مجلة الرسالة/العدد 126/في الجمال. . .

مجلة الرسالة/العدد 126/في الجمال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1935


- 3 -

إذا عرفت الجوهر الذي يتحقق به الجمال الطبيعي سهل عليك أن تعرف الجوهر الذي يقوم عليه الجمال الصناعي، لأنه إما وحيه وإما نموذجه. فالجمال الصناعي يتعلق بالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفنان ثم عن الفن نفسه إذا كان ابتكارياً، وبالفكرة التي يوحيها إليك الفن عن الفن نفسه وعن الفنان ثم عن الطبيعة إذا كان تقليديا. ولننظر بادئ الأمر فيم تنشأ منه عاطفة الجمال في الفن الابتكاري كالريازة مثلا. ففي أي بنية من البنايا تجد الوحدة، والتنوع، والترتيب، والتناظر، والتناسب، والتوافق، تؤلف منها كلاًّ منتظما ما في ذلك شك؛ ولكنك لا تجد في ذلك الكل جمالا إذا لم يكن من العظمة أو الوفرة أو الذكاء على درجة تثير في نفسك الإعجاب والدهش. وهل تجد في العمارة البسيطة مهما اتسق بناؤها واتفقت أجزاؤها ما تجد في معابد الفراعين من الجمال والجلال والروعة؟ خذ بنظرك قصراً من قصور القاهرة الحديثة شيد على قدر عادي من العناصر الجمالية الثلاثة، ثم أطل الوقوف أمامه ما شئت، تجد الفن فيه نازلا على حكم القواعد الموضوعة، ولكنه عيي صامت لا يحدثك لا عن نفسه ولا عن صانعه؛ ثم قف تلك الوقفة أمام معبد الكرنك أو هيكل الأقصر أو هرم الجيزة، تجد نفسك المسبوهة المشدوهة موزعة بين سمو الفن في ذاته، وعظمة الفنان في حقيقته. لا جرم أن هذه الأبنية الضخمة الفخمة أقل تناسقاً وتوافقاً من تلك، ولكن القوة التي أقامت هذه الأعمدة، ورفعت تلك الصخور، ونصبت هذه التماثيل، وصنعت تلك المحاريب؛ والوفرة التي تراها في الشكول المختلفة، والصور الناطقة، والرسوم الدقيقة، والكتابة الرمزية، والأصباغ الحية، والمادة العجيبة؛ والذكاء الذي يروعك في ابتكار الوسائل الميكانيكية لنقل هذه الأجرام الهائلة من مناحتها في الجبل، إلى مثابتها في الجو، لتصارع الفناء الذي لا يفتر، وتضارع الدهر الذي لا يبيد؛ هي التي حققت فيها ذلك الجمال، وألقت عليها هذه الروعة، وربطت في ذهنك بين فكرتك عن الصنيع وفكرتك عن الصانع. ولو كانت نسبة الذكاء فيها على مقدار نسبة القوة، لبلغت ما لم تبلغه نواطح السحاب الأمريكية من الغاية التي ينقطع دونها الدرك!

على أن الجمال الطبيعي قد يقوم في بعض مظاهره على القوة والوفرة دون الذكاء، ك ترى في العواصف والبراكين، ولكن الذكاء إذا أعوز في الفن ذهبت عاطفة الجمال فيه بددا بين التنافر والغرابة، إذ الطبيعة مجهولة الأسرار محجوبة المقاصد؛ وقد استراحت عقولنا منذ النشأة إلى أن تلتمس لجهالتها العلل، وتفترض لسفاهتها الحكمة؛ وليس كذلك الفنان، فأنه مسئول أمام العقل عن العلة التي أجهد من أجلها قوته، والغاية التي بدد في سبيلها ثروته. وحسبه من الذكاء ما ينفي عنه العبث؛ فإذا تيسرت له عظمة القوة في ظاهر من النظام، كفاه ذلك في إنشاء الإعجاب واتقاء النقد، لأن القوة والوفرة هما المصدران الأولان لنشأة الجمال في الفن

على أن فكرة القوة تختلف اختلافا شديدا عن فكرة الجهد؛ فكلما قلت الدلائل على هذه، كثرت الدلائل على تلك. فالخفة والظرافة والأناقة والسراح من صفات الجمال، لأنها تظهر من القوة أكثر مما تظهر من الجهد؛ ولكن إنشاء مقامة من الحروف المعجمة أو الحروف المهملة كما صنع الحريري، أو كتابة سورة من القرآن على حبة من الرز كما يصنع الخطاط السوري، عمل لا يحدث في النفس شعور الجمال، لأنه يدل على الجهد أكثر مما يدل على القوة، ويدعو إلى الرثاء أكثر مما يدعو إلى الدهش. وفي التفصيل المحكم من كلام الله، وفي السهل الممتنع من كلام الناس، كل الفروق بين القوة والجهد

كذلك لا يستعمم الفرق بين الوفرة الصناع وبين الزخرف الأخرق؛ فإن سر الإبداع في الوفرة أنها تضع اللون في مظهره، والحسن في جوهره، والمعنى في لفظه، والشيء في مكانه؛ أما الزخرف الأخرق فترف لا ينبئ عن غنى، ورهق لا يسفر عن قدرة، ولجب لا يبلغك من ورائه نغم! هو كل ما يملك الصانع من ثروة نثرها أمام عينيك في غير لباقة ولا تحفظ، ليخفي بالرياء حقيقة العجز، ويدفع بالزور تهمة العوز

إن ما قلته في الريازة ينطبق على الخطابة والموسيقى وسائر الفنون الابتكارية التي تفصح عن قوى كبيرة ووسائل وفيرة. فالخطيب الذي يبلبل الآراء بقوة كلامه، ويسترقّ الأهواء بسحر بيانه، ويملك على الشعب نوازع القلوب فيرسله على رأيه، ويصرفه على إرادته، قد أوتي من القوة في الفن والعبقرية ما يحمل النفوس على الإعجاب بقدرته والانقياد لأمره. كذلك الموسيقي الذي يصبي المشاعر بسحر أنغامه، والشاعر الذي يسبي العقول بقوة أسلوبه وسمو إلهامه، كلاهما يعلن الجمال في قوة الفن التي يفرضها، ووفرة الوسائل التي يعرضها، وذكاء الروح الذي يفيض على عمله النظام والانسجام والمناسبة. والقوة والوفرة هما كذلك روح هذا الجمال وسره؛ فإذا كان الانفعال الذي ينشئه الصوت أو القصيدة لطيفا يحدث اللذة، ولكنه ضعيف لا يحدث الطرب، مدحت قريحة الفنان وأطريت عذوبته الفن، ولكن الإطراء شيء آخر غير هتاف الإعجاب يبعثه سمو العبقرية وقوة الإلهام في روائع الموسيقى وبدائع الشعر