مجلة الرسالة/العدد 127/أحلام وذكريات

مجلة الرسالة/العدد 127/أحلام وذكريات

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1935



للآنسة فردوس مصطفى

من مشكاة الطفولة اللاهية الغافلة كان قلبي الخلي يطل على قوافل الحياة فيراها ويحس بها غير ما يراها ويحس بها الآن، وكان إحساسه بها حينذاك إحساساً قوي الفطرة جامح الغفلة يبهره من قافلة الحياة تناسقها ومظاهرها غير مدرك سرها وجوهرها. وكان يرقبها طوال الأعوام الثلاثة عشر، حتى إذا ما تحول إحساسه بها إلى بعض إدراكه لها نشأ عن هذا الإدراك الحسي شعور جديد دفع به إلى السير مع القافلة، فاندمج فيها ولم يعد يراها، ولكنه بدأ يعرف سرها ويدرك مداها. وعندما أذكر أحلام الأعوام الثلاثة عشر، وقد كانت كلها أحلاماً، أشعر بالماضي يجذبني نحوه وبالحنين يعاودني إليه؛ فأحلام الصغار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بسبائك من الذهب، ولأحلام الكبار وأمانيهم أسباب تصل ما بينهم وبين الحياة بحبائل من النصب، ويا شد ما يهفو القلب إلى القفزات المرحة في رحبة المدرسة، وإلى تلك الدمى المتراصة في الدار من مختلف اللعب، وإلى فساتين الأعياد الزاهية الألوان؛ كل ذلك له أثر في القلب، لأنه بدء علوقه وأول صباباته. فلما شب عن طوقه وبارح مشكاته أصبحت له صبابات غير تلك الصبابات، وأماني وأحلام غير تلك الأماني والأحلام، بذل فيها من دمه ونعيمه الشيء الكثير، فثار على الحياة يثأر لدمه الغالي ونعيمه الذاهب؛ وللقلب حين يثور فلسفة يحتار في غاياتها العقل؛ وللقلب حين يثور أفانين يقصر عن إدراكها الفكر، ولكنها فلسفات وأفانين هي أقرب إلى السماء منها إلى الأرض؛ تدمجه في الروح الخالص فلا يشعر بما على الأرض من مادة طاغية، ولا يحس من بهرج الحياة وظاهرها بسعادة خاوية. فهناؤه فوق المادة، ونعيمه موصول بالسماء، وبين الفينة والفينة يعاوده الحنين إلى ذكريات الطفولة وأحلامها، وإلى المشكاة وأيامها، فيخيل إليه أنه يستطيع أن يطل على الحياة كما كان يطل، وأن يرقب القافلة كما كان يرقب، ولكن هيهات!

فردوس مصطفى

عجز التجارب للأستاذ عبد الرحمن شكري

ما زاد مَرُّ حياتي غير أشجاني ... فَزَوَّدَتْنيَ رجحاناً كنقصان

يا دهر لا تُنْسِني في ضيق عادية ... محاسن العيش من صبر وغفران

وقَوِّنِي بتجاريب أزاولها ... فإنها لم تزدني غير عرفان

وكيف يُلْهِمُ خُبْرٌ صَبْرَ مصطبر ... يَمْرِي له الخُبْرُ عرفاناً بإيهان

يزيده العمر من وَهْيٍ ومن كِبَرٍ ... ما زاده العمر من خُبْرٍ بِحِدْثَانِ

فكيف ينفع تجريبٌ ومانحه ... يوهي جلادة أعصاب وجثمان

بعض التجارب يُنْسِي بعضها زمناً ... إذا تعاور لبَّ المرء ضدان

فإن تيقَّظ في تجريب طارقةٍ ... فإنما هو يقظانٌ. كوسنان

ضرورة العيش أن ينسى ليذكر ما ... يغدو يعالج من أمرٍ له ثان

فالمرء ما عاش من حال لثانية ... مَنَقَّلٌ بين نسيانٍ ونسيان

فإنْ تذكَّرَ أمراً واحداً أبداً ... قضى الحياة غريراً جد غفلان

وإن تناسى فلا نَفْعٌ لخبرته ... وكيف يُجْديهِ مَنْسِيٌ بغنيان

فإن تذكر منسياً تبادهه ... منه فجاءة ما يقضي الجديدان

كأنه مُستَجَدٌّ لم يُلِمّ به ... ولم يُحوَّلْ إلى طبع ودَيْدان

ورب طبع بلا خُبْرٍ وتجربةٍ ... أسخى على المرء من خبر وعرفان

ذُخْرُ التجارب ذخرٌ لا رواج له ... ولم يُخَصّ بأرباح وأثمان

ذخر الأقاصيص مسحوراً ومُخْتَزَناً ... فليس للعين منه غير ريعان

إلاَّ تجارب علمٍ يُستَجَدُّ بها ... ما يملأ العيش من حسن وإحسان

لولا انتفاعك من عادٍ مُفَضَّلَةٍ ... قد تجتبيها مع التجريب في آن

لما خُدِعْتَ بأشباهٍ إذا اختلطت ... فعادةُ المرء والتجريبُ أمران

والخُبْرُ ليس بنافٍ عادةً شنأت ... ولا يُداوَى به من وهي أبدان

يزيدك الخُبْرُ علماً بالحياة وما ... تُغْرِي به الناس من شرٍّ وطغيان

حتى تسير على مجرى سجيتهم ... فلا يزيدك فيها غير إمعان فإن أبيت سجايا الناس من شمم ... قضيت عيشك في هم وأحزان

إلاَّ إذا ما لبست الدهْرَ عافيةً ... فهيأت لك من صبر وغفران

عبد الرحمن شكري