مجلة الرسالة/العدد 125/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 125/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1935



خيوط العنكبوت

تأليف الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

للأستاذ محمد سعيد العريان

الأستاذ المازني أديب من أدبائنا المعارف، يجري اسمه في ابتسام عذب على شفتي كل من يتحدث عنه حين يذكر الأدباء، وقل من لا يتحدث عنه حين يعرض ذكر أدبائنا الذين انشئوا في الأدب وزاد بهم. وان له فيما يكتب لطابعاً وروحاً يتميز بهما ويعرف؛ وما الأديب إذا لم يتميز بطابعه وروحه، ويبرز اسمه وصورته وراء كل سطر مما يكتب؟

على أن للأستاذ المازني غير ذلك فناً وحده، تفرد به، واقتصر عليه أو كاد؛ فما يستطيع أن يجاريه فيه أديب من أدباء العربية؛ يرسم لك به الصورة الملموسة، فيضيف إليها فنا من فنه، ويخلق لك فيها الجديد الذي لم تبصره عيناك، ولم تتناوله حواسك؛ على انك لا تستطيع إلى ذلك أن تنكر انك ترى شيئا مما يرى ويحس، وان أعجزك أن تراه وتحسه كما رآه المازني وأحسه، أو كما جلاه عليك من صور، هي هذه النواحي الضاحكة المضمرة وراء ما يبدو لك من عبوس المناظر والصور والأشكال؛ فهو حين ينظر، وحين يفكر وحين يكتب، يستطيع أن يريك موضع الابتسامة من كل معنى كئيب، وإشراقة السرور من وراء كل ظل عابس؛ وله من ذلك في كل أليم تأخذه عيناه روح من السرور مضمرة مستخفية، لا تدري اهو يخلع عليها من فنه فتضحك من عبوس، وتنبسط من تقطيب؛ أم أن له عينا انفذ بصيرة إلى ما وراء المحسوسات، هي تكشف له عن حقيقتها وسرها، فما هو إلا أن يجلوها عليك كما رآه ببصيرته وإحساسه العميق؟

وكما تجد للمازني فنه الخاص به، تجد له كذلك أسلوبه ولغته؛ واحسبه لا يفكر في اللفظ والعبارة عندما يهم أن يكتب، اكثر مما يفكر في المعنى والموضوع؛ فهو هنا وهناك لا يكلف نفسه الغوص والتعمق، واستخراج المعنى من المعنى، وتوليد الفكرة من الفكرة؛ بل تراه أسلوباً متساوقاً مطرداً، وفكراً قريباً من قريب، وموضوعاً مما يقع عليه الحس وتألفه النفس. واحسبه أيضاًً يلتمس فيما يكتب أن يرضى قراءه ويسرهم، أكثر مما يلتمس أن يكون إنشاء يخلد به في الأدب، واختراعا يزيد ثروة اللغة معنىً أو موضوعا أو فكرة. وما حاجة المازني إلى الخلود وهو لا يراه إلا خرافة، اخترعها الإنسان ليضل بها نفسه ويرضى ناحية من غروره وكبريائه؟

على انه - من حيث يريد، أو من حيث لا يريد - قد كتب لنفسه في تاريخ الأدب صفحة، وأثبت صورة، سيخلد بها وتخلد به.

وأنت حين توازن بين ما يكتبه المازني الآن، وما كان يكتبه أو يحرره منذ بضع عشرة سنة - لا تجد فرقاً كبيرا، إلا أن ذلك الأديب الطموح الذي كان يكتب ليقول الناس: (ما اجمل ما كتب. . .!) قد قست عليه الحياة ونالته أحداث الزمن، حتى عاد يكتب، لأنه مطلوب منه أن يكتب؛ ولكنه هو المازني الذي يعجب القراء به ويجتمعون إليه، وإن لم يعنه هو اجتمعوا أم تفرقوا إلا بمقدار ما يعني صاحت الصحيفة الذي يطلب إليه أن يكتب!

والمازني حريص على سلامة لغته، حرصه على أن تكون اسهل على آذان القراء وأطوع لألسنتهم؛ وهو بسبيل ذلك كثيراً ما يحاول تصحيح الكثير من لغة العامة وأساليبهم، فيخطئ في ذلك ويصيب، وما على المجتهد في أن يخطئ باس؛ وقد يمر القارئ العادي على ما يكتب المازني، فيراه بعض أولئك الضُلاَّل الذين يدعون إلى العامية ويرجون لها؛ ويمر الأديب المطلع، فيرى لغة أن لم تكن إلى لغة القدماء فهي منها، وان كان فيها من لغة العامة، فهو الجديد الذي تتقبله العربية ولا يأبه البيان الصحيح، لأنه يزيدهما ثروة إلى ثروة، ويفتح الباب إلى الأدب القومي في لغته التي يتحدث بها أهله، غير نابية ولا مستكرهة ولا أعجمية ولكنك إذ ترى المازني يحرص على هذه الناحية القومية في اللغة، قل أن تراه كذلك في الموضوع الذي يحاوله؛ وما اكثر ما يشطح خياله إلى قصة أو حادثة، فيصورها بأسلوبه الساحر، على أنها مصرية وقعت في مصر، وجرت في الجو المصري، وتحدثت بها ألسنة مصرية، وكان حقها أن تكون مما يقع في لندن، أو برلين! أتكون مما يقعمطالعات المازني في مصر هي بعض الجو المصري الذي يراه وينقل عنه. . .؟ على أنه أدب جديد في العربية على كل حال سواء أكان من إيحاء الجو المصري إلى فكر المازني، أم من إيحاء جو غريب.

وبعد، فهذا كتاب المازني الجديد (خيوط العنكبوت)، فمن لم يكن يعرف المازني فليعرفه فيه، ولعله أن يرى هناك ما رأيت وأسلفت وصفه. تبدو لك فكاهة المازني لأول صفحة من الكتاب، حيث يهديه إلى ولديه: (اعترافاً بفضلهما، وشكراً لمعونتهما. . فلولا عبقريتهما لظهر هذا الكتاب قبل عامين!) وتقرأ فاتحة الكتاب فلا تدلك أي كتاب هو، ولكن سِرْ إلى نهايتها ثم اقرأ: (وبعد، فقد لا يكون هذا الكلام اصلح ما يكتب على سبيل التمهيد لمجموعة من الصور والقصص، ولكن ما يكتب على روح الفاتحة من روح الكتاب، وهذا شفيعها عندي فعسى أن يكون شفيعها عند القراء. . .!).

ولقد قرأت المقدمة، وقرأت الكتاب؛ ولكني لم استطع أن افهم قوله (. . . . روح المقدمة من روح الكتاب) أما المقدمة ففضل اجتماعي ما كنت أقدّر أن يكتب المازني مثله، لا عجزاً منه، فانه لقدير؛ ولكني أعرفه أكثر اعتزازاً بقوميته، وافخر بمصريّته، فما كان ينبغي أن يتهكم بمصر ويزرى بها، كل هذا التهكم وهذه الزراية في فاتحة الكتاب! وقد يكون فيما عاب على المصريين واخذ عليهم محقّا بعض الحق، وقد يكون بعض ما قاله أو اكثر ما قاله صحيحا بعض الصحة، ولكن، أما كان ينبغي أن يستر على قومه؟ والجمود والبلادة، والضعف - عيوب طالما رُميتْ بها مصر من أعدائها، ومن بنيها أنفسهم، ولكن هذا على ما قد يكون فيه من رغبة الإصلاح، يؤثر أثره في القراء، ويكون أشبه بالإيحاء يستقر في الواعية الباطنة فيعمل عمله، فلا يكون من ورائه إلا الجمود والبلادة والضعف حقا وصدقا لا تهمة بغير دليل. ويحاول الأستاذ المازني في ختام الفاتحة أن يعتذر وان ينفي التهمة؛ أفتراه قد بلغ في اعتذاره بمقدار ما بلغ في تجريحه؟

وان القارئ ليعجب لذاك يصدر عن المازني المصري الفخور بقوميته، ولكن، أرأيت إلى المازني إذ يكتب فلا يتحرج أن يسخر من نفسه، وأهله، وولده؟ فها هو ذاك يسخر أيضاً من مصر. . .!

أما الكتاب، فكل شئ فيه جميل، إلا الفاتحة: وهو قسمان: (صور من الأمس)، و (صور من اليوم) هما مجموعة صور وأقاصيص، لا تجد لها شبيها مما كُتب في العربية، جمعت إلى الرقة في الوصف، حُسْنَ الأداء وسلامة التعبير، إلا قليلا احسبه من اثر السرعة التي يكتب بها المازني. وأنت ترى فيما تقرا من هذا الكتاب صورة المازني الطفل، والمازني العابث، والمازني الأديب الذي يسحر قراءه بسلامة الفكر وحُسْنَ الأداء؛ فحياته منشورة في كتابه مصورة، على حين يحاول اكثر كتابنا أن يكون ما يتصل بشخصه ابعد ما يكون عن قرائه. وقد تجد المازني يجنح أحياناً إلى المبالغة في تصويره وفي عباراته، وقدتجده يسترسل في الكلام فيكتب في القصة ما لا يطلبه موضوع القصة؛ ولكن هذا وذاك لا يعيبانه ولا ينقصان من مقدرته القصصية وفنه البارع.

وبعد، فمن أراد أن يمتع نفسه ساعات من فراغ، ويلذ نفسه، فحسبه أن يقرأ (خيوط العنكبوت)؛ ولو أن أحدا طلب أليّ أن أدله على خير ما قرأت في هذا الأسبوع فلذني وأمتعني؛ فليقرأ فيما يقرأ من الكتاب (الراعيان)، (سيرة من السير)، (التدخين)، (الشيخ قفّه)، (ساسة المرأة)، فسيجد فيها ما وجدت من متاع ولذة، ألذًّ متاع وأمتعَ لذة.

محمد سعيد العريان