مجلة الرسالة/العدد 127/في الجمال. . .

مجلة الرسالة/العدد 127/في الجمال. . .

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 12 - 1935


- 4 -

ذلك إجمال القول في الفن الصناعي المرتجَل؛ أما الصناعي المنقول فالسر فيه أن يبعث في ذهنك فكرتين: عن الطبيعة المقلَّدة، وفكرة عن الفنان المقلِّد. فتماثيل فِدْ وصور رفائيل، تجمع بين الجمالين: جمال المثال في أصله، الفن في تقليده. وكذلك في وصف مغرب الشمس لابن نجد الإعجاب الناشئ عن القوة والوفرة والذكاء موزعاً الصورة الناطقة التي أبدعتها الطبيعة، وبين المحاكاة الصورية التي أخرجتها القريحة.

إن روعة الجمال الطبيعي آتية من ناحية الحرية في الطبيعة وحرية الطبيعة هي قانونها العام، لا تقوم عظمتها إلا به، ولا فخامتها إلا فيه؛ فالغيضة اللّفّاء أجل مظهراً في النفس من الحياة المنمنمة، وشلالات النيل أجمل منظراً في العين من النوافير المنضمة لأن الجمال المطلق يملأ خيالك بالتأمل الحالم، وذهنك بالتفكير الرفيع، وشعورك بالطرب الباسط؛ ومظنة العبودية في الجمال أو في الجماد تضيف إليه معنى من الحقارة والقبح يحطه ويشوهه. ولكن الجمال الصناعي لا بدَ أن يتقيد بالقواعد ويتحدد بالأصول؛ فإذا لم يكن الفنان من البراعة بحيث يخفي تلك القيود، ويحجب هذه الحدود، ويظهر السمة الدالة على الطبع المرسل والإلهام الحر، همدت في فنه الحياة، وخبا في جماله السحر، وضاقت في عمله الفكرة.

ليس الجمال في الفن المعنوي أو الحسي أن تحاكي الطبيعة محاكاة الصدى، وتمثلها تمثيل المرآة، وتنقلها نقل الآلة؛ تلك هي التبعية التي تنفي الذكاء، والعبودية التي تسلب القوة؛ إنما عظمة الفن أن يفوق الطبيعة؛ وإنما براعة الفنان أن يزيد في ترتيب صورها بالذكاء، وفي تنويع تفاصيلها بالوفرة، وفي توجيه مقاصدها بالعظمة، وفي بيان تعبيرها بالحياة، وفي سلطان تأثيرها بالقوة، وفي حقيقة وقائعها بالسحر الموهم والوشي الخادع.

انظر إلى تعاجيب الطبيعة وتهاويل الفلك، من العواصف والصواعق والبراكين، تجدها في ذاتها جليلة رائعة، ولكنك تجدها في فن الشعراء والمصورين والمثَّالين أجل وأروع. لقد فيها شهوات النفوس، وسلطوا عليها تصادم الأهواء، وصوروها للأذهان في عالم من الآلهة الكَمَلَةِ في قواها المختلفة، تتنافس في العجائب، وتتصارع بالأهوال، وتتفانى على اللذة وسحر الفن الإغريقي في صمته وفي نطقه قائم على تجميل الظواهر المروعة في الطبيعة، بالنوازع المتضاربة في النفس.

ومن المعلوم في بدائه العقل أن يكون ما يقلده الفنان في الطبيعة حقيقاً بالتقليد، حتى يمكن الجمع بين جمال الشيء في أصله، وبين جماله في نقله؛ فالمصور الذي يرسم وضعاً من أوضاع الرأس، أو معنى من معاني الوجه، أو لوناً من ألوان الحياة، يكون أسمى في الفن من المصور الذي يتحامل على براعته حتى يصور أرنباً تكاد من دقة التقليد أن تلحظ وثبته وتعد وبره. والشاعر الذي يصف عاطفة من عواطف القلب، أو ظاهرة من ظواهر الكون، يكون أبلغ في فنه من الشاعر الذي يجهد قريحته في وصف حادثة من هَنَوات الحوادث لا تقوم في ذاتها على فائدة ولا لذة.

قد يكون الشيء المنقول في حقيقته قبيحاً، ولكن صدق التعبير عنه، ودقة التصوير فيه، والتماس المنفعة منه، تجعل تقليده جميلاً، كالوجه الشتيم يرسمه المصور المبدع بريشته، والخلق الذميم يصوره الشاعر المفلق بقلمه؛ والملهاة المسرحية موضوعها رذائل الناس ونقائص المجتمع، ولكنها ارتفعت إلى أوج الفن الجميل بتحليلها العميق، وتصويرها الدقيق، وغايتها النبيلة. كذلك الحوادث المؤلمة والمناظر المحزنة والمواقف المؤثرة ليس فيها من الجمال شئ. ولكن استبطان الفنان لدخيلة البائس، وتصويره الفاجعة ماثلة مثول الواقع، وإعانته الحقيقة على التأثير بالجمل النفاذة، والصور الأخاذة، والظلال الرهيبة، يجعل تقليدها من أجمل الأشياء، ويضع المأساة من الفن موضع الواسطة من العقد.

فأنت ترى أن التقليد لا يثير الإعجاب في نفسك، ولا يُشيع اللذة في شعورك، إلا باعتماده على الفن؛ والفن لا يتحقق جماله إلا بالعظمة في عمله، والسعة في وسائله، والحكمة في غايته؛ فإذا قلدت أصوات الطبيعة من غير تأليف ولا تنسيق ولا معنى، وأقمت شلالاً من الماء والحجر تضارع به شلال أسوان، وسردت بالكلام الموزون حادثة عادية من حوادث اليوم، أخطأك الفن وانزوى عنك الجمال؛ لأنك صغرت الطبيعة، وحقرت الواقع، وتعلقت بالتافه، واستعنت بالمادة، من غير قوة ولا ثروة ولا علة. ولو أنك رحت تستقري مفاتن الجمال في الطبيعة، أو في الفن، أو في الأثر الذي ينشأ من ائتلاف الطبيعة والفن، لما وجدتها في غير ما يعلن القوة والوفرة والذكاء مجتمعة أو متفرقة.

ولعلك واجد ما يدعم هذه الفكرة عن الجمال في قول (شيشرون): (إن الطبيعة أبدعت الأشياء على صورة تجعل ما يكون منها جَمَّ المنفعة يكون كذلك جليل المكانة موفور الجمال.

إن جلالة هذا المعبد نتيجة لازمة لمنفعته؛ فلو أنك تخيلت (الكابتول) قائماً في السماء على هام السحب، لما وجدت له جلالاً في نفسك ما لم يكن قيامه هناك علة لسقوط المطر).

وهل المنفعة التي أرادها شيشرون في صنع الطبيعة وفي نتاج الفن إلا الذكاء الذي أردناه في الجمال وقصدنا به حكمة الغرض وانتظام الخطة؟

أحمد حسن الزيات