مجلة الرسالة/العدد 126/عمرو بن العاص

مجلة الرسالة/العدد 126/عمرو بن العاص

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1935


4 - عمرو بن العاص

بقلم حسين مؤنس

تتمة

وانتظمت جيوش معاوية واتخذت سبيلها إلى الشام لتثأر لعثمان الشهيد. . . ولم يعد في نفس أحد منهم شك في أن عليا هو قاتل عثمان. . . وأن حربه والانتقام منه فرض واجب على المسلم الصادق الأمين، ومضى معاوية وعمرو على حصانيهما يتحدثان في الطريق وإن معاوية ليحس خطر هذا الرجل الصامت إلى جانبه. . . إنه ليعجب من هذا العقل الكبير الذي لا يقصر عن غاية ولا يعجز عن أمر. . . وإنه ليخشاه ويرى سلطانه مهددا بوجوده. . . ولكنه يحتاج إليه ولا يكاد يستغني عنه في هذه الملحمة المقبلة. . . ولم يكن عمرو ليفكر في غير ذلك! ولكنه لم يكن منصرفا إليه هذا الانصراف كله. . . فهو يعرف حاجة معاوية إليه ولا يخشى منه أمرا. . . بل هو يفكر في أمر آخر، إنه ليفكر في علي وقوته. . . ويحسب حسابها ويسأل نفسه، ترى ماذا افعل لو أنتصر عليَّ علي وهو أمر معقول جدا. . . وإن عليا لفارس العرب وسيف الله البتار؛ وإنه لصاحب الأيام البيض الخوالد والغزوات الزهر الباقيات، وأن معه لنفراً من الفرسان الصناديد الذين يخشى منهم أي خشية. . . فيهم الأشتر النخمي وفيهم من أصحاب الرأي أبن عباس، وإن في هؤلاء لغناء ومنعة من الفشل. . . فما ترى أبن العاص فاعلا والأمر خطر والبلاء شديد؟

وانتهت الجيوش إلى ضفاف الفرات، واقتربت من طلائع علي وعسكرت في موضع سهل ومنعت الماء من علي. . . وباتت قوات علي عطشى حتى عيل صبرها فحملت على الشآميين فأجلتهم عن موضع الماء. . . وبات الشآميون عطشى فندبوا من يسأل عليا الماء فأجاب!. . . وتلك كانت علة الرجل التي انتهت به إلى الهزيمة في ذلك الميدان، فكيف يثبت الطيب للخبيث، والرقيق للقاسي، والأيمان للحيلة والدهاء! وزاد الأمر بلاء أن عمرا أدرك موضع الضعف من علي، وسنراه سباقا إلى الاستفادة من إيمان علي وشهامته. . . انظر إليه قبيل صفين. . . إنه يدور بعينيه في معسكر علي ليختار الدهاة والخبثاء ويتصل بهم ويشككهم في أمرهم. . . هذا الأشعث بن قيس يتفاهم مع عمرو، وهذا أبو موسى يبدأ يشك في حق علي. . . ثم تبدأ الدعاية القوية في جيش علي نفسه فتقعد همم الناس وتفت عزماتهم. . . ويرون قتال أعداء علي تعبا لا طائل وراءه، وإن عليا ليلزم جنوده شدة لا يطيقونها، وإنه ليمنيهم بالجنة دون الغنائم والأسلاب؛ وهؤلاء جنود الشام عليهم النعمة ظاهرة والخير وافر: وذلك عدل معاوية، وكياسة عمرو! ثم انظر إلى ميدان صفين: كيف تهم طائفة من أصحاب علي فتكتسح العدو اكتساحا وتكاد تأتي على معاوية، وكيف تتقاعس طائفة أخرى تكاد تفر من الميدان، وكيف يلقى علي مقاومة من أنصاره ومعارضة من قواده. لقد تغيروا. لقد داخل نفوسهم الشك في عدالة قضيته؛ وإنهم ليرون ظل عثمان ملقى على خلافة على ثقيلا رهيبا. بلى وهذا الأشعث يقعد عن المضي، وهذا الأشتر يمضي، حتى تكاد الهزيمة تحيق بمعاوية. ويشتد الأمر بجند الشام وينظر عمرو حواليه، فإذا الأمر مقضي، وإذا الهزيمة قاضية، فينحى على معاوية ويلومه لوما شديدا. لقد بدا له أنه (خسر الصفقة) وأن السوق قد أتت بغير ما كان يقدر. إنه لثائر مغضب يلوم معاوية، فيشتد في لومه، وإنه ليعتبره مسئولا عن الخسارة التي حاقت به، وإنه ليصارحه برأيه وبمكنون سره ويقول له: (يا معاوية: أحرقت قلبي بغصصك؛ ما أرى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنا بذنك).

وإنه ليندم على ما أتى من انضمامه، وقد نسي قدر علي وقوة جنوده؛ ولآن اتضح له الحق فهو يلوم ويندم، ولكن ماذا يجدي، , عن الخطر ليقترب، وإن جنود علي لتكاد تمس جفاء معاوية؛ وإنه ليركب حصانه، ويهيب بعمرو: (الله. . . الله. . . في الحرمات والنساء والبنات: هلم مخبآتك يا أبن العاص فقد هلكنا)، ولكن كيف يسرع أبن العاص إلى مخبآته، ويطوي خيامه ويلوي هاربا، وما بعد؟. . . إنه لينظر بعيدا، وإنه ليرى عليا متعقبا إياهم حتى يقبض عليهم في عقر دارهم. . . كان هذا أمرا يخيف أبن العاص. . . فانظر كيف يستغيث وكيف يحتمي بكتاب الله. . . لقد عرف أن في بعض رجال علي ميلا إلى المهادنة وترك القتال. فرأى الاستفادة منهم. . . ثم أخذ يسأل نفسه قائلا: ترى أي شيء يجله هؤلاء القوم في هذه اللحظة التي تنكروا فيها لكل شيء؛ فتجيبه نفسه: كتاب الله. . . فيجيبها: فلنعتصم منهم بكتاب الله، ولنرفع المصاحف على الرماح؛ فيجب نفسه. . . بلى. . . هو الرأي الصواب. فترفع المصاحف على الأسنة ويراها أصحاب علي، وكأنما كانوا يترقبون فرصة يكفون فيها عن القتال فيرون في هذه حجة كافية، ويكفون ويحتجون بكتاب الله، ويدور علي بعينه في معسكر عدوه ليرى مطلع هذه البدعة فيجد انه عمرو. وهنا ينكشف لعينه سرها. . إنها خدعة. . إنها حياة، ولكن قومه لا يسمعون. وهاهي صفين تنفض، والأشتر يؤمر بالرجوع، وينجو معاوية، ويحول أبن العاص المعركة من حرب السيوف لحرب الفكر واللسان لكي يشل قوة علي، ولكي يكون هو في ميدانه الصالح له. ثم انظر إليه يتدخل حتى في اختيار علي لمندوبه. . . إنه ليتصل بالخونة من أنصار علي ويوعز إليهم فيرفضون عبد الله بن عباس لأنه فتى ذكي مخلص لقضية علي. ثم يرفضون الأشتر لأنه متفان في خدمة أبن أبي طالب، ولكنهم يؤيدون الأشعري لأن عمرا يعرف أن بينه وبين علي شيئا، وأن التفاهم قد يجدي معه كثيرا، وينفض الجمع ليلتقي في دومة الجندل

ترى فيما يفكر أبن العاص في هذه الفترة. . . في مصر وأمورها. . . لأنها ستعود إليه بعد قليل. . إنه يكيد لواليها الجديد قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فيشيع في حزب علي أن قيس قد أنضم لحزب معاوية، فيعزله علي ويضع مكانه الأشتر النخمي فيموت الأشتر مسموما عند (مسروره) بالقلزم في 5 رجب 37. . . أترى لعمرو يد في ذلك؟

ثم يكون التحكيم الذي لم يرو التاريخ مثله أبدا، والذي لم يوفق مؤرخ في روايته على أصله أبدا، والذي يرفض العقل أن يقبله في صورته التي وصلت إلينا. . . ولكننا نستطيع أن نفهم منه كيف كان الناس ينظرون إلى عمرو! وكيف اعتبرته الأجيال اشد الناس لؤما وأكثرهم خبثا. . . لقد وفق عمرو توفيقا عظيما. . . ولم يكن توفيقه راجعا إلى مهارته في الكيد وحدها، بل إلى وجود الضعاف والخونة في صفوف خصمه وحسن استفادته من هؤلاء. . . هذا هو يتدخل في انتخاب مندوب علي ويرضى أخيرا عن أبن موسى الأشعري لا لأنه أبله أو شيخ كما يزعم الرواة، بل لأنه غير راض الرضى كله عن علي. . . ولأنه قابل للفتنة مستعد للمساومة؛ وهذا عمرو يخلو به ساعات طوالا يتحدث إليه في الأمر: ويتفنن في إقناعه. . . وينفذ إليه من شتى السبل حتى يوفق إلى تشكيك الرجل في عدالة قضية علي، بل إلى اتهامه بمقتل عثمان. . . فإذا خلص من هذا فقد أفهمه أن لعثمان أولياء يطلبون ثأره من القاتلين. . . وأن الأولياء هم معاوية وعامة آل أمية. . . فإذا خلص إلى هذا فقد أقنع خصمه بعدالة ثورة معاوية. . . ثم يسأله: فماذا يا ترى؟. . فيصمت الشيخ فيقول عمرو: أننا نرضى بتنازل علي ثمنا لدم عثمان؛ فلا يرى أبو موسى حرجا في ذلك. . . ويطرب لذلك عمرو، فقد خسر منافسه الخلافة ولم يخسر هو شيئا. . . وهو إنما يرجو أن يخلع الخلافة عن علي ليصير هو ومعاوية صنوين. . . ثم إنه يعرف أن أنصار علي ملتفون حوله لأنه خليفة، فإذا زالت عنه هذه الخلافة تفرقوا. . . وقد أفلح. . . بل أن أنصار علي ليتفرقون قبل خلعه في التحكيم. . . ويصبح معسكره فوضى. . . وينفض الخوارج ويتفرقون ويحاربهم في النهروان. . . كل هذا يرضي عمرا لآن فيه أضعافاً للخصم، فإذا تم الأمر ونزعت الخلافة لم يصبح لعلي بعد ذلك شيء ويذهب أمره هباء

ثم يعلن الحكمان ما وصلا إليه: لقد رأينا خلع علي. . . لقد ثارت الفتنة واضطرب الأمر وأسقط في يد علي وأنصاره. . . وقد كسب عمرو كل شيء وأصبح علي عاجزا عن استنهاض همم جنوده لحرب معاوية. . . وقد قوى أنصار هذا الأخير فخافهم الناس واتحد جند معاوية وقوى أمرهم واشتد ساعده بهم، واستطاع أن يفصل عن علي بلاده جزءا جزءا حتى إذا قتل سنة 40هـ لم يكن قد بقي في يده من الأمر شيء

هكذا فعل عمرو: فرق الصفوف وأشاع الفتنة وأقام هذه الفوضى التي لم يخلص الإسلام منها إلى أواخر أيامه. . . لكي يصل إلى شيء واحد. . مصر. . لقد باع الحق وارتهن الفضيلة، وساوم على طمأنينة الدولة الإسلامية ليكسب شيئا واحدا، هو مصر بخيرها وبركاتها

وانظر إليه لقد أسرع إلى مصر ستة آلاف مقاتل، يقطع بهم سيناء على عجل سنة 38هـ، فإذا أشرف عليها فقد أرسل يهدد محمد بن أبي بكر الصديق ليخلي بينه وبين ما يريد. ولكن محمدا رفض، ولم يدر أن غريمه قد باع الدنيا والآخرة بهذا الذي يعارضه فيه؛ والتقى الجمعان، وفر محمد وتبعه معاوية بن حديج وقتله في المنشأة

ثم انظر صراعه مع معاوية على مصر. إن الأول ليستكثر عليه هذا البلد الغني الطيب، وإنه ليراه غير أهل لتلك النعمة الوارفة. فإنه لجالس ذات يوم في نفر من صحبه وفيهم عمرو فيقول:

- ما أعجب الأشياء؟ فيجيب يزيد أبنه:

- أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض. . . وقال آخر: - حظ يناله جاهل، وحرمان يناله عاقل. وقال عمرو:

أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق. فيسرع معاوية ويقول:

- بل أعجب الأشياء أن يعطى الإنسان ما لا يستحق إذا كان لا يخاف

بلى فهو أعجب الأشياء. . . وهل يستحق عمرو مصر وهولا يخاف (الله)

ذلك رأي معاوية في عمرو. . . ثم انظر إلى معاوية يحترس من عمرو في كتاب توليته فيكتب: (على ألا ينقض شرط طاعة. . .) فيمسك عمرو بالقلم ويبدلها: (على ألا تنقض طاعة شرطا)

وعاش عمرو بعد ذلك ما شاء الله له أن يعيش، وأنجاه الله من يد قاتله لكي ينعم قليلا بالشجرة الخضراء التي خسر في سبيلها كل شيء. وتردد بين الشام كثيرا، ليجلس إلى معاوية. . ثم ليخلو إلى أولاده، وكانت مصر قد صارت له طعمة، فاطمأن باله وترك الكفاح والجلاد، ولكنه لم ينس الكسب والخسارة إلى آخر أيامه؛ فإنه لجالس مع معاوية يوما إذ سأله هذا ما بقي منك يا عمرو؟ فيجيب. مال أغرسه فأصيب من ثمرته وغلته. . .)

أجل لازال في سن السبعين يفكر في غرس المال والإصابة من ثمرته وغلته؛ وهكذا ينبغي أن يفهمه الناس، فأن اجتهاده في السياسة ونبوغه في الحرب كان مصدرهما شيئا واحدا: الرغبة في الكسب والربح. . وقد انتهت جهوده إلى شيء واحد، لا هو الملك ولا هو الثواب. . بل ليست هي الآخرة نفسها وإنما هي مصر. . أغنى ولايات الدولة وأوفرها مالا. وقد مات وخلف ألف ألف درهم كما يقول المسعودي ودورا عديدة كان يمتلكها في مصر والشام.

(تم البحث)

حسين مؤنس