مجلة الرسالة/العدد 123/المشكلة

مجلة الرسالة/العدد 123/المشكلة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935


مُشكِلَة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قالت لي صاحبةُ (الجمال البائس) فيما قالت: إن المرأةَ الجميلة تخاطب في الرجل الواحد ثلاثة: الرجلَ وشيطانه وحيوانه؛ فأما الشيطان فهو معنا وإن لم نكن معه. . . وأما الحيوان فله في أيدينا مقادةٌ من الغباوة، ومقادةٌ من الغريزة، إذا شمَسَ في واحدة أصحب في الأخرى وانقاد؛ ولكن المشكلة هي الرجل تكون فيه رجولة.

نعم إن المشكلة التي أعضلتْ على الفساد هي في الرجل القوي الرجولة يعرف حقيقةَ وجوده وشرفَ منزلته، ولهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يكون بين الوقت والوقت في اليوم الواحد خارجاً من صلاة.

وإنما الرجولةُ في خلالٍ ثلاث: عمل الرجل على أن يكون في موضعه من الواجبات كلِّها قبل أن يكون في هواه؛ وقبوله ذلك الموضع بقبول العامل الواثق من أجره العظيم؛ والثالثة قدرته على العمل والقَبول إلى النهاية.

ولن تقوم هذه الخلال إلا بثلاثٍ أخرى: الإدراك الصحيح للغاية من هذه الحياة؛ وجعل ما يحبه الانسانُ وما يكرهه موافقاً لما أدرك من هذه الغاية؛ والثالثة القدرة على استخراج معاني السرور من معاني الألم فيما أحبّ وكره على السواء.

فالرجولة على ذلك هي إفراغ النفس في أسلوب قوي جزل من الحياة، مُتساوقٍ في نَمط الإجتماع، بليغ بمعاني الدين، مصقول بجمال الإنسانية، مسترسل ببلاغة وقوة وجمال إلى غايته السامية.

ولهذه الحكمة أسقطت الأديان من فضائلها مبدأ إرضاء النفس في هواها، فلا معاملة به مع الله إلا في إثم أو شر؛ وأسقطه الناس من قواعد معاملتهم بعضهم مع بعض، فلا يقوم به إلا الغش والمكرُ والخديعة، وكلُّ خارج على شريعة أو فضيلة أو منفعة اجتماعية، فإنما ينزع إلى إرضاء لنفسه وإيثاراً لها وموافقة لمحبتها وتوفيةً لحظها؛ وعمله هذا هو الذي يلبسه الوصفَ الإجتماعي الساقط ويسميه باسمه في اللغة، كالرجل الذي يرضي نفسه أن يسرق ليغتني، فإذا أعطى لرضاه فهو اللص، وكالتاجر في إرضاء طمعه هو الغاش، وكالجندي في إرضاء جبنه هو الخائن، وكالشاب في إرضاء رذيلته هو الفاسق، وهلمّ جراً وه جرجرة. . .

وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصةُ رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نومُ ليله وهدوءُ نهاره حتى كسفت باله وفرّقت رأيه وكابد فيها الموت ليس بالموت وعاش بالحياة التي ليست بالحياة.

قال: فقدت أمي وأنا غلام أحوجَ ما يكون القلب إلى الأم، فخشي عليّ أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذلُّ والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدَها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضَياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها. فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي لأن له قوة وكبرياء، وألقى في روعي أني رجلٌ مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيراً فكان رجلاً مثلي الآن. . .

وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل، وإذا أعطاني شيئاً قال: خذ يا رجل، وإذا سألني عن شأني قال كيف الرجل؛ وقلّ يومٌ يمرُّ إلا أسمعنيها مراراً حتى توهمتُ أن معي رجلاً في عقلي خلقته هذه الكلمة: وتمام الرجل بشيئين: اللحيةُ في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوةً له، أو وقاراً أو جمالاً، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معاً سوادين في الوجه والحياة. . .

أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجئ بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل! إن فلانة مُتسماةٌ عليك منذ اليوم فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها. وفلانة هذه طفلة من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحتَ زوجاً أيها الرجل. . .

وكان هذا الرجلُ الجاثمُ في عقلي هو غروري يومئذ وكبريائي، فكنت أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنت طفلاً ولكن غروري ذو لحية طويلة. . .

ونشأتُ على ذلك صلب الرأي معتدّاً بنفسي إذا هممتُ مضيت، وإذا مضيت لا ألوي؛ وما هو إلا أن يخطر لي الخاطر فأركبَ رأسي فيه، ولأن تكسرَ لي يدٌ أو رجل أهونُ علي من أن يكسر لي رأي أو حكم؛ وأكسبني ذلك خيالاً أكذب خيال وأبعده، يخلط عليَّ الدنيا خلطاً فيدعني كالذي ينظر في الساعة وهي اثنا عشر رقماً لنصف اليوم الواحد، فيطالعها اثني عشر شهراً للسنة. . .

وترامت حريتي بهذا الخيال فجاوزت حدودها المعقولة. وبهذه الحرية الحمقاء وذلك الخيال الفاسد، كذبتْ علي الفكرة والطبيعة.

ولست جميل الطلعة إذا طالعتُ وجهي، ولكني مع ذلك معتقد أن الخطأ في المرآة. . . إذ هي لا تظهر الرجل الوضيءَ الجميل الذي في عقلي؛ ولست نابغة ولكن الرجل الذي في عقلي رجل عبقري؛ وهذا الذي في عقلي رجل متزوج فيجب عليَّ أنا الطفلَ - أن أكون رزيناَ رزيناً كوالد عشرة أولاد في المدارس العليا. . .

وذهبتُ بكل ذلك أرى زوجتي، فأغلقت الباب في وجهي واختبأت مني، فقلت في نفسي: أيها الرجل إن هذا نشوزٌ وعصيانٌ لا طاعةٌ وحب. وساءني ذلك وغمّني وكبر عليّ فأضمرت لها الغَدْر، فثبتت بذلك في ذهني صورةُ (الباب المغلق) وكأنه طلاق بيننا لا باب. . .

قال: ثم شب الرجلُ فكان بطبيعة ما في نفسه كالزوج الذي يترقَّبُ زوجته الغائبة غيبةً طويلة؛ كلُّ أيامه ظمأ على ظمأ، وكل يوم يمرّ به هو زيادة سنة في عمر شيطانه. . . وكان قد انتهى إلى مدرسته العالية وأصبح رجلَ كتب وعلوم وفكر وخيال. فعرضتْ له فتاة كاللواتي يعرضن للطلبة في المدارس العليا، ما منهن على صاحبها إلا كالخيبة في امتحان. . . بيد أن (الرجل) لم يعرف من هذه الفتاة إلا أوائل المرأة. . . ولم يكد يستشرفُ لأواخرها حتى سمِّيت على غيره فخطبت فزفَّت، زُفَّت بعد نصف زوج إلى زوج. . .

وعرف الرجل من الفلسفة التي درسها أنه يجب أن يكون حراً بأكثر مما يستطيع وبأكثر من هذا الأكثر. . . فقالها بملء فيه، وقال للحرية: أنا لك وأنت لي

قالها للحرية، فما أسرعَ ما ردت عليه الحرية بفتاة أخرى. . .

نقول نحن: وكان قد مضى على (الباب المغلق) تسع سنوات فصار منهن بين الشاب وبين زوجته العقلية تسعة أبواب مغلقة. ولكنها مع ذلك مسماةٌ له يقول أهله وأهلها (فلان وفلانة). وليس (الباب المغلق) عندهم إلا الحياء والصيانة؛ وليست الفتاةُ من ورائه إلا العفافَ المنتظِر؛ وليس الفتى إلا ابنَ الأبِ الذي سمَّى الفتاة له وحَبَسها على اسمه؛ وليست القربى إلا شريعة واجبة الحق نافذة الحكم.

وعند أهل الشرفِ، أنه مهما يبلغ من حرية المرء في هذا العصر فالشرفُ مقيَّد.

وعند أهل الدين، أن الزواج لا ينبغي أن يكون كزواج هذا العصر قائماً من أوله على معاني الفاحشة.

وعند أهل الفضيلة، أن الزوجة إنما هي لبناء الأسرة؛ فإن بلغ وجهها الغاية من الحسن أو لم يبلغ، فهو على كل حال وجهٌ ذو سلطة وحقوق (رسمية) في الإحترام؛ لا تقوم الأسرة إلا بذلك ولا تقوم إلا على ذلك.

وعند أهل الكمال والضمير، أن الزوجة الطاهرة المخلصة الحبِّ لزوجها، إنما هي معاملةٌ بين زوجها وبين ربه؛ فحيثما وضعها من نفسه في كرامةِ أو مَهانة، وضع نفسه عند الله في مثل هذا الموضع.

وعند أهل العقل والرأي، أن كل زوجة فاضلة هي جميلةٌ جمال الحق، فإن لم توجب الحبَّ وجبت لها المودة والرحمة.

وعند أهل المروءة والكرم، أن زوجة الرجل إنما هي إنسانيته ومروءته؛ فإن احتملها أعلن أنه رجل كريم، وإن نبذها أعلن أنه رجل ليس فيه كرامة.

أما عند الشيطان لعنه الله، فشروط الزوجة الكاملة ما تشترطه الغريزة: الحب، الحب، الحب.

قال الشاب: وإذا أنا لم أتزوج امرأة تكون كما أشتهي جمالاً وكما يشتهي فكري علماً، كنت أنا المتزوج وحدي وبقي فكري عزبَا. . . وقد عرفتُ التي تصلح لي بجمالها وفكرها معاً، وتبوَّأتْ في قلبي وأقمت في قلبها. ثم داخَلْتُ أهلَها فخلطوني بأنفسهم وقالوا شابٌ وعَزَبٌ. . . ومتعلم وسريّ. . . فلم يكن لدارهم (بابٌ مغلق) حتى لو شيءت أن أصل إلى كريمتهم في حرام وصلت، ولكني رجل يحمل أمانة الرجولة. . .

أما الفتاة فلست أدري والله أفيها جاذبية نجم أم جاذبية امرأة! وهل هي أنثى في جمالها أو هي الجمالُ السماوي أتى ينقح الفنونَ الأرضية لأهل الفن؟

إذا التقينا قالت لي بعينها: هأنذي قد أرخيتُ لك الزمام فهل تستطيع فراراً مني؟ ونلتصق فتقول لي بجسمها: أليست الدنيا كلها هنا، فهل في المكان مكانٌ إلا هنا؟ ونفترق فتحصر لي الزمن كله في كلمة حين تقول: غداً نلتقي.

كلامها كلامٌ متأدب، ولكنه في الوقت نفسه طريقة من الخلاعة تلفتك إلى فمها الحلو. والحركة على جسمها حركة مسْتَحِيَةٌ، ولكنها في الوقت عينه كالتعبير الفني المتجسم في التمثال العاري.

إنها والله قد جعلت شيطاني هو عقلي؛ أما هذا العقل الذي ينصح ويعظ ويقول هذا خير وهذا شر، فهو الشيطان الذي يجب أن أتبرأ منه. . .

قال: وألمَّ الأبُ بقصة فتاه، ويحسبها نزوةً من الشباب يُخمدها الزواج، فيقول في نفسه: إن للرجل نظرتين إلى النساء: نظرة إليهن من حيث يختلفن فتكون كل امرأة غير الأخرى في الخيال والوهم والمزاج الشعري؛ ونظرة إليهن من حيث يتساوَينَ في حقيقة الأنوثة وطبيعة الإحترام الإنساني، فتكون كل امرأة كالأخرى ولا يتفاوتن إلا بالفضيلة والمنفعة. ويقرر لنفسه أن ابنه رجل متعلم ذو دين وبصر، فلا ينظر النظرة الخيالية التي لا تقنع بامرأة واحدة بل لا تزال تلتمس محاسن الجنس ومفاتنه، وهي النظرة التي لا يقوم بها إلا بناءُ الشعر دون بناء الأسرة، ولا تصلحُ عليها المرأة تلد أولاداً لزوجها، بل المرأة تلد المعاني لشاعرها.

ثم احتاط في رأيه فقدَّر أن ابنه ربما كان عاشقاً مفتوناً مسحوراً ذا بصيرة مدخولة وقلبٍ هواء وعقل ملتاث، فيتمرد على أبيه ويخرج عن طاعته ويحارب أهله وربَّه من أجل امرأة، بيدَ أنه قال إنه هو والده وهو ربّاه وأنشأه في بيت فيه الدينُ والخلقُ والشهامةُ والنجدةُ، وأن محاربة الله بامرأة لا تكون إلا عملاً من أعمال البيئة الفاسدة المستهترة حين تجمع كل معاني الفساد والإباحة والإستهتار في كلمة (الحرية). وقال إن البيئة في العهد الذي كان من أخلاقه الشرف والدين والمروءة والغيرة على العِرض، لم يكن فيها شيء من هذا، ولم يكن الأبناء يومئذ يعترضون آباءهم فيمن اختاروهن، إذ النسل هو امتداد تاريخ الأب والابن معاً، والأب أعرفُ بدنياه وأجدر أن يكون مبرأ من اختلاط النظرة، فيختار للدين والحسب والكمال لا للشهوة والحب وفنون الخلاعة؛ ولا محل للإعتراض بالعشق في باب من أبواب الأخلاق، بل محلُّه في باب الشهوات وحدها.

ثم جَزَمَ الأبُ أن الولد الذي يجيء من عاشقين حريٌّ أن يرث في أعصابه جنون اثنين وأمراضهما النفسية وشهواتهما الملتهبة، ولهذا وقف الشرع في سبيل الحب قبل الزواج لوقاية الأمة في أولها، ولهذا يكثر الضعف العصبي في هذه المدينة الأوربية، وينتشر بها الفساد فلا يأتي جيلٌ إلا وهو أشد ميلاً إلى الفساد من الجيل الذي أعقبه.

ولم يكد ينتهي الأبُ إلى حيث انتهى الرأي به حتى أسرع إلى (الباب المغلق) يهيئ للزفاف ويتعجل لابنه المطيع. . . . نكبة ستجيء في احتفال عظيم. . . .

قال الشاب: وجن جنوني؛ وقد كان أبي من احترامي بالموضع الذي لا يلقى منه، فلجأتُ إلى عمي أستدفعُ به النكبة وأتأيَّد بمكانه عند أبي، وبثثته حزني وأفضيت إليه بشأني، وقلت له فيما قلت: افعلوا كل شيء إلا شيئاً ينتهي بي إلى تلك الفتاة، أو ينتهي بها إليّ. وما أُنكر أنها من ذوات القربى، وأن في احتمالي إياها واجباً ورجولة، وفي ستري لها ثواباً ومروءة، وخاصة في هذا الزمن الكاسد الذي بلغت فيه العذارى سن الجدات. . . والقلب العاشق كافر بالواجب والرجولة، والثواب والمروءة، وبالأم والأب، فهو يملك النعمة ويريد أن يملك التنعم بها؛ وكل من اعترضه دونها كان كاللص. . . . . .

قال: قَبح الله حباً يجعل أباك في قلبك لصاً أو كاللص

قلت: ولكني حر أختار من أشاء لنفسي. . . . .

قال: إن كنت حراً كما تزعم فهل تستطيع أن تختار غير التي أحببتها؟ ألا تكون حراً إلا فينا نحن وفي هدم أسرتنا؟

قلت: ولكني متعلم، فلا أريد الزواج إلا بمن. . . . . .

فقطع علي وقال: ليتك لم تتعلم، فلو كنت نجاراً أو حداداً أو حوذياً لأدركت بطبيعة الحياة أن الذين يتخضّعون للحب وللمرأة هذا الخضوع، هم الفارغون الذين يستطيع الشيطانُ أن يقضي في قلوبهم كلَ أوقات فراغه. . . . . .

أما العاملون في الدنيا، والمغامرون في الحياة، والعارفون بحقائق الأمور، والطامعون في الكمال الإنساني، فهؤلاء جميعاً في شغل شاغل عن تربية أوهامهم، وعن البكاء للمرأة، والبكاء على المرأة: ونظرتهم إلى المرأة أعلى وأوسع؛ وغرضهم منها أجل وأسمى. وقد قال نبينا : اتقوا الله في النساء، أي انظروا إليهن من جانب تقوى الله فإن المرأة تقدِم من رجلها على قلب فيه الحبُّ والكراهةُ وما بينهما ولا تدري أي ذلك هو حظها، ولو أن كل من أحب امرأة نبذ زوجة لخربت الدنيا ولفسد الرجال، والنساء جميعاً.