مجلة الرسالة/العدد 124/النقد والمثال

مجلة الرسالة/العدد 124/النقد والمثال

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1935



الجمال الذاتي في بعض المعاني البسيطة

للأستاذ أحمد الزين

تحدثتُ في الفصل السابق عن نوعي المعنى الأصليّ والشعريّ؛ وقلت في المعنى الأول: إنه أول ما يخطر على الخاطر، وتتحدث به نفس الشاعر، وذكرتُ أنه لا يسمى شعراً، وليس من الشعر في قليل ولا كثير، وبينت المعنى الثاني الذي تصرفت فيه الملكة الفنية بإضافة شئ من المحسّنات الشعرية إليه، وقلت: إنه هو الذي يعدّ من مقومات الشعر وعناصره، ومثلت لكلا المعنيين بما فيه الكفاية من شعر المتقدمين والمحدثين.

وأقول في هذا الفصل:

إن بعض هذه المعاني الأصلية التي لم تتصرف فيها ملكة الشاعر قد يكون الحسن فيها أصلياً، والجمال فيها من ذاتها، فلا تتصرف فيها ملكة الشاعر تصرفاً كثيراً ولا قليلاً، ولا تتكلف فيها تحسيناً ولا تجميلاً، بل إن تصرف الشاعر فيها قد ينقص من جلالها، ويشوه من جمالها، ويحجب هذه الطبيعة الجميلة بثوب من التكلف يحول بينها وبين مشافهة الأذواق بجمالها، ومباشرة الاحساسات بتأثيرها؛ فهي أشبه بغانيات أبي الطيب اللاتي استغنين بما فيهن من جمال مطبوع، عما يُكسبهن الافتنان في الزينة من جمال مصنوع إذ يقول:

حسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حسنٌ غيرُ مجلوب

أفدي ظِباء فلاةٍ ما عرفن بها ... مضغَ الكلام ولا صبغ الحواجيب

ولا برزن من الحمّام مائلة ... أردافهن صقيلات العراقيب

ومن هوى كل من ليست مموهة ... تركتُ لون مشيبي غير مخضوب

وليس على الشاعر في أمثال هذه المعاني إلا ما يتعلق بالصياغة البيانية، من عذوبة العبارة، ورقة النسج، وشرف الألفاظ، واختيار الأسلوب الملائم لغرض الشاعر، وما إلى ذلك مما يتصل بالألفاظ والعبارات، دون المعاني والأغراض، وإنما يكون هذا الجمال الطبعيّ في المعاني البسيطة إذا صدرت عن عاطفة قوية في النفس، وتحدرت عن ينبوع صافٍ من الحِسّ، وكانت صُوَراً دقيقة للشعور الصادق في القلب الخافق، فهنالك لا يع الشاعر إلا لساناً ناطقاً، لا مبتدعاً خالقاً.

وترى هذه المعاني الجميلة بطبيعتها مستفيضةً شائعةً في شعر الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين إلى أواسط العصر الأموي، وإنما استفاضت هذه البساطة في شعر الأمويين لقرب عهدهم بعيش البساطة في البادية، ومشافَهة الطبيعة في صحراء الجزيرة، فهم رغم تفرقهم في الممالك التي فتحوها وانتشارهم في الأمصار التي مصّروها، ومفارقة الفطرة في بواديهم، لم يزل صوتها يناديهم، فيجيبونها في أشعارهم بالبساطة في معانيهم وأفكارهم.

وإنك لتستجلي ذلك في شعر النسيب وما هو بسبيله، من الحنين إلى الأوطان وما قضاه الشاعر فيها من لبانات وأوطار وما لقيه بعد فراقها من مِحَن وآلام وذِكر الشباب الزائل، وما كان فيه من لهو وباطل، ونفور الحسان من هذا الشعر الأبيض الذي يُقذي العيون، ويذهب باللهو والفتون، كما ترى هذه البساطة الفاتنة فيما تقرؤه أوائل قصائدهم في صفة الديار والأطلال، وما فعلت بها الرياح والأمطار، وما بقي فيها بعد من رحلوا عنها، وتحديد مواقعها بين الأمكنة التي تتصل بها أو تقرب منها.

وترى ذلك أيضاً في شعر الذكريات حين تنزل بالشاعر محنة من سجن أو إسار فيعزّي نفسه عن تقييد ساقيه بإطلاق فكره في تذكر أيامه الذاهبة، ولذاته الفائتة؛ وذِكر ما كان يحضره من مجالس الشراب والقيان، وبقائه رغم القيد على الوفاء لمن كان يجالسه من القدامى والصحاب، وإقدامه في القتال، وصبره على مقارعة الأقران ثم يأخذ في الافتخار بقومه وعشيرته ولومِهم على تركه لأعدائه، وبطئِهم عن فدائه؛ كلُّ ذلك في حسرة وألم يفريان الضلوع، ويستنزفان الدموع.

وأنا أعرض عليك في هذا الفصل أمثلةً يسيرة لما ذكرت مما اخترته من حفظي.

أما جمال هذه البساطة في النسيب، فكقول المجنون (وهو من أصوات الأغاني).

وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ... سوى أن يقولوا إنني لكِ عاشقُ

لقد صدق الواشون أنت حبيبةٌ ... إليّ وإن لم تَصْفُ منكِ الخلائق

ووجه الجمال في هذا الشعر مخالفةُ الشاعر غيرَه من المحبّين باحتقاره الوشاة، وعدم استحقاقهم لتكلّف المصانعة والمداراة وهو بذلك يصف حبَّه بالنقاء من الريبة، وأنه أسمى من أن يستره بحيلة، وأشرفُ من أن يُعمِل في إخفائه الوسيلة.

ثم انظر إلى سحر هذه البساطة في ضد ذلك وتصوير الخوف من الوشاة والارتياع من مقالتهم؛ وشكوى الشاعر إلى حبيبته قلّة الرسل إليها، وأن الحيل قد أعوزته في لقائها، ثم إشارته بعد ذلك إلى عتابه عليها، وضراعته إليها؛ كل ذلك في بساطة ساحرة وجمال رائع يشبه جمال الأزهار التي كستها الطبيعة من ألوانها الفاتنة ما تقصُر عنه ريشةُ الفن بما تزوِّره من أصباغها الحائلة.

أريد شعر يزيد بن الطَّثرية حيث يقول:

أيا خُلة النفس التي ليس دونها ... لنا من أخلاء الصفاء خليل

أما من مقام أشتكي غربة النوى ... وخوف العدا فيه إليك سبيل

فديتكِ، أعدائي كثير، شقتي ... بعيد، وأشياعي لديك قليل

وكنت إذا ما جئتُ بعلة ... فأفنت علاتي فكيف أقول

فما كلَّ يوم بأرضك حاجةٌ ... ولا كلَّ يوم لي إليك رسول

صحائف عندي للعتاب طويتها ... ستنشر يوماً والعتاب طويل

فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفة ... فحمل دمي يوم الحساب ثقيل

ومثل هذه البساطة الساحرة ما تراه في شعر عبد الله بن الدُّميْنة حيث يقول:

ألا لا أرى وادي المياه يثيب ... ولا النفس عن وادي المياه تطيب

أحب هبوط الواديين وإنني ... لمشتهر بالواديين غريب

أحقاً عباد الله أن لست وارداً ... ولا صادراً إلا عليَّ رقيب

ولا زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مريب

وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب

أما جمال هذه البساطة في معاني الحنين إلى الوطن فمن أحسن ذلك قول بعض الأعراب:

أحب بلاد الله ما بين منعج ... إلي وسلمى أن يصوب سحابها

بلاد بها حل الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها

وقول عبد الله بن نمير:

تعز بصبر لا وجدِّك لن ترى ... عراص الحمى إحدى الليالي الغوابر

كأن فؤادي من تذكره الحمى ... وأهم الحمى يهفو به ريش طائر وقول الصمة بن عبد الله القشيري:

قفا ودِّعا نجدا ومن حل بالحمى ... وقلَّ لنجد عندنا أن يودعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى ... وما أحسن المصطاف والمتربَّعا

وليست عشيّات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تَصدَّعا

فهل ترى أحد هؤلاء الشعراء الثلاثة قد زاد في هذا الحنين على ما يتحدث به إليك متحدث نأى عن بلده، وفارق أهله وعشيرته، من الحنين إليهم، والألم لفراقهم، وتذكر ما مضى له من عهود، وزمن لا يعود، وتَمنيه العودةَ إلى وطنه تمني اليائس من الأمنية، وتأميله الرجوع إلى بلده تأميل من يثق بالخيبة ويوقن بامتناع الأمل واجتهاده في الدعاء له وتوديعه إياه، وتفديته بالنفس؛ فلم يخترع أحدهم في الحنين معنىً جديداً، ولم يفكر تفكيراً بعيداً، ولم يُغرِب في خيال، ولم يبالغ في تصوير ما يشعر به من ألم الفرقة، ووحشية الغربة، ولم يُثقِل شعره بالمجازات والاستعارات، ولا بشيء من تلك الحُلي الظاهرية الزائدة على الحاجة في هذه المعاني وأشباهها.

ولما كان هذا الشعر خطاباً صادراً عن نفس الشاعر منبعثاً عن عاطفته كان لا بد من مشافهته لنفس السامع ومباشرته لها، ولا نزاع في أن إثقاله بتلك الحلي الظاهرية من الاستعارات والمجازات مما يحول بين معانيه ومشافهتها للنفس، ويباعد بينها وبين الحس، ويجعلها أشبه بالغناء الجميل تسمعه بواسطة (الحاكي) فإنه لا ينال من نفسك ما يناله الغناء المشافه.

وفي هذه الأمثلة التي رويتها لك فوق البساطة الساحرة في معانيها من رقة الأسلوب الملائم لمعاني الحنين، وعذوبة العبارة، وحلاوة الألفاظ - وهي كلُّ عمل الشاعر في أمثال هذه المعاني - ما يثير الشجن ويوقظ اللوعة، ويجتذب قلب السامع إلى قلب الشاعر حتى يصيرا قلباً واحداً متحد الإحساس، متفق الشعور، حتى يخيل للسامع - وهو في وطنه بين أهله وعشيرته - أنه غريب عنهما، وأن النوى قد قذفت به إلى مكان سحيق، فهو يشكو الغربة كما شكاها الشاعر، ويتمنى العودة كما تمناها؛ وقد كان بعض علماء الأدب المتقدمين ينشد أبيات الصّمّة بن عبد الله السابقة على تلامذته في مسجد الكوفة، ثم يبكي حتى تخضل لحيته، ويقول: ما أصاب أكبادكم! ألا تبكون عشيات الحمى؟

وسرّ الجمال في هذه المعاني مشافهتها للعاطفة ودخولها إلى النفس الإنسانية من ناحية الضعف الموجب للمواساة والرحمة؛ ونفوذها إلى إحساس العطف المشترك بين الأسرة البشرية الباعث على المشاركة في الألم والمحنة. أما بساطة هذه المعاني في أشعارهم إذا بكَوا الشباب وعهده، وذموا المشيب ووفدَه؛ ووقفوا على الأطلال والديار، فلا أريد أن أطيل عليك في هذا الفصل القصير بذكر أمثلتها، فإن ذلك مستفيض شائع في كلامهم بل هو جُلُّ شعرهم، وأكثرُ ما يبدأون به قصائدهم؛ فلا تكاد تجفّ قصيدة لأحدهم مهما يكن غرضها من دمعة حارّة يذريها الأسف على شباب ذاهب والارتياع من مشيبٍ طارق، والوقوف على طلل ما حل، ورسمٍ حائل، وذِكر ما قضاه الشاعر في أفياء هذه الرحاب وأكناف هذا الجناب، من أيامٍ عِذاب وليال قصرتها مُتَعُ الصِّبا ولهوُ الفتوّة إلى غير ذلك.

ولعلّهم جرَوا على ابتداء قصائدهم بهذه المعاني وتقديمها على الغرض المقصود بالشعر لتحريك القرائح الراكدة، وإيقاظ الشاعرية الراقدة، وتنبيه الأذهان التي قد تغفو، واقتياد الأفكار التي قد تعزب؛ ولما كانت هذه المعاني معروفة لديهم، معبدة طرقها لهم، محفوظاً أكثرها عندهم، كانت تجربة قرائحهم فيها أيسر، وتنشيط شاعريتهم في ميدانها أسهل، كما يجرب الجواد بإجرائه شوطاً قبل الانتظام في الحلبة، وكما ترى أرباب الموسيقى إذا قصدوا إيقاع إحدى النغمات، أوقعوا على الأوتار ما يقاربها من النبرات حتى يسَهل عليهم الخروج منها إلى النغمة المقصودة.

أما روعة هذه المعاني في قصائد الذكريات إذا نزلت بالشاعر محنةٌ من سجن أو إسار، فأنا أذكر لك أمثلة منها لقلتها وانتثارها في كتب الأدب، وصعوبة الظفر بها في دواوين العرب، وأكثرها من شعر لصوص البادية والمُغيرين على أموال القبائل وهم أفصح العرب شعراً، وأصرحُهم عربية؛ وكان بعض علماء الأدب المتقدمين وأحسبه الأصمعي يقول: (إذا أتاك بيت لصّ فاحتفظ عليه) وذلك لإخلادهم إلى سكنى البادية، وعدم اتصالهم بالحضر.

ومن أحسن ذلك شعر عبد يغوث بن وقّاص الحارثي، وكانت تيم قد أسرته وشدّوا لسانه، فقال من قصيدة

ألا لا تلوموني كفى اللوم ما بيا ... فمالكما في اللوم خيرٌ ولا ليا أيا راكباً إمّا عرضت فبلّغن ... نداماي من نجرانَ ألاّ تَلاقِيا

أقول وقد شدّوا لساني بنسعةٍ ... أمعشر تيمٍ أطلِقوا عن لسانيا

أحقّا عباد الله أن لستُ سامعاً ... نشيدَ الرِّعاء معزِ بين المتاليا

وقد علمت عرسي مُلَيكة أنني ... أنا الليث معدوا عليّ وعاديا

وقد كنت نحّار الجزور ومُعمِل ال ... عطيَّ وأمضي حيث لاحيَّ ماضيا

وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي ... وأصدع بين القينتين ردائيا

وكنت إذا ما الخيل شمسها القنا ... لبيقا بتصريف القناة بنانيا

كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كُرّي نفِّسي عن رجاليا

ولم أسبأ الزِّق لبرَّويّ ولم أقل ... لأيسار صدق أعظِموا ضوء ناريا

وإنك لتقرأ هذا الشعر بيتاً فلا ترى ملكة الشاعر قد تصرفت في هذه المعاني البسيطة الفاتنة ببساطتها تصرفاً قليلاً ولا كثيراً، ولا أضافت إلى هذا الجمال الطبعي الرائع بطبيعته من المحسنات الفنيّة ما يزيده روعة وحسناً؛ ولم يزد الشاعر على أن عرض صوراً دقيقة من حياته الماضية ولذاته المنصرفة، كما يتحدث به المتحدث، لا كما يتخيله الشاعر المتكلف؛ ودَعْني أيها الأديب المتذوق أعتمد على ذوقك في إدراك الجمال في هذا الشعر فإني أرى الإطالة في شرح الجمال الشعر والإبانة عن وجوه الحسن فيه كما يفعله علماء البلاغة مما يسخفه ويسمّجه، ويخرجه عن كونه احساسات نفسية، إلى جعله قواعد علمية. وسيمر بك أيضاً كثير من أمثلة هذا الجمال منتثرة في هذه الفصول.

أحمد الزين