مجلة الرسالة/العدد 123/كيف كسبت الرهان!

مجلة الرسالة/العدد 123/كيف كسبت الرهان!

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1935



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

(تنبيه - الحادثة ليست شخصية - وليس لي أخت)

غام الزجاج أمامي من كثرة ما سقط عليه من ندى الفجر، وكنت - كلما قطعنا بضعة فراسخ - أمسحه بمنديل ثم أجلوه بورقة، وكان ذلك يحوجني إلى الوقوف ثم استئناف السير، وهذا مضيعة للوقت، والشقة بعيدة، والرهان جسيم؛ فقلت أرفع الزجاج، فإن التعرض للهواء البارد أيسر محملاً، وأهون من النظر من زجاج عليه ضبابة، وإن كانت رقيقة؛ وصحيح أن أختي كانت تصف لي الطريق وتسمي لي ما يعترضنا عليه، وتعين لي مواقع الأشياء، ولكن السائق لا يستطيع أن يعتمد على غير عينيه؛ ثم إن وصفها كثيراً ما كان يحيرني ويحدث لي اضطراباً، فقد كانت تقول مثلاً: (هذا رجل في وسط الطريق. . لا لا لا. . إنه أقرب إلى اليسار. . . إنتظر. . . بل هو يمشي يميناً. . . إمض على بركة الله. . . لا خوف).

فأتنهد، وأمضي على بركة الله، فما ثم شيء آخر أمضي عليه؛ وبودي لو تبين لي كيف أستطيع أن أتريث وأنتظر حتى تتثبت هي وتقطع الشك باليقين! ثم إني لم أكن أومن بأن نظرها أصح وأسلم وأقوى، وأنه يسعها ما أعياني من اختراق هذا الضباب - أعني النظر من خلال الزجاج المتغيم. لذلك توكلت على الله ورفعت الزجاج.

وقال زوجها: (لا بأس! ولم لا؟ إنه لن يصيبنا شر من الإلتهاب الرئوي.

فرمت إليه زوجته شيئاً وقالت: (تلفع بهذا).

فرده إليها وهو يقول: (الكلب لا يعض أذن أخيه. . . صدق والله!).

فثاروا به وشغبوا عليه، ولما قرت الضجة قلت:

(غط صدرك إذا كنت تخشى الهواء، وفمك أيضاً - فإني نويت أن أعوض ما خسرت الآن).

وضغطت بقدمي فانطلقت السيارة كالسهم، وانحنت أختي تنظر إلى العداد، وجعلت تعلن إلى الرقم كلما تغير، وتصيح: (40. . . . 43. . . . 47. . . . 50. . . . أوه! لقد وصل إلى الستين. . . .! السبعين. . . .).

ثم أمسكت، فقد كان الهواء قوياً، ودفْعُه في الصدر شديداً، فلولا أن النظارة على عيني لما وسعني الصبر عليه؛ وكان الطريق مستقيماً، والتراب راقداً لكثرة ما نزل عليه من الطل؛ وبدت لعيني مركبة فسألت نفسي: ترى على أي ناحية من الطريق هي؟ ولكني جزتها ومرقت كالسهم في نفس اللحظة التي رأيتها فيها، فلا جواب لسؤالي؛ وأحسست أن سيارة مقبلة علينا، ثم تبينت أنها ماضية في اتجاهنا فما عتمت أن صارت وراءنا، وأحسب أن سائقها قد أوسعني شتماً ولعناً، فما نبهته ولا حذرته؛ وظهرت ضيعة، ورأيت بيوتها الواطئة المبينة من الطين، وأخذت عيني الأشجار المغروسة أمامها - أو خلفها، لا أدري - فقد غابت عن عيني بأسرع مما بدت لها؛ وكنت لا أجرؤ أن أصوب لحظي إلى عداد السرعة، ولكني كنت أحس كل كيلو نقطعه ومضيفه إلى ما فرغنا منه؛ وزاد ضغط قدمي، فتجمعت أختي ونظرت ثم قالت:

(89. . . 90. . . 91. . . 92. . .)

ثم رأتني كالمسمر في مكاني، وكأنما أدركها العطف علي، أو قواها إصراري على الفوز، فعادت تنظر وتبلغني ما ترى.

(إلى اليمين شيء. . . عربة. . . خال. . . عربة. . . تتحرك. . . دراجة إلى يسارك. . . سيارة مقبلة. . . خال. . . لا. . . رجل يمشي. . . خال. . .)

فسألتها: (كم كيلو قطعنا؟ وكم الساعة الآن؟)

وكانت الساعة الرابعة صباحاً، ولا يزال أمامنا مائة وعشرة كيلومترات إلى دمنهور، ونحو ثلاثين أخرى إلى القرية، وثلاث ساعات نقطعها فيها.

فجعلت أدافع اليأس؛ ذلك أن الطريق إلى (بنها) واسع، ولكنه بعد ذلك يضيق، إلى قريب من طنطا، وسيزدحم بالجمال والأبقار والأغنام والدواب والسيارات، فسألت القوم: (هل ورد ذكر لدمنهور في الرهان؟).

فقالت أختي: (أظن. . . لا لا. . . لم يرد لها ذكر).

وقال زوجها: (أو ورد. . . . . . سيان. . . . . . . . . . . .).

فقاطعته ابنة عمه، وكانت معه على المقعد الخلفي وقالت:

لا، على التحقيق. . . كل ما اشترط هو الوصول إلى القرية الساعة السابعة صباحاً، والأسبق هو الفائز. . . . . . ولكن لماذا تسأل؟).

قلت: لأن هناك طريقاً أخصر. . . . . . من طنطا إلى دسوق مباشرة).

قالت: (وما الفرق؟).

قلت: (ثلاثون كيلو. . . مسافة لا يستهان بها. . . والطريق أضيق ولكنه معبد).

قالت: (وهل تظن أنه يجهل هذا الطريق؟).

فهبط قلبي من صدري إلى حذائي، ولي العذر، فإن قريبنا هذا - ومراهننا، وصاحب الضيعة وداعينا إليها - أبرع مني وأعرف بالسكك المؤدية إلى قريته، ولاشك أنه أهمل النص على دمنهور في الرهان عمداً، لظنه أني لا أعرف غير سكة دمنهور، ثم لا أشك أنه تلكأ وراءنا ليغافلنا في طنطا، ويميل هو إلى الطريق الأخصر. . . . . . . . .

وزاد الطين بلة أني أحسست ونحن ندخل بنها كأن قدمي قد شكت بمسمار محمي، فصرخت، ورفعت رجلي، واضطررت أن أميل بالسيارة إلى الرصيف.

وخلعت الحذاء وجعلت أنظر، وأتحسس قدمي وأفركها، فقالت أختي:

(ماذا جرى؟).

وقال أخوها: (هل أدلكها لك؟ كلا، لا بأس! إذن لم يبق إلا العلاج بالإيحاء. إسمع! متى قلت: (واحد) فإن عليك أن تفرغ رأسك من كل شيء - وهذا سهل جداً ولن يكلفك عناء - ومتى قلتُ: (اثنين) فأعتقد أن الألم الذي لا تحسه، ليس إلا وهماً. . . ومتى. . .).

فصحنا به نسكته، ولما انقطع اللغط قلت:

(طول الضغط فعل هذا. . . على كل حال لا أظنني أستطيع أن أسوق السيارة، فعليك أن تتفضل وتجلس في مكاني، وأمرنا إلى الله، وأرواحنا في وديعته، وعوضنا الله خيراً، فقد ذهب الرهان والأمل في كسبه).

فصاحت أختي: (ولكنه لا يحسن القيادة. . .).

قلت: (وما الحيلة؟ سأجلس إلى جانبه - وأرشده).

فقالت: بنت عمه: ولكنه سيقصر عمرنا. . .).

فقلت: (وماذا نصنع غير ذلك؟).

وقالت زوجته: (ولكني أخاف. . . أعني. . . إنه. . .).

فقلت: (اطمئني. . . لا خوف عليه. . . ولا علينا، إذا كان هذا يعنيك).

فالتفت إلينا وقال:

(إن الذي فهمته هو أن هناك اقتراحاً منكم بأن تتمتعوا بقيادتي لهذه السيارة. . . حسن جداً. . . فلتبلغ الصحف، وليدع الشعراء).

فقلت: (إن المسألة لا تحتمل هذا المزح. . .).

وقالت أختي: لا تحتمله أبداً. . . عدني ألا تسرع. . . سر ببطء. . . على مهل. . . ولنصل بعد أسبوع. . . ماذا يهم؟ واحذر أن تسابق شيئاً. . .).

فقال: (لا تخافي يا نور عيني. . . إذا صادفت في طريقي سيارة فإني أعدك أن أعطل المحرك، وأذهب فأختبئ تحت شجرة).

ودخلت بينهما وقلت: (إن وعداً كهذا لا سبيل إليه، فإن علينا أن نصل إلى القرية في وقت معقول، إذا لم يكن علينا أن نكسب الرهان، ثم إني سأكون إلى جانبه وسأرشده، وسيكون هو السائق إسماً، فقط، فلا خوف.).

فالتفت إلينا، بعد أن قعد في مكاني وقال: ولكني أشترط أن يكون الإرشاد بلغة مفهومة، أما أن تصيح بي (الهوا) أو (اكسر). . . فلا يا صاحبي. . . قل كلاماً مفهوماً أطعك! ولا تقلد ذلك الذي علمني، وصاح فجأة: (حش. . . حش) فوثبت عن المقعد، ولم أدر ماذا أحوش، ووثب الرجل الذي دعاني معلمي أن أحوش السيارة عنه. . . وعلى ذكر ذلك أقول إني لم أر في حياتي أحداً يثب كما وثب ذاك الرجل يومئذ!).

فصاحت زوجته، وهي تنزل من السيارة: (إني لم أكن أعرف هذا الخبر، ويستحيل أن أدعك تسوق السيارة).

وقعدت على الرصيف.

وجعلت أنظر منها إليه، ومنه إلى بنت عمه، في صمت؛ ومضت دقائق كأنها الدهر طويلاً، مشيت بعدها إلى مقعد القيادة وقلت:

(إنزل من فضلك. . . فإنك مطرود) فنزل وهو يقول:

(ولكن رجلك. . . ثم إن هذا. . .).

قلت: (لا بأس، سأجرب على الأقل).

فدنت منا بنت عمه ووضعت كفيها على كتفينا وقالت لي (ألا تدعني أسوق؟. . . ربما. . . استطعت. . .).

قلت: (حباً وكرامة، ولكن كيف يمكن؟ إنك. . .).

قالت: (لست جاهلة جداً. . . وسأحتاج إلى إرشادك. . . والطريق خال).

فقال: (نعم خال. . . جداً، إلا من البقر والجمال. . .).

وركبنا جميعاً، وقلت لها: (الآن ضعي ناقل السرعة في. . . برافو. . . أنقليه برفق. . . برافو جداً. . . أظن أنه يحسن التأني حتى تبعد عنا هذه السيارة).

فقالت: وهي تحول ناقل السرعة إلى المكان الثالث: (كلا أظن أن الأوفق أن نمر به).

ومرقت كالسهم بجانبه، فالتفت إليها متعجباً، فما كنا نعرف أن لها دراية بالسيارات أو خبرة بقيادتها، ونظرت إلى العداد فإذا هو يشير إلى الخمسين. . . فالستين، فرفعت عيني إليها، فألقيت على ثغرها ابتسامة فاتنة، وقالت وهي تخطف بالسيارة:

(أظن أن الأمل في الرهان لم يذهب. . . على كل حال (عبده) لا يزال وراءنا).

فقالت أختي: (وراءنا؟ من قال هذا؟ لقد مرق وأنتم واقفون. . . رأيته بعيني).

فعدنا إلى اليأس بعد أن كاد ينتعش الأمل، ولكن الفتاة قالت:

(هذا أحسن. . . خيراً صنع. . . وأنا الآن مطمئنة).

قلت: (ولكن كيف؟ أليس قد سبقنا؟).

قالت: (سترى. . . معنا الله).

وشارفنا طنطا، ولمحنا سيارة (عبده)، فتباطأت، وأبت أن تسبقه كما أشرت عليها؛ فلما صرنا في قلب المدينة، إغتنمْتُ فرصة الزحام، وتركْته يمضي في طريق، وضربت هي في طريق غيره، وأطلقت للسيارة العنان.

وقالت بعد أن خرجت إلى السكة الزراعية: (إنه يعتقد الآن أننا وراءه، واعتقاده هذا ربح لنا، وبقي أن يغلط ويأخذ طريق دمنهور).

فسألتها: (ولكن من أدراك أنه لم يسبقنا؟).

قالت: (كلا. . . إن طريقي أخصر جداً. . . كن واثقاً).

ومضينا على سكة دسوق، وكنا لا ننفك نلتفت وراءنا لعلنا نرى سيارة (عبده)، فلما طال ذلك علينا أيقنا أنه أخذ طريق دمنهور، فقد كان في وسعه أن يدركنا بسهولة.

وسكة دسوق ضيقة كما أسلفت، وكانت إلى هذا كثيرة الزحاليق، وكانت السيارة تتلوى على المواضع البليلة، كالحية، ولكن سائقتنا كانت حاذقة، فسكن روعنا جميعاً، ووسعنا أن نضحك ونمزح.

وقلت لها - همساً - (إني أحس غيرة. . . هنا) وأشرت لها إلى موضع القلب فابتسمت وقالت: (لماذا؟

قلت: (لأن على جبينك خصلة صغيرة جميلة يداعبها النسيم - أعني يقبلها - علناً وعلى مرأى منا جميعاً - وهذا. . . هذا. . . مخجل. . . فعسى ألا يُعديني بالجرأة).

فتكلفت الجد وقالت: (إذا فعلت، فسأمضي إلى هذه الترعة. . . مباشرة).

فهمست: (هش. . . لا تمزحي. . . إنها مسائل لا تحتمل المزح. . . ومن يدري؟؟ فقد تصيبك العدوى. . . ثم إنك لن تحسني التعبيس ما دام لك هذا المحيا الواضح الذي يضيئه الجمال، ويضحك فيه أيضاً).

فلوت مُوَجِّه السيارة بلا كلام فصاح ابن عمها:

(إلى أين بنا يا هذه؟).

قالت بابتسام: (إلى الترعة. . . إذا لم يسكت).

قال: (إذا كنت تريدين أن تستحمي فإن في البيت الذي نرجو أن نبلغه سالمين حماماً بديعاً، ولكن بغير ماء! على كل حال، أظن أن جارك مستعد أن يملأ لك الجرار، ويصبها عليك أيضاً).

قالت: (إذا وعد بأن يكون حسن السلوك. . .).

واستأنفنا السير بسرعة، ويطول بنا الحديث إذا أردت أن أسرد ما عانيناه من الغنم والبقر والجمال والسيارات؛ ولكن حادثاً واحداً وقع لنا لا أرى بداً من ذكره، ذلك أنا وقعنا في وحل عظيم، ولم يكن لنا مفر، ولا كان لنا مهرب، فقد كنا مقبلين بسرعة فإذا أمامنا - وإلى مسافة طويلة - ماء وطين ووحل شديد فارتطمنا فيه قبل أن ندرك ما حدث، وصارت العجلات تنزلق دائرة ولا تتقدم. فأوقفت المحرك وقالت:

(هل مع أحد منكم سيجارة؟) وأشعلتها، ونفخت دخانها ثم قالت:

(هذا أوان الحاجة إلى الرجال. . . فأخرجا، وابحثا عن قش تلقيانه تحت العجلات، أو اجرفا الطين أمامها وشقا لها طريقاً).

فقال ابن عمها: (هذا بديع. . . لقد تركت أظافري تطول لمثل هذا اليوم. . . قم بنا يا أخي).

ولكنا فعلنا غير ذلك، ودعونا أحد الفلاحين إلى معونتنا، فزعق فاجتمع حولنا نفر من الرجال والنساء، أعملوا أيديهم في الطين حتى رفعوه من طريقنا، فشكرنا لهم مروءتهم ومددنا لهم أيدينا بنقود، فأبوها كل الأباء؛ وقال الذي جمعهم: (عيب يا أفندي) فألححنا، فأصر على الأباء، وعلى أن هذا عيب، فكررنا له الشكر، وصافحناه ثم نظرنا في أيدينا فإذا كلها طين! فاستحيينا أن نقول شيئاً على مسمع منه.

بلغنا البيت قبل صاحبه وقبل الموعد المضروب بنحو ربع ساعة، وكان الفضل لهذه السائقة البارعة التي كنا نجهل أن هذه من مزاياها؛ ولما أقبل مضيفنا بعد دقائق قال له نسيبي:

(ليكن هذا درساً لك. . . هات الرهان).

قال: (ولكن من أين جئتم؟) ثم كأنما تذكر فرفع يده إلى جبينه وصاح: (ما أغباني!) فقال نسيبي: (تمام. . . اعرف نفسك. . . هكذا قال الحكماء. . . وهذا هو ربحك اليوم. . . وأولى أن تسأل كيف جئنا. . . حدثه يا هذا، فإن بي كسلاً بعد الذي تجشمته من متاعب القيادة).

فصحنا به منكرين هذا الكذب. . .

إبراهيم عبد القادر المازني