعلاً كما يفعل ذوو النزعة المادية الضيقة، فتطأ بقدمك كل الظواهر التي تستعصي على العلم وتنكر وجودها حتى لا ينثلم العلم ولا ينخدش، أو تطلب إلينا أن نصبر وأن ننتظر حتى تتم للعلم قوته وفتوته فيشمل الكون كله بالتفسير والتعليل؟ وفي الحق أن هذا السلاح الذي يشهره الماديون_سلاح التسويف والوعد بأن العلم سيتمكن في المستقبل مما لم يتمكن منه اليوم_يمكن استخدامه في كل حين، فليس بيننا وبينهم موعد يبطل بعد التسويف، ولكنها مماطلة متجددة لا تنقطع ولا تفرغ؛ فإذا فرضنا أن رجلاً استطاع أن يحز رأسه ويحمله فوق يديه سائراً به في الطريق، ثم سألت الماديين رأيهم في هذا أجابوك: اصبر فإن الزمن كفيل للعلم أن يبرهن على هذه الظواهر وأشباهها، فليس ذلك على العلم بعزيز. . . ولكن هل يتفق وروح العلم أن نلجأ إلى دليل غير موجود؟ أم أنه أحجى وأقرب إلى الصواب أن نعلل الظواهر بالأدلة التي بين أيدينا، حتى ولو تعارض ذلك مع آرائنا؟ فماذا يمنع أن نفرض أن هنالك قوى غير مادية تفعل فعلها وتؤثر في مجرى الطبيعة فتنتج كل هذه الخوارق والمعجزات؟

ولكن الماديين يركبون رؤوسهم ويحاولون أن يعللوا بقوانين العلم كل شئ، فإن عجزت أمهلونا إلى المستقبل القريب أو البعيد. والعجب أن لهؤلاء الماديين (شطحات) في التفكير تدعو إلى التأمل، فأنت إذا سألتهم مثلاً كيف نشأت هذه الخلائق؟ أجابوك: تسلسلت نوعاً عن نوع وجنساً عن جنس، وأصلها كلها خلية واحدة. . . حسن! وكيف نشأت هذه الخلية الواحدة؟ إنها تولدت بطريقة تلقائية آلية من الجماد! فانظر إليهم كيف تجيز لهم عقولهم صدق هذا النبأ مع أنه على فرض أنه صحيح فقد حدث في ماض بعيد سحيق، ولم يشهده شاهد ولا سجله مسجل، ولكنهم مع ذلك يقبلونه راضين مختارين؛ ثم إذا عرضنا عليهم خارقة من خوارق الطبيعة مما يقع على مرأى منا ومسمع، أنكروها في حمق مع أنها حاضرة بين أيديهم وليست بالماضي البعيد، وهي مشاهدة ومسجلة فكانت أجدر بالتسليم والقبول من تلك (الخارقة) البعيدة_ونسميها خارقة لأنه ليس من قوانين الطبيعة فيما نظن انبعاث الحياة من الجماد! ولكن القوم يختارون من الآراء والعقائد ما يتفق مع مذهبهم، كما يتخير النساء أزياءهن لكي تلائم ألوانهن وأجسامهن.

هب يا صديقي جماعة قد ارتطمت سفينتهم على جزيرة مهجورة لا أثر للحياة فيها، ولكنهم ألفوا على أرضها آثار أقدام ليست من آثارهم هم، فبماذا يعللون هذه الظاهرة إلا أن أناساً غيرهم كانوا بالجزيرة منذ حين؟ أظن هذا منطقاً لا صعوبة فيه ولا التواء: لكل أثر مؤثر، فإن رأينا أثراً ولم نجد بيننا مؤثره أيقنا أن هذا المؤثر لا بد أن يكون موجوداً في غير مكاننا. وها نحن أولاء ننظر فنرى أنفسنا فوق هذه الجزيرة المهجورة التي تسبح بنا في الفضاء، ثم ننظر فإذا بآثار لا يحصيها العد تفرض علينا فرضاً أن أحداً غيرنا قد اتصل بهذه الجزيرة وهو يتصل بها في كل حين ليحدث هذه الآثار.

ولست أدري ماذا يضيرك أن تعلل بالعلم ما يمكن العلم أن يعلله، وأن تُرجع إلى القوة التي فوق الطبيعة كلَّ ما تصادف من خوارق ومعجزات؟ يقول الماديون إن إدخال (الله) في مجرى الطبيعة عجز وقصور عن التعليل الصحيح، ويزعمون أن الإنسان الأول كان يفسر كل شئ بقوة الآلهة لقلة محصوله من العلم، فكان إذا اكتسب شيئاً من العلم يعلل به ظاهرة ما، أسقط هذه الظاهرة من دائرة نفوذ الله وأدخلها تحت سيطرة العلم؛ وهكذا أخذ العلم ينمو ويتسع كما أخذت العقيدة في تأثير الله على سير الطبيعة تضؤل وتضيق، وهم يرجون أن يطرد نمو العلم حتى يشمل الكون جميعاً ويفسر (الظواهر) كلها بغير استثناء؛ وهم بناء على ذلك يرفضون رفضاً قاطعاً أن يعللوا شيئاً إلا على أساس واحد: هو قانون الطبيعة ويلفظون من حظيرتهم كل من يحاول أن ينسب شيئاً إلى قوة أخرى غير قوة الطبيعة وقانونها! وقديماً كان العالم أو إن شئت فقل الكاهن يفسر كل شئ بقوة الآلهة وحدها، وينبذ كل من يحاول أن يفسر شيئاً على غير هذا الأساس! فهل ترى فرقاً بين الكاهن القديم والعالم الحديث؟ كلا، فكلاهما متعصب محدود الفكر، ضيق النظر، ولعمري إن العالم الماديِّ الحديث لم يزد على أن ارتدى رداء سلفه الكاهن مقلوباً ظهراً لبطن!

لعله أقرب لروح العلم الصحيح أن نتناول الأبحاث أحراراً من كل قيد، فلا نفرض لأنفسنا أساساً معيناً للبحث لا نمدوه، أعني أنه لا ينبغي أن نحتم على أنفسنا أن تفسر كل شئ بكذا أو بكذا؛ وإلا كنا كعلماء الفلك الأقدمين الذين كانوا ينظرون في السماء ويبحثون في النجوم على شرط أن يكون بحثهم مقصوراً على ما هو معروف من النجوم، فإن ظهر كوكب أو نجم جديد أنكروه ورفضوه!!

أردت يا أخي أن تكون حراً في البحث فكبلت نفسك بالأغلال والقيود! فارفع عن بصرك هذه الغشاوة عسى أن يهديك الله سواء السبيل.

زكي نجيب محمود