مجلة الرسالة/العدد 126/القصص

مجلة الرسالة/العدد 126/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1935



أقصوصة عراقية:

أبو جاسم

للأستاذ محمود. ا. السيد

- 1 -

حدثني صديقي إبراهيم والذكرى تؤلمه، قال:

(كنت في المدرسة الثانوية - السلطانية العثمانية - قبل احتلال الجيش البريطاني بغداد بسنة أو أقل، أصاحب طالبا من ذوي الذكاء الواعد والخلق الجميل. كنت في السادسة عشرة من العمر. وكان هذا الصديق - وأسمه علي بن حسن - خير عون لي في المدرسة. وكنت أعجب بذكائه. . وكان طليقا جريئا يسمو على أقرانه بكثير من المزايا والصفات

وكان إلى جانبنا طالب آخر يكمل لنا (ثالوثا) مقدسا بالإخاء والود أسمه عبد العزيز. وهو من أبناء الطبقة العاملة. وكان أكبرنا سنا وأقلنا تهذيبا، وأجرانا قلبا، يقلدني وعليا في الاعتزاز برجال التاريخ الإسلامي العربي: أجدادنا الأولين. وذلكم كان ديدننا في ذلك العهد: فجر الحرب العالمية الاستعمارية الكبرى وضحاها

وكان أكثرنا حبا لبغدادنا وإيغالا فيها. . . يعاشر خارج المدرسة فتية من أبناء طبقته المكدودة فيشاركهم فيما يعتقدون من باطل العقائد والخرافات. وكان يرى - فيما يرى من غريب الآراء - أن القبعة العسكرية (الأنورية) التي ابتدعتها الحكومة الاتحادية إبان الحرب لرجالها ولطلبة المدارس، قبعة إفرنجية، حرام على المسلمين لبسها، أن رباط العنق رمز للصليب. ولم يلبس القبعة حتى أخر يوم من أيامه في المدرسة، فكان الطالب الوحيد البارز من بين الطلبة بطربوشه الأحمر القديم. أما أنا وعلي فقد لبسنا القبعة تلك لأننا لم نستطيع أن نشذ عن الجماعة شذوذه.

وكان هذا الصديق الجريء، يقضي أغلب أوقاته في منازعة الطلبة وتحديهم، فكنت أنصحه راجيا منه أن ينصرف عنهم وعن منازعاتهم إلى التوفر على دروسه فما كان النصح يجدي

وكان يؤسفني أنه عرف آخر الأمر بأنه شكس سيئ الخلق، وإن كان في الحقيقة طيب السريرة خيرا. ولعلهم كانوا يعيبون عليه كرهه للبس القبعة (الأنورية) لغير ما سبب معقول. وكانوا يتخذونه وطربوشه القديم الذي أوشك أن يبلى هزوا؛ وهذا ما كان يهيجه. ولم يزده عقاب المدرسة إياه على شغبه إلا جرأة واستمرارا في الشغب والنزاع والخروج على (النظام)

وكما كان يكره القبعة، كان يكره الحكومة - الاتحادية - أشد الكره، لأنها حين اضطرمت نار الحرب جندت أخاه الكبير وأرسلته مع من أرسلت من أبناء العراق إلى سوح الوغى في القوقاز، ففقدت بذلك أسرته قوامها وسبب حياتها، كان قائما مقام أبيه الشيخ الكبير الذي لا يستطيع عملا، وكان يحسب أنه لاحق به في العاجل القريب

وظاهر أن هذا المسلك الذي سلكه عبد العزيز يومئذ كان يجب أن يؤدي إلى الشر. وكان يجب أن يكون مصيره (الطرد) من المدرسة والحرمان من العلم. وكان متوقعا كذلك أن ينالني بعض الأذى من أجله، فقد كان المدرسون والطلبة - إلا القليل منهم - يناوئوننا معا ويكرهوننا ويعادوننا أشد عداء. . .

واشتدت الحرب في العراق. وطغى سيل الغزاة الفاتحين. غلب البريطانيون، وأصبحوا على أبواب بغداد، فتنكرت الأيام للناس، وجندت الحكومة طلبة الصفوف العالية، وأكبت على طلبة الصفوف التالية الأخرى تعلمهم كما تعلم الجند فنون الحرب والضرب وتقحمهم في أشق الرياضات العسكرية لتلحقهم بهم. وهنا كان صحبنا الطلبة جميعا - في مدرستنا - جبناء، يملأ قلوبهم الرعب والخوف

أما عبد العزيز فقد استيقظ في نفسه من جراء ذلك شعور بغض للمدرسة، بغض للخروج مع الطلبة - على ما كانوا يفعلون في كثير من الأحيان - إلى استقبال القواد وحضور الحفلات الحكومية، بغض لمدرس الرياضة الذي أرسل إلينا آنئذ من الجيش، وهو ضابط فظ بدين، ذو شاربين غليظين منتصبين كالصياصي. . . وكان يخشاه

وكان - من بعد - حين يخرج من بيته صبحا يتلكأ في الذهاب إلى المدرسة، ويحاول أن يتمارض لكي ينقطع عنها أياما قليلة أو كثيرة. كان يغادر البيت كل صبح، وكأنه - كما كان يقول لي - يساق إلى سجن لا إلى دار علم وعرفان

وجاءنا إذ ذاك مدير المدرسة جديد. وهو رجل عنيد، كان يحسبنا مجموع دمى من الشمع يسهل عليه إذابتها ثم صنعها ثانية على الغرار الذي يريد. وكان أول من لفت نظره إليه من الطلبة: عبد العزيز؛ فقد أعار سلوكه اهتمامه وعنايته، وراح يرهبه ويعالج تأديبه وتهذيبه بالعصا. وأذكر أن طالبا من أبناء الضباط الذين جاءوا بغداد في أواخر أيام الحرب من البلاد الشمالية، سفهه ذات يوم ثم عيره بالعامية والفقر، فقابله بالصفع والضرب الموجع المهين، فما كان نصيبه من المدير إلا الإهانة و (الطرد). وبذلك أسدل الستار على حياته المدرسية، وألجئ إلى التشرد والعطلة! وا أسفاه!!

ولقيته بعد ذلك فألفيته جزعا، وقص علي قصة النزاع بينه وبين ذلك الطالب - ولا أذكر أسمه الآن - قال:

(غادرت البيت صبحا وأنا كئيب محزون، لأن أمي التي لا تفتأ تذكر أخي الجندي ليلا ونهارا بالحسرات والدموع، وأبي المقبل على أخرته غير آسف على شيء في الدنيا، وهو يحبه حبا جما، لم يصل إليهما كتاب منه منذ شهر وبعض شهر. فأفرغ ذلك صبرهما بل أفقدهما الرشد. وإذ كنت أمشي في الشارع فاجأني خمسة من الشرط يعدون وراء رجل علمت من بعد أنه جندي هارب. وصرخ أحدهم قائلا: (خائن! قف!) ثم أطلقوا عليه الرصاص من بنادقهم فأردوه. وسقط تعبا جريحا يلهث وعيناه تنظران إلى السماء. ووقفت على مقربة منه أنظر إليه في لهفة وفرق؛ وهو ملقى وقد اصفر لونه وجللت وجهه سحابة من قتر الطريق، وتشنجت أعصابه من الخوف، وأقبل الشرط يتراطنون يريدون أن يحملوه. . . أعرضت عن هذا المشهد الذي آلمني أشد إيلام وانصرفت صامتا، ولحظت أن الشمس تملأ الأرجاء نورا، فعرفت أنني تأخرت عن موعد الدرس الأول. وكنت أمشي متباطئا ذاهلا، فما انتبهت إلا وأنا على باب غرفة صفي. . . طرقت الباب طرقا خفيفا مرة فمرتين وحاولت الدخول فجابهني المعلم ناهرا إياي بقوله: (أخرج، أخرج، اندفع يا حمار!) أو كنت حمارا فيإسطبل أبيه؟! وكنت حتى حين خروج الطلبة في الصف إثر الفراغ من الدرس ثائرا مهتاجا، فلقيني ذلك النذل فلاغاني فلكمته، وماذا كان يجب على أن أفعل؟ وسحقا للمدرسة بعد أن ينالني من هؤلاء فيها أذى)

وقال صديقي إبراهيم وقد حدثني بحديثه هذا بعد انتهاء الحرب ومرور سبعة أعوام على نهايتها: (ثم احتل البريطانيون بغداد، وفرقت صروف الزمن بيننا - بعد ذلك - إذ رحل بي أبي وأسرتنا كلها إلى الحلة، فأقمنا فيها قرابة سنين أربع، فلما عدنا إليها لم أسمع لصاحبي عبد العزيز ذكرا)

- 2 -

وكتبت هذا الحديث لطرافته عام 1929. ثم مضى على ذلك أعوام ثلاثة، فبدا لي يوماً أن أسأل إبراهيم!

(هلا بحثت في هذه المدة الطويلة الماضية عن رفيقك القديم؟ رفيق المدرسة وطريدها عبد العزيز؟)

فأجابني وهو شاعر بما يتضمنه سؤالي من ملامة:

(لقد بحثت عنه في الأيام الأخيرة، فبلغني من أنبائه، أنه كان هاجر قبل مدة غير محدودة بالضبط إلى البصرة، ليتكسب فيها ويعيش عاملا لدى إحدى الشركات الأجنبية، فأنه أضحى في عنفوان شبابه، وبلغ السن الذي يستقل فيها المرء بالكفاح والجهاد في سبيل الحياة، وإن أخاه الجندي المحارب لما يعد، وهلكت أمه ومات أبوه فقيرا معدما، لم يترك له إلا ديونا ودارا، بل كوخا باعه الدائنون؛ ولم يف ثمنه بعشر معشار تلك الديون. ولم يكن متعلما حرفة، ونسي ما تعلمه في المدرسة العثمانية من مبادئ العلوم. وكان يزاول بعض الأعمال الشاقة التافهة التي يزاولها العمال الذين من أدنى الدرجات؛ ولا يأخذون عليها أجرا يستحق ذكرا. هذا كل ما سمعته عنه. ولا يعلم أحد على التحقيق أذهب إلى البصرة أم إلى جهة أخرى)

قلت:

(أو لا ترى من واجب الوفاء إتمام البحث عنه لاستئناف الصلة به والوقوف بجانبه في معترك الحياة، في هذا المجتمع الذي طغت فيه المادية والأنانية والفردية، المجتمع الجائر القاسي الذي لا يرحم الفقير، وأن تنفعه وتعينه على اكتساب الرزق، فأنك موسر بعض اليسر.)

قال:

(وهل تحسب عبد العزيز المشاغب في المدرسة، الذي لم يعرف سوى عزة النفس والأباء في أيامه الماضية عدة وخلقا، والذي لم يستعن أحدا من صحبه يوما لو وجدته الآن لمد لي ولأمثالي يده في إبداء حاجة واستعانة مهما كان معسرا تنقض ظهره الشدة والفاقة؟ كلا. أنا لا أحسب ذلك؛ بل أحسب أن تلك الفترة من أيام مراهقته وفاتحة شبابه، كانت مقدمة وعنوانا لما كان مقبلا عليه من أيام شبابه ورجولته)

ثم سكت وسكت

وبعد شهرين أو ثلاثة أقبل علي يزورني في داري، وما عتم أن راح يحدثني عن رفيق صباه عبد العزيز الذي عثر به آخر الأمر فقال:

(ولقد وجدته آخر الأمر وصافحته. . . ولكن أين؟ احزر أين وجدته؟ في السجن! ولا تستغرب؛ فقد ذهبت يوم الجمعة - أمس - إلى هناك لأزور صديقي الصحافي عبد الصمد الذي سجن متهما بنشر ما لا تجيز الحكومة نشره، وإذ كنت أدخل الحجرة التي يسمح بمقابلة السجناء فيها ألفيتني أمامه وجها لوجه. وكان يكلم زائرا غريبا يرتدي بزة العامة، ربما كان صديقا له. ولم أعرفه إلا بعد تأمل فيه قليل، لأن سحنته قد غيرتها السنون؛ وحييته فحياني وبسم لي، ثم سألني (أو قد نسيتني يا إبراهيم يا حبيبي؟ يا رفيق الأيام الحلوة التي لن تعود! وهل نسيني علي كذلك؟ وكيف هو؟. . . الخ) ودمعت عيناه من شدة الفرح بلقياي، وكان طليقا جريئا، كما كان في المدرسة، في محادثته السجانين وصاحبي الصحافي عبد الصمد الذي لم يكن يعرفه من قبل، ورأيت أن لهجته في الكلام أصبحت عامية سوقية خالصة، تميزها التعابير والألفاظ التي تجري - عادة - على ألسنة هؤلاء الذين عرفوا بفعال (الشقاوة) - كما نسميها - التي تظهر فيها، في أغلب الأحيان، شجاعة نادرة في غيرهم و (أريحية) ونجدة وكرم على فقر، وجرأة في احترام الجرائم، وكراهية شديدة لكل من يمت إلى الأجنبي الغاصب بصلة باقية من عهد الاحتلال المظلم، على ما تعرف. ولا أدري كيف أدركت أنه محكوم عليه بعقاب السجن لإجرامه جريمة قد لا يفخر المرء بها عندنا، فلم أشأ أن أسأله عما أدى به إلى حاله تلك. ومن الغريب أنه لم يكن يرى في أمره غرابة؛ وكأنه كان معلوما عندي ما اجترم فلم يخبرني به؛ وسرعان ما راح يودعني، إذ كانت الفرصة المسموح بها لزيارة المسجونين ضيقة جدا، متمنيا أن يلاقيني عقب خروجه من السجن، و (أن يكون تحت النظر) على حد تعبيره الشعبي الرمزي الجميل، (فأنه لا يزال على وده القديم، وذلك الصاحب الذي لا ينسى الصحب على طول الزمان، ولا يرضى عن الوفاء بديلا). وترك المجلس لي ولصاحبي منصرفا عنا في لباقة وحسن أدب، كما ينصرف الواحد منا عن أثنين لديهما سر، ولم يكن لدينا - في الحقيقة - سر غير أمره. فأنني كنت في أشد الشوق إلى سماع قصته، وبتعبير أوضح أحجمت عن سؤاله عما أدخله السجن ساعة لقيته لكي لا أجرح منه شعورا طالما كنت أقدره، بل أقدسه في أيامنا التي خلت، في أزهى زمان وأحلاه، زمان الدرس والتحصيل. وقال لي عبد الصمد: (هذا فتى باهر الخصال يا أخي، ولا أرى فائدة في أن أقص قصته عليك في إسهاب وتفصيل، فهو الآن مجرم محكوم عليه بالسجن ثلاث سنين لأنه جرح رجلا من الأجانب، كان يحترف عملا فنيا لدى شركة أجنبية في البصرة؛ وكان عبد العزيز (يشتغل) هناك بيده كعامل لا شأن له، ورئيسه ذلك الأجنبي، على أنه كان شخصا مخيفا بين العمال، خشن الطباع، شرسا، كذلك قالوا عنه. وليس في حادثته التي طوحت به إلى السجن ما يستغرب منه ومن أمثاله في العراق اليوم، فقد انتهره الأجنبي ذات يوم، وشتمه وأهانه، لأنه أخطأ في عمله بعض الخطأ، فما كان منه إلا أن قابل إهانته إياه بطعنه بمديته، فجرحه، ولم يصب منه مقتلا. انتهت قصته. أما هو فما يزال يذكر الحادثة غير مكترث به صار إليه من جرائها، فهو يرى لها سببا من أسباب التفاخر بالجرأة والشجاعة، ولا سيما أن المجني عليه أجنبي من بقايا الذين جاءوا في الحرب في (الحملة) على العراق، وهو يقول لنا عنه في سذاجة ويكرر قوله مرارا: (ليته كان من أبناء أمتنا أمثالي، إذن والله لما جرحته، لما جرحته)، فانظر إلى رقة شعوره وشدة كرهه للأجانب الذين أرهقوا البلاد في الحرب الاستعمارية الكبرى وبعدها. . . والعبرة ليست فيما حدثتك، بل فيما أرى عند هذا العبد العزيز الذي لقبوه في السجن بأبي جاسم كما يلقب العراقيون عادة فتيانهم ذوي (الأريحية) والنجدة والشجاعة، مجرمين كانوا أو غير مجرمين، من فلسفة القوة والأمل والتفاؤل والاستهزاء بصروف الحياة، فأنني - وقد خصني بصداقته وترحابه منذ أن دخلت السجن - قد أسفت على حالي كثيرا، وطالما اسودت الدنيا في وجهي يأسا وتشاؤما، فلا أكاد أسمع نصائحه الساذجة في ظاهرها، وضحكاته ذات الرنين العالي، وأغانيه الشعبية التي يرسلها من نفس زاخرة بالأحلام والآمال، حتى تتفرج نفسي من اليأس، وتبدد عني سحب التشاؤم والأسى؛ فو الله ما نفعتني في هذه الأيام العابسة الكتب وفلسفاتها المهذبة المصقولة، بقدر ما نفعتني نصائح وضحكات وأغاني هذا الصديق الجديد في السجن، بل في مدرسة الرجال والأبطال، على ما يسميه؛ وأنا ناقل لقوله فما علي من لوم، فالناس تسمي السجن مدرسة المجرمين)

قال محدثي إبراهيم:

ثم زايلت السجن وكلي أسف على حياة صاحبي القديم، التي أحسبها ضائعة بعد هذه الحال التي صار إليها؛ وهذا ما كنت أتوقعه منذ طرد من المدرسة السلطانية العثمانية. تلك مقدمة هذه نتيجتها. . . وفي نيتي أن أزوره يوم الجمعة القادم)

قلت وأنا مصغ له في غير أسف:

(ولكن عبد العزيز أبا جاسم، وهو جدير بلقبه هذا، كان شريفا من بعد؛ ورب مجرم معذور؛ فأما أنه كان فقيرا وسوف يغدو كما كان، فما في الفقر من عيب. وما ضاعت حياة من كان مثله إباء وعزة نفس. . . .)

العراق - الأعظمية

محمود. أ. السيد