مجلة الرسالة/العدد 128/حوادث الشرق الأقصى

مجلة الرسالة/العدد 128/حوادث الشرق الأقصى

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1935



مشروع اليابان في الاستيلاء على الصين

بقلم باحث دبلوماسي كبير

بينما تشتغل أوربا والعالم بأسره بتطورات المشكلة الإيطالية الحبشية وما يترتب على تفاقمها من أخطار داهمه على سلام أوربا وسلام العالم، إذا بالشرق الأقصى يجيش بحوادث خطيرة قد يكون لها أكبر الأثر في مصير الصين والشرق الأقصى كله، ولكن يحجب عنا خطورتها، نأيهاً وغموضها وانحصارها في ذلك الركن من العالم؛ وهي ليست في جوهرها جديدة أو مستقلة، ولكنها حلقة جديدة في ثبت الحوادث التي يضطرم بها الشرق الأقصى منذ أربعة أعوام، والتي تضرمها وتذكيها السياسة اليابانية كلما آنست فرصة صالحة للعمل

وليس من الصعب أن نتلمس في حوادث الصين الجديدة رغم غموضها، وجه الصلة بينها وبين الحوادث المماثلة التي تقع في الصين بين آونة وأخرى، فالسياسة اليابانية هي التي تنظمها وتوجهها بأساليب متماثلة، وتتذرع لاضرامها بنفس المعاذير: اعتداء على المصالح اليابانية في ناحية من النواحي، أو مقتل أحد الرعايا اليابانيين، أو اضطراب الأمن وعيث العصابات، أو دسائس الشيوعية؛ كذلك ليس من الصعب أن نتحرى العوامل والبواعث الدفينة التي تحمل هذا الغزو الياباني المنظم إلى داخل الصين بين آونة وأخرى تارة بالقوة العنيفة، وتارة بالوسائل السياسية، فاليابان تكاد تفصح عن نياتها ومقاصدها الاستعمارية البعيدة في كل مناسبة، وإن كانت ما تزال تستتر وراء بعض المظاهر والعبارات الخلابة التي يمهر الاستعمار في صوغها

وقد بدأت اليابان منذ بضعة أسابيع في القيام بمحاولة جديدة لبسط نفوذها على مناطق جديدة من الصين؛ ومهد قادة الجيش الياباني في شمال الصين لذلك بمؤتمر عقدوه في دايرين ثغر منشوريا الجنوبي، ووجهوا على أثره بلاغاً نهائياً إلى الحكومة الصينية الوطنية (حكومة نانكين) ضمنوه المطالب الآتية:

1. قمع الدعوة الشيوعية في الصين، وهي دعوة مهدها ومصدرها منغوليا

2. قمع أعمال (الكومن تانج) (الحزب الوطني الصيني) وأعمال الجمعية الوطنية الصينية المسماة بجمعية (ذوي الأقمصة الزرقاء) في شمال الصين

3. تعهد الحكومة الصينية بأن تتبع منذ الآن سياسة ودية نحو اليابان

وبينما كانت حكومة نانكين تدرس ذلك البلاغ، إذ وقعت عدة حوادث في منطقة الحياد الشمالية في شمال بكين اقتضت تدخل السلطات اليابانية، وقامت ثورات محلية صغيرة في عدة مناطق طولب خلالها بتخفيض الضرائب والاستقلال عن حكومة نانكين؛ ولم يكن أصبع العسكرية اليابانية بعيداً عن هذه الحوادث

ولم تلبث السياسة اليابانية أن أفصحت عن غرضها الحقيقي من القيام بهذه الحركة؛ فقد أبلغت السلطات المحلية في ولايات الصين الشمالية، وأبلغت حكومة نانكين بوجوب إنشاء حكومة إدارية مستقلة في ولايات خمس هي: هوبي، وتشاهار، وشانصي، وسويان، وشانتونج، وتكون عاصمتها بكين، العاصمة الإمبراطورية السابقة؛ وقصد اليابان منذ ذلك أن تقيم دولة متوسطة بين أملاكها الصينية في الشمال أعني منشوكيو وجيهول، وبين وادي النهر الأصفر حيث يبدأ نفوذ حكومة نانكين الحقيقي

وقد أفرغت اليابان مطلبها في صيغة بلاغ نهائي، وأنذرت الحكومة الوطنية الصينية بأنها ستتخذ الإجراءات العسكرية اللازمة إذا لم تحقق رغبتها؛ ولكن حكومة نانكين لم تذعن لهذا الوعيد، وكذلك لم يذعن زعماء الشمال، ولم تنفذ اليابان وعيدها في الحال، ولكنها آثرت أن تعمد مؤقتاً إلى العمل السياسي؛

وفي الأنباء الأخيرة أن الضغط الياباني قد أحدث أثره الأول وذلك بحمل حكومة نانكين على الموافقة على إنشاء إدارة مستقلة في مقاطعتي تشاهار وهوبي يكون مركزها في بكين، ويتولى إدارتها مجلس مؤلف من زعماء الشمال، ويكون لها طابع الاستقلال التام في شئونها الداخلية وعلائقها الخارجية، ما عدا الجمارك والبريد فتحتفظ حكومة نانكين بإيرادها؛ ومعنى ذلك أن اليابان قد فازت بتحقيق الخطوة الأولى في مشروعها لفصل الشمال عن الجنوب ووضعه تحت نفوذها السياسي والاقتصادي

ونظرة بسيطة إلى خريطة الصين توضح لنا فداحة هذا المشروع الياباني، فالولايات الخمس التي يراد فصلها عن الحكومة الوطنية من أهم وأغنى الأقاليم الصينية؛ وفصلها على هذا النحو يشطر الصين إلى شطرين، ويمهد إلى بسط النفوذ الياباني على الأقاليم الشمالية حتى النهر الأصفر (الينج تسي)؛ وتتظاهر السياسة اليابانية بأنها في هذه المحاولة إنما تعبر عن رغبات سكان هذه الأقاليم، والواقع أنها تعتمد في ذلك على مؤازرة الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وخصم الحكومة الوطنية، وتعتمد من جهة أخرى على محالفة حكومة (كوانتونج) الجنوبية (حكومة كنتون) وهي أيضاً خصيمة الحكومة الوطنية؛ فالحكومة الوطنية أو حكومة نانكين تجد نفسها بين نارين في هذا الصراع الذي يوشك أن يقوض دعائمها

ويجب أن نذكر إلى جانب أن اليابان قد استولت قبل ذلك بأربعة أعوام على إقليم منشوريا الغني، ولم تعبأ بتدخل عصبة الأمم وقراراتها النظرية؛ وأنشأت فيه جمهورية صورية تحت الحماية اليابانية (منشوكيو)؛ ولبثت بعد ذلك تتحين الفرص للزحف جنوباً متذرعة بمختلف الحجج والأعذار حتى اقتحمت قواتها (السور الكبير) واستولت على قسم كبير من إقليم جيهول، وبسطت نفوذها على جميع الأراضي الواقعة شمال بكين؛ وليست الحركة الانفصالية الجديدة التي تدبرها السياسة اليابانية إلا حركة غزو جديدة، تستأنف بها اليابان نشاطها في سبيل تنفيذ مشروعها الاستعماري الضخم الذي تتحين الفرص لتحقيقه كلما شغلت الدول الغربية بأزماتها الخطيرة

والظاهر أن السياسة اليابانية كانت تعبر عن نيتها ومشاريعها المستقبلية تعبيراً صادقاً حينما ألقت إنذارها الشهير منذ نحو عام ونصف إلى أوربا وأمريكا وهو: (ارفعوا أيديكم عن الصين) أو بعبارة أخرى حينما صرحت بأنها تجري في سياستها الصينية على مبدأ (آسيا للأسيويين) مثلما تجري أمريكا في سياستها على مبدأ (مونرو) الشهير أو على مبدأ (أمريكا للأمريكيين)، وقد كانت اليابان ترقب دائماً مشاريع الدول الغربية وتوغل نفوذها في الصين بمنتهى الاهتمام والتوجس؛ وتعمل على مقاومة نفوذها وامتيازها بالوسائل الاقتصادية والعسكرية ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولكنها جرت في الأعوام الأخيرة على سياسة عملية يؤيدها التدخل العسكري، وكان استيلاؤها على منشوريا تحت سمع أوربا وأمريكا ورغم تدخل عصبة الأمم تجربة عملية ناجحة عجمت بها عود الدول الكبرى ذات المصالح في الصين مثل بريطانيا العظمى وروسيا وفرنسا وأمريكا، واستطاعت أن تقف على مدى المقاومة التي يمكن أن تتذرع بها الدول لمعارضتها؛ بيد أن الدول عدا روسيا لم تبد معارضة نظرية، ومع أن روسيا وأمريكا قدمتا على غزو اليابان للأراضي الصينية احتجاجات شديدة، فان اليابان لم تحفل بأي احتجاج أو معارضة؛ ولما توسعت اليابان في مشروعها وغزت ثغر شنغهاي لترغم الصين على الاعتراف بالحالة الواقعة في منشوريا، احتجت الدول الغربية بنصوص معاهدة الدول التسع (معاهدة سنة 1922) التي تنص على احترام سيادة الصين ووحدتها الإقليمية والإدارية، ولكن اليابان لم تنسحب من شنغهاي إلا أمام المقاومة العنيفة التي استطاعت أن تنظمها حكومة نانكين

والآن تمضي اليابان في تنفيذ مشروعها لاحتلال الصين واستعمارها مرحلة أخرى. وهي تعمل في ظروف صالحة جداً؛ فالدول الغربية وأمريكا مشغولة بالأزمة الدولية الخطيرة التي أثارتها المشكلة الحبشية، والصين في حال من التفرق والتمزق لا تمكنها من أية مقاومة عملية، فحكومة الجنوب أو حكومة كوانتونج (وعاصمتها كنتون) تخاصم الحكومة الوطنية وتناوئها، والحكومة الوطنية (حكومة نانكين) لا تكاد يتعدى سلطانها الأقاليم الوسطى. أما الأقاليم الشمالية وهي مسرح النشاط الياباني، فتكاد تخرج جميعاً عن قبضتها ولا تكاد تتمتع فيها بأية سلطة أو نفوذ يذكر؛ والسلطة فيها موزعة بين جماعة من القادة العسكريين المحليين، أهمهم وأقواهم الجنرال (شنج تشي يوان) زعيم الشمال وهو من أنصار سياسة التفاهم مع اليابان. ويجب أن نذكر أن اليابان تعمل الآن مطمئنة من جانب روسيا التي اضطرت إزاء تطور الحوادث وتفاقمها في أوربا أن تترك ميدان الصراع مع اليابان في الشرق الأقصى، وأن تنسحب نهائياً من منشوريا بعد أن باعت لليابان نصيبها في السكة الحديدية الشرقية؛ وبذلك خفت عوامل الاحتكاك القديمة بين اليابان وروسيا، وهي عوامل كانت تحسب اليابان حسابها كلما أقدمت على عمل جديد في هذا الميدان

أما الدول الغربية فليس من المنتظر أن تقوم في الظرف الحاضر بعمل ذي شأن، وخصوصاً بعد ما تصدعت جبهتها المشتركة، وأضحت كل تعمل بمفردها؛ بيد أن الصين تحاول من جانبها أن تحمل الدول الغربية على التحرك، وذلك بإثارة التمسك بمعاهدة الدول التسع لدى الدول الموقعة عليها، وهي الولايات المتحدة (أمريكا) وبريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والبرتغال والصين واليابان ذاتها؛ وتنص هذه المعاهدة على احترام سيادة الصين واستقلالها ووحدتها الإدارية والإقليمية، وعلى معاونتها على النهوض والتقدم بكل الوسائل، واستعمال الدول الموقعة لنفوذها في تأييد مبدأ الفرص المتساوية في النشاط التجاري والصناعي في الصين لجميع الأمم، وعلى عدم انتهاز ظروف الصين للحصول على امتيازات خاصة؛ فهذه المعاهدة هي التي تثير الصين وتثير الدول نصوصها اليوم احتجاجاً على عمل اليابان في شمال الصين، بيد أنه من المشكوك فيه أن يسفر هذا الاحتجاج النظري عن أية نتيجة عملية؛ فاليابان تمضي دائماً في طريقها غير حافلة بالنصوص التي تعرقل مشاريعها

على أن هناك عاملاً يحسب حسابه؛ فان اليابان إذا استمرت في سياسة التوغل في الصين على هذا النحو، فنها تقترب شيئاً فشيئاً من حدود الهند البريطانية، وحدود الهند الصينية الفرنسية؛ وبريطانيا العظمى لا تستطيع السكوت طويلاً على هذه الحركة التي قد تفضي إلى تهديد سيادتها في الهند؛ كذلك تشعر فرنسا بالخوف على مستقبل الهند الصينية، إذا ما اقتربت اليابان من جنوب الصين. والواقع أن بريطانيا رغم انشغالها بالمشكلة الحبشية واحتمالاتها المزعجة، لم تفتر عن العمل لمقاومة التوغل الياباني في الصين، والصراع يضطرم دائماً بين الدولتين وإن كان ما يزال يقتصر على الوسائل المستترة؛ وآخر محاولة بريطانية لمقاومة النفوذ الياباني، هي اتفاق بريطانيا مع حكومة نانكين على القيام بتنظيم المالية الصينية على يد خبير بريطاني، وعقد قرض للصين في إنكلترا، وهي محاولة تفطن لها اليابان وتعمل لمعارضتها؛ وإذا كانت الدلائل تدل على أن أمريكا قد أخذت تبتعد شيئاً فشيئاً عن التمسك بسيادة المحيط الهادي وعن التعرض لسياسة التوسع الياباني في الصين، فأنها من جهة أخرى تدل على أن بريطانيا العظمى ما زالت تعتبر قيام التوازن الدولي في الصين أمراً حيوياً لسلامة الهند وباقي أملاكها في الشرق الأقصى؛ ولم يكن إنشاء إنكلترا لقاعدة سنغافورة البحرية الهائلة بعيداً عن التحوط للزحف الياباني نحو الجنوب

وليس بعيداً أن يكون تقدم التوسع الياباني في الشرق الأقصى على هذا النحو المزعج عاملاً جوهرياً في التقرب بين إنكلترا وروسيا، واتحادهما معا على مقاومة هذا الخطر الياباني الذي تشعر كلتاهما باشتداد وطأته؛ فإذا تم ذلك، فانه يسجل انقلاباً خطيراً في السياسة الدولية، قد يكون له أبعد الأثر في تطور الحوادث في الشرق الأقصى