مجلة الرسالة/العدد 124/ عمرو بن العاص)

مجلة الرسالة/العدد 124/ عمرو بن العاص)

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1935


2 - عمرو بن العاص

بقلم حسين مؤنس

ثم انظر كيف فهم الرسول نفس عمرو: لقد قال: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) لقد أسلم الناس حباً في الإسلام وقد دفعتهم عواطفهم وهدتهم طبائعهم، أما عمرو فقد حسب لأمر حسابه، ووزن ربحه وخسارته، حتى إذا اطمأن فقد آمن. وقد أقبل واثقاً. . هكذا أصاب الرسول الكريم في فهم الرجل الجليل. وأن الرسول ليعرف أن عمراً كان تاجراً داهية ومساوماً ماهراً. . . وأنه قد بذل الثمن وينتظر الربح، فهو لا يضن عليه بما يريد فيؤمره على سرية ذات السلاسل، ويؤمره على المدد الذي أرسله إليه وفيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ونفر من الأنصار والمهاجرين. . . إن الرسول ليعرف أن هؤلاء كلهم لا ينظرون إلى ولاية أو إمارة. . . لأنهم لا يلقون جزاءهم عن الأيمان إلا عند الله. . . أما عمرو فيجادل أبا عبيدة على الإمارة. . . ويقول له: (إنما قدمت على مدد، وأنا الأمير ولا أمارة لك. . .) فينزل له أبو عبيدة عن الأمارة وكفاه شرف الجهاد. . . ثم انظر كيف يفهم أبو بكر نفس عمرو. . . إنه ليفرده بفتح فلسطين. . . إنه ينقده ثمن ما سيبذل من جهد في الفتح ومهارة في القتال. . . ولو قد طلب إليه أن يكون مكان يزيد بن أبي سفيان مثلاً على جيش دمشق. . . لربما كره عمر. . . وربما لم يبد من المهارة ما أبدى في أجنادين، ولكنه خليفة رسول الله، كان يعرف عمراً خير المعرفة. . . فنزل له عما يريد. ولم يقصر الفاروق في هذا فتركه حراً في فلسطين، لم يعزله كما عزل خالداً. . . وكان عمر يعرف كذلك أن عمراً مغامر. . . وأي تاجر لا يغامر؟ وأي رجال المال لا يرتاح إلى المضاربة والمغامرة والتعرض للغنم العظيم أو الغرم الذي يقصم الظهر. . . ولكنه كان يعرف فيه حذق المضاربة. . . وأنه لا ينزل السوق إلا كاسباً، ولهذا. . . أقره على فتح مصر ولم يفرغ بعد من فتح الشام. . . وكان عمرو في ذلك مساوماً ماهراً ومقنعاً ذا حجة ودهاء. . . فلم تثبت اعتراضات عمر الثبت الحصيف الدقيق الذي يضن بمسلم واحد على أن يجازف به وإنما اقتنع سريعاً. . . كان عمرو ماهراً لسناً بارعاً حين خلا بابن الخطاب وهما عائدان من فتح فلسطين. . . وكان أمهر حين انساب في جنح الليل يسعى إلى مصر سعياً. . . لقد خشي أن يعود أمير المؤمنين فيقبض يده. . . وقد خشي أن يراج نفسه. . . أو خشي أن يثنيه أحد عن عزمه. . . وما أخطأ عمرو في ذلك. . . فها هي ساعات لا تنقضي على مسيرة عمرو حتى يقبل عثمان فيعلن إليه عمر نبأ غزاة مصر. . . فما يكاد عثمان يسمع الأمر حتى يراع ويصيح به: (يا أمير المؤمنين: إن عمراً لمجرَّؤ وفيه إقدام وحب للأمارة، فأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا. . .) فيشفق عمر على المسلمين إشفاقاً شديداً. . . وتحدثه نفسه أن يستوقف عمراً، ولكن عمراً قد مضى من أيام. . . ولعله قد دخل حدود مصر، ولعل الرسول لا يبلغه إلا وقد دخلها. . . وما ينبغي لجيش إسلامي أن يدخل بلاداً ثم يبارحها من غير فتح. . . تلك إذن هزيمة لا تليق بجند الإسلام.

. . . إذن فليسرع بالكتابة إليه، فإن أدركه الرسول قبل أن يدخل حدود مصر فليرجع، وما في ذلك حرج. . . وإذا كان قد دخلها. . . فليمض على بركة الله، وليبعث إليه الإمداد سراعاً تباعاً. . . كأنما كان عمرو يقرأ ذلك لكنه من كتاب! وكأني به وقد قدر أن الخليفة لا بد أن يستدعيه، وأن أحداً لا بد لائمه في ذلك الأمر. . . فها هو ذا يقرأ كتاب الخليفة دون أن يفتحه!. . . وها هو ذا يحتال حتى يدخل أرض مصر. . . لا لأنه يعلم أن الخليفة قد قال ذلك. . . بل لكي يقول للخليفة إذا أمره بالرجوع: (وكيف أنسحب وقد دخلت أرض مصر. . . فكأني بالروم تقول: خافتنا العرب. . .)

إلى هذا الحد بلغ ذكاء هذا الرجل وحسن تقديره ودقة بصره. . . حتى عمر نفسه على ما عرف عنه من الذكاء الخارق لم يدرك شأو ابن العاص في فن الحساب والتقدير!. . . . . . . . .

وأي صفقة هذه. . . لقد ربحها ابن العاص. . . إنها مصر التربة الغبراء. . . والشجرة الخضراء. . . (طولها شهر وعرضها عشر) كما يقول في وصفه البليغ لعمر. . . ثم انظر كيف يعرف الرجل سبيل استغلال (هذه اللقمة) السائغة. . . إنه يقول: (ألا يتأذى خراج ثمرة إلا في أوانها. . . وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها. . . . فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال. . . تضاعف ارتفاع المال. . .)

وتلك هي سبيل التاجر الذي يحسب مكسبه وطرق الفائدة منه. . . ثم استمع إلى ما يوصي به الناس غداة الفتح. . . إنه لا يقف كثيراً عن حض الناس على الصلاة والصيام. . .

فتلك أمور بينهم وبين ربهم. . . أما هو فحسبه أن يقول (يا معشر الناس! إياكم وخلالا أربعة فإنها تدعو إلى التعب بعد الراحة. وإلى الضيق بع السعة. . . وإلى الذلة بعد العزة. . . إياكم وكثرة العيال. . . واخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل والقال بعد ذلك في غير نوال، ثم يوصي الناس بالخيل ويطيل في ذلك. . . لأنها (رأس مال العربي) في الفتح والزرع!. . . وهكذا. . . كان الرجل يعرف قدر الصفقة التي كسبها من عمر، ويعرف سبيل الفائدة منها. . . وإحسان القيامة عليها، وإلى هنا ويبدأ الخلاف بينه وبين غيره. . . حتى عمر نفسه لا يداني ابن العاص في مسائل المال والاستثمار. . . فها هو ذا يكتب إليه يقول: (أما بعد فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة قد أعطى الله أهلها عدداً وجلداً. . . وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملاً محكماً مع شدة عتوهم وكفرهم. . . فعجبت من ذلك. . . وأعجب ما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحط ولا جدب!) فيرد عليه عمرو الرد الحكيم فيقول: (ولعمري. . . للخراج يومئذ (أي أيام الفراعنة) أوفر وأكثر، والأرض أعمر، ولأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم، أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام. . .).

هنا نلمس الفرق بين عمرو وغيره من ساسة الإسلام، إنه يجيد الاستثمار، ويحسن القيام على المال. . . . . . وهل كان الولاة الأولون يعرفون من هذه الأمور كثيراً أو قليلاً؟ أترك الجواب على ذلك لابن خلدون فله من ذلك شكوى لا تنقطع. . .! وهنا سر الخلاف بين عمر وعمرو، ومبعث هذه المراسلات التي كانت تشتد وربما وصلت إلى التعريض. . . فهذا عمر يقول: (وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق المبين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة!. . .) ثم يقول له في كتاب آخر: (إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم تكن حين وليت مصر!).

إن ابن الخطاب يعرف أساليب عمرو بن العاص، إنه يخشى أن يدخر المال. . . إنه ليبعث إليه محمد بن مسلمة (ليقاسمه ماله) في ظاهر الأمر، وليكون عليه رقيباً حسيباً!. . . في باطنه؛ كان عمر يعرف في ابن العاص صفة التاجر المغامر. . . فعامله على حذر، وأفاد منه ولكن في حذق. ولكن عثمان قد عزله عن مصر. . . فأي خطأ هذا. . . وأي جهل بطبيعته. . . لو أنه وجه إليه كلاماً أفعل من كلام عمر لسكت. . . لو أنه فعل به أي شئ آخر لما أهاجه ذلك هذا الهياج. . . ولكن (الصفقة) ضاعت من يده؛ لقد عزل عمر بن الخطاب خالد ابن الوليد عن إمرة صد الشام فلم يحزن ولم يبتئس، ولكن ابن العاص لا يسكت. . . إنه يعرض بعثمان حيث جلس. . . إنه يخف إلى المدينة مسرعاً وإن الثورة على عثمان لتضطرب بين جوانحه. . . وأي ثورة هي أشد من هذا الحديث البديع الذي رواه لنا الطبري كاملاً:

قال عثمان: يا ابن النابغة!. . . أتطعن علي وتأتيني بوجه وتذهب عني بوجه آخر؟

عمرو - إن كثيراً مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك.

عثمان - استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك.

عمرو - قد كنت عاملاً لعمر بن الخطاب ففارقني وهو عني راض.

عثمان - لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستقمت، ولكني لنت عليك فاجترأت، أما والله لأنا أعزمنك نفراً في الجاهلية، وقبل أن ألي هذا السلطان.

عمرو - دع هذا، فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد وهدانا به، قد رأيت العاص بن وائل ورأيت أباك عفان، فو الله للعاص أشرف من أبيك.

عثمان - ما لنا ولذكر الجاهلية!

هكذا تنتهي المحاورة بين الخليفة وعمرو. . . ويخرج هذا الأخير وقد دبر في نفسه أمراً. . . إنه ليثير الناس على الخليفة ويقضي وقته متنقلاً من مجلس إلى مجلس يبسط للناس أخطاء عثمان. . . ويحرضهم على الثورة عليه. . . فإذا وفق إلى إثارة الناس وأنذرت الفتنة فقد انحاز إلى قصره (العميلان) بفلسطين. . . حيث وجدناه في أول هذا الحديث. . . فإذا بلغه مقتل عثمان فقد طرب لذلك ولم يكتم فرحه به. . . وصاح يقول: (أنا عبد الله. . . إذا حككت قرحة أدميتها، أنى كنت لأحرض عليه، حتى لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

والآن! (قد خرج الحق من خاصره الباطل، وأصبح الناس في الحق شرعاً سواء!. مات ولي الأمر وأصبحت دولة الإسلام كلها (صفقة واحدة) تحسن المساومة فيها جملة، ولهذا أرق عمرو وسيأرق طويلاً، إنه ليتدبر الأمر تدبيراً، وإنه ليقلبه على وجوهه ويحسب مكسبه منه، وخسارته فيه، ثم يمضي على حذر، وسنرى.

للبحث بقية

حسين مؤنس