مجلة الرسالة/العدد 128/في الأدب الأمريكي

مجلة الرسالة/العدد 128/في الأدب الأمريكي

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1935



مارك توين

(بمناسبة انقضاء مائة سنة على ميلاده)

- 1 -

في يوم السبت الماضي 30 من شهر نوفيمبر سنة 1935 احتفل الأدباء في أغلب أقطار الأرض بانقضاء مائة عام على مولد الكاتب العبقري الأمريكي الفكه مارك توين. ومَن من الناس لا يحي ذكرى مؤلف: (مخاطرات توم ساوير)، و (هيلكبري فن)، و (الأمير والشحاذ) وغيرهما من القصص التي استهوت قلوب الصغار لفكاهتها وطرافتها، وعقول الكبار لحكمتها وبلاغتها؟ أن الذين قرأوا مارك توين قد علموا بعض العلم عن الرجل، لأنه انما يتحدث في الغالب عن نفسه او عن ذويه في قصصه؛ وقد روى ذكريات طفولته في تلك المخاطر التي عزاها إلى أولئك الأطفال الذين عاشوا على ضفاف (المسيسبى)؛ وليست العمة الشهيرة (بولي) في قصته (توم ساوير) إلا أمه. ولعلنا نستطيع أن نزيد في هذا العلم شيئاً بحكاية تاريخ حياته المضحكة المبكية المملوءة بالمخاطر والأحداث والطرف، فانها في ذاتها لا تقل امتاعا للقارئ عن سائر كتبه

فى 30 نوفمبر سنة 1835، وفى قرية (فلوريدا) بولاية (ميسوري) ازدادت أسرة المحامي (جون كليمانس) واحدا بولادة طفل خامس سموه (صمويل)، ثم صار بعد حين من الدهر (مارك توين)؛ وكان يؤكد أنه لم يكد يولد حتى وجد له محلا بين عظماء الناس، لأن ولادته زادت في عدد قريته واحدا في المائة، إذ كان تعداد سكانها مائة بالضبط

وفي سنة 1839 عين أبوه العابس القاسي قاضياً في (هانيبال) على شواطئ المسيسبي فلحقت به أسرته، وهناك قضى صمويل شطرا من طفولته. وكانت الطباع في ذلك البلد شرسة، والأخلاق منحلة؛ فالمقامرة والمعاقرة والعراك والقتل أمور مألوفة وحوادث فاشية، وصمويل قد شهد بنفسه أربع حوادث من حوادث القتل، وقد اختزن في ذاكرته جملة من مشاهد هذه الحياة وصفها في مؤلفاته. وكان في هانيبال عدد وفير من العبيد؛ وكان لأسرة كليمانس منهم ثلاثة أعبد جاءت بهم أم صمويل مهراً لأبيه. وكان هؤلاء المساكين يحبون صمويل حباً جماً لرقته وعطفه؛ ولهم من ذكرياته في مؤلفاته حظ عظيم

كان صمويل في المدرسة شديد الكسل ردئ العمل، يؤثر على درسه وكتبه الاجتماع بطغمة من رفاقه الأشرار الذين أتى وياهم من المنكرات والسيئات ما قرأناه بعدُ في قصصه. وقد يئست أمه من صلاح أمره؛ وكانت سيدة جميلة ذكية متسلطة تؤثره وترعاه، ولها عليه سلطان قوي مدى عمرها الطويل إلا في الجانب الذي يتعلق بدراسته. كان تقويمه من طريق الاقتناع عبثاً، فعمدت أمه إلى تقويمه بالضرب والأذى؛ وفي ذات يوم قالت له وهي تضربه: صدقني يا بني أني حين أضربك أتألم بشدة، فأجابها بقوله: هذا ممكن، ولكنك تألمين في غير الموضع الذي أتألم منه. وهذا الجواب الذي صار مثلا يشهد هو وغيره أن صمويل كان حاضر البديهة سريع الجواب

كان من عادة مارك توين أن يقول: (إن السيد الحقيقي للانسان هو المصادفة). وذلك قول صحيح بالنسبة له، فان المصادفات الطارئات والظروف المفاجآت كثيرا ما غيرت مجرى حياته. فقد كان صمويل لا يزال على مقاعد الدرس حين فجعه الموت في أبيه، فاضطرت أمه أن تخرجه من المدرسة وتجعله (صبياً) عند صاحب جريدة (هانيبال كورييه) يعمل له من غير أجر إلا الطعام والمأوى؛ ولكن الجراية كانت وا أسفاه قليلة لا تسد رمقه. ولما أصدر أخوه الأكبر (جريدة هانيبال) في سنة 1850 ضمه إليهوعمره يومئذ لا يزيد على خمس عشرة سنة؛ ولكن النجاح لم يكن على قدر الأمل فقل عدد الموظفين واضطر صمويل إلى أن يجمع بين صف الحروف وبين ترتيب المواد، وأن يجوب بعد ذلك شوارع المدينة للتحصيل، فيعود مملوء اليدين بالحبوب لأن أغلب المشتركين كانوا يؤدون قيمة اشتراكاتهم عيناً. كان العمل كثيراً، ولكن صمويل مع ذلك كان يجد الفراغ لكتابة مقالة أو أقصوصة تظهر فيها دلائل قريحته الفكهة المنتظرة؛ وكان ينتهز الفرصة في غياب أخيه لبعض أعماله، فينشر في الجريدة ما يكتب؛ وكان أكثر ما يطرق من الموضوعات التعليق اللاذع على الحوادث المحلية، فيؤنبه على ذلك أخوه؛ ولكن الجمهور كان شديد الاعجاب بها، وأكثر القراء كانوا لا يشترون الجريدة إلا ليقرأوها

وفي ذات يوم رأى في غيبة أخيه أن يلهو مع القراء فنشر أقصوصة عن صحافي أمريكي مدع كان مولعاً بالأسفار، فوقع في بعض رحلاته في أواسط أفريقية أسيراً في قبيلة تأكل لحوم البشر، فكان مصيره الأليم لا شك فيه، إلا أن شيخ القبيلة أراد أن يستجوبه طويلا عن حرفته، وعن الغاية المقصودة من رحلته، فلما سأله في ذلك أجابه المسكين وعيناه الزائغتان تنظران إلى معدات الوليمة: أنا لست إلا صحافياً متواضعاً يا مولاي العظيم. فقال له الشيخ: صحافي؟ تريد أن تقول انك مدير جريدة؟ فأجابه: أوه! كلا يا مولاي القادر ما أنا إلا وكيل حقير، فقال له اطمئن ايها الرجل الأبيض! سترقى بعد أن نصنع منك الحساء إلى مدير!!

كانت هذه النوادر المضحكة تستهوي ألباب القراء، ولكن أخاه (أوريون كليمانس) كان لا يجد لها مذاقاً ويرجو منه ألا يستمر فيها. على أن صمويل لم يحرص على البقاء في الجريدة، فقد كان نزوعاً بطبيعته إلى الاستطلاع والنقلة، ولكن افلاسه كان يحول بينه وبين قضاء هذه النزعة. وقد طلب من أمه أن تقرضه خمسة دولارات فأبت عليه ذلك حتى لا تشجع فيه هذه النزعة التي تحسبها نوعاً من التشرد والصعلكة؛ فاضطر إلى أن يتذرع بالصبر حتى يجمع المبلغ المطلوب بارة فبارة، حتى اذا ظن أنه أصبح غنياً يستطيع مواجهة العالم الفسيح فر في ليلة من الليالي يريد (أن يحيا حياته) على حد تعبيره، فكسبه الترحال والتجوال ثروة في اختباراته، ووفرة في انطباعاته، أفادته كثيراً فيما بعد حين تكتشف مواهبه النادرة عن الكاتب النابه (مارك توين)

- 2 -

على أن من النادر أن تأتي الشهرة والنباهة دفعة واحدة، فقد كان أول الطريق على صمويل وعراً، طوّف في البلاد ما طوّف حتى بلغ نيويورك، فأتقن فن الطباعة، ثم ارتد إلى هانيبال، وكان عمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً؛ وكان أخوه في غضون ذلك قد تزوج وأصبح مديراً لإحدى المطابع، فصار صمويل عاملا من عمالها، ولكنه كان قد تذوق الحرية وقرأ كثيراً من كتب الرحلات، فما كان يحلم إلا بانتجاع أمريكا الجنوبية على ضفاف الأمازون؛ وكان للمصادفة مرة أخرى يد بيضاء في توجيه الشاب الحالم. فقد عثر ذات يوم في الطريق على ورقة مالية من ذات الخمسين دولارا، ولما لم يجد لها طالباً في الصحف احتفظ بها وعاد من جديد يضرب في الأرض. سار على ضفاف المسيسبي منحدرا مع مجراه حتى بلغ بعد خمسة عشر يوما (أوليان الجديدة)، وهنالك أدركته خيبة الأمل؛ فقد علم أن ليس في البواخر ما يسافر إلى الجنوب، وإذن لا يستطيع أن يبحر كما فكر وقدر. صفرت يده من المال، وهدده الشرط أن يعاملوه معاملة المتشرد، وأخذت حاله تسوء من يوم ليوم. . . ولكن إله المصادفة كان يرعاه، ففي الوقت الذي بلغت فيه حاله من الحرج وحياته من الضيق مبلغا شديدا، ألفى في طريقه بحاراً يدعى (بكسبي) تقدم إليهصمويل ليكون تلميذاً بحرياً في سفينته دون أن يفكر في المصاعب التي يلقاها الملاح في نهر كالمسيسبي طوله اثنا عشر ألف ميل، وبه من التعاريج ما يجب على راكبه أن يعرفها على التفصيل والجملة. ولكن وساطة بعض الأصدقاء ذللت له العقبات وسهلت عليه القبول. قضى المغامر الشاب عهد التعلم الشاق في ثبات وصبر وشجاعة، حتى غدا قائدا ماهرا للسفينة. . . أصبحت حجرة الدفة مأواه، والنهر المتنوع الحي مدرسته، فكانت هذه الحياة العاملة التي قضاها في النهر بعد تلك المقالات التي نشرها في جريدة أخيه مدرسة ناجحة لهذا الصحافي المنتظر؛ ومن مِلاحته في الماء العذب أخذ صمويل اسمه المستعار (مارك توين)، فقد كان في بعض مواضع النهر كثبان من الرمل، فإذا ما اقتربت السفينة منها سبر العامل المختص غور الماء، وقال وهو يلاحظ المسار: ارقم ثلاثة أرقم اثنين وهلم جرا. . . فأعجبت صمويل كلمة مارك توين فاتخذها اسما له. راغ صمويل من حرب الانفصال طول شبوبها، ثم سافر بعد ذلك مع رفيق له يبحثان عن الذهب، ولكن ما معه من المال نفذ سريعاً، فاضطر إلى العمل أجيرا في منجم من مناجم الذهب بعشرة دولارات أسبوعيا، وهي أجرة ساخرة إذا قيست بالعمل المرهق المنهك الذي كان يؤديه هذا المسكين. وذلك كان رأيه، فانه حين ظفر يوماً بمقابلة المدير طلب منه زيادة الأجر فقال له المدير: إنك لا تساوي شيئاً؛ ومع ذلك فأنا أحب أن أعرف ادعاءك. فقال له صمويل بأدب: إني رجل معقول، لذلك أقنع بأربعمائة ألف دولار في الشهر! فما كان جواب المدير إلا أن طرده لتّوه. ولما لقيه بعد ذلك مصادفة سأله ألم تندم على شيء؟ فقال له: بلى (بعد أن علمت ما هو العمل في المنجم كان ينبغي أن أطلب سبعمائة ألف دولار أجرة في الشهر لا أربعمائة ألف كما طلبت)

بعد هذه التجربة القاسية عزم صمويل أن يبحث عن الذهب على حسابه، فاشترك مع رفيق له، وحصل على امتياز ومضى في العمل. ولكنه تعلم على حسابه أن الثروة لا تواتي الجسورين دائماً. فقد أهمل هو ورفيقه أن يسورا الأرض التي يملكان فيها الامتياز، فنازعهما على ملكها بعض الناس، وأعوزهما الدليل فآلت إلى هؤلاء المنازعين، وبحثوا فيها فعثروا على عروق خصيبة من الذهب. وكانت الصدمة قوية على الشابين. ولكن المصادفة أدركت صمويل في ساعة المحنة. إذ طلب إليهأن يكون وكيلا للإدارة في جريد (انتربريز)، وهذا المنصب في نظر صمويل كان عرقاً ذهبياً من نوع آخر، إذ أدخله على غير انتظار في حلبة الأدب. وكان دخوله في تحرير هذه الجريدة فرصة حسنة تمكنه من ناحية الإنشاء والقصص، فصقل بالتحرير أسلوبه، وهذب بالمران حكاياته، ولكن طبعه الهجَّاء وروحه المداعب الفكه لم يخمدا فيه؛ وأوشك في البداية أن يقع منهما في ورطة شديدة، وذلك أنه نشر في بعض الأيام بيانا عن حادثة قتل وقعت في محطة (دوتش نيكس) أطلق فيه لخياله العنان، فذكر أن القاتل بعد أن طعن زوجته وأطفاله التسعة بالخنجر وضرب نفسه فقطع عنقه من الأذن إلى الأذن، امتطى جوادا عدا به حتى بلغ (كنساس ستي) ثم خر صريعاً هناك. نقلت ذلك الخبر جرائد كليفورنيا كلها ثم حملت في تعليقاتها على وحشية القاتل وفظاعة جرمه، ولكن جرائد بعض الولايات القريبة روت ذلك الحادث الغريب وقالت انه حديث خرافة. فكان ذلك فضيحة طريفة للكاتب أوشكت أن تخرجه من عمله

ثم انتقل إلى (سان فرنسيسكو) واستمر يكتب في الصحف كتابة رفعت شأنه وأذاعت اسمه في ولاية (كليفورنيا)، ولكنه بعد أن نشر كتابه (قصة الضفدعة التي تثب) أصبح نابه الذكر بعيد الصيت في أمريكا أولا، ثم في سائر البلاد بعد ذلك؛ واحتل من الأدب العالمي مكانا ممتازاً لا يتبوؤه إلا القليل. كذلك في هذه المدة نال مارك توين شهرته الذائعة في فن المحاضرة، وأضاف إلى علمه العميق بفن القراءة وقدرته العجيبة على زخرف الحديث، موهبته الساحرة لجذب قلوب السامعين باللهو والضحك. ولما عزم أن يحاضر الجمهور لأول مرة كتب في الإعلان الذي ألصقه على الجدران: (فتح الأبواب في الساعة السابعة والنصف، وابتداء الضجة الفاضحة في الساعة الثامنة تماما. ولما زار إنجلترا ليلقي فيها بعض المحضرات أحس في أول اختلاطه بالجمهور اللندني بعض الفتور وشيئا من عدم الثقة، فعلم أن ليس من اليسير التغلب على الطبع الإنجليزي المتزمت المحتشم، فطفق يتحدث عن أخبار رحلاته وعن انفعالات نفسه أمام جبل (يبرد الهواء على قمته بردا يجمد له مخ الإنسان في التو، وأثر ذلك في كل من يصعدونه أن يصبحوا عاجزين عن قول الحقيقة) ثم سكت قليلا وقال في لهجة نادمة ساذجة: (إني أعرف شيئا عنه لأني صعدت فوقه!) فانفجرت قاعة المحاضرة بالضحك الغرب، واعتقد ساعتئذ أنه ربح الصفقة واكتسب السامعين

وكان يلقي ذات مرة محاضرة في (بوستن) فقاطعه أحد السامعين وسأله رأيه في الجنة والنار، فأجابه (لا أريد أن أبدي رأيي فيما تسأل، لأني لي أصدقاء كراما في هذه وفي تلك!)

كان مارك توين ذكي القلب متوقد الذهن، ولكنه لم يكن على شيء من حسن السمت وجمال الشارة، فقد كان هندامه مهملاً ولقاؤه فجاً ومعاملته خشنة؛ على أن السنين صقلت هذا الفلاح فاكتسب سمت النبلاء بفضل امرأته (أوليفيا كليمنس) التي بنى عليها في سنة 1870. وكانت هذه السيدة أنيقة مثقفة ذكية، فأثرت تأثيرها الجميل في زوجها، ودامت حياتهما الزوجية خمسا وثلاثين سنة لا يكدر صفاءها حادث، ولا ينغص هناءها خلاف. وقد جاهدت هذه الزوجة الكريمة في إصلاح زوجها، فلمت شعثه وحالت بينه وبين بعض الأمور التي لا تلائم مكانته. كانت ترعاه رعاية الأم لطفلها، فلا تدعه يخرج إلى مكان ما قبل أن تفحص هندامه فحصاً دقيقاً مخافة أن يكون في شكله وزيه ما يخالف العادة

وكانت تنبه إلى كل شيء حتى إلى خلع معطفه في المدخل قبل أن يدخل البهو. فإذا غابت ذات يوم كانت الطامة، فقد اتفق مرة وهما في واشنجطون أن خرجت السيدة كليمنس لبعض شأنها، وكان على مارك توين زيارة لابد أن يؤديها إلى سيدة من سيدات الطبقة العليا. فارتدى ثيابه بنفسه وخرج دون أن يخضع هذه المرة لتفتيش زوجه. أدى الزيارة وعاد إلى مكتبه في زيه الفاخر وطفق يعمل. وكانت زوجته قد عادت في هذهالاثناء فدخلت عليه تلاطفه وتسأله عن الزيارة. ولكنها لم تكد تلقي على السيد نظرة حتى رفعت يدها إلى السماء وصاحت قائلة: يا الله! أفي هذه الهيئة زرت السيدة فلانة؟ فأجابها: وهو قلق يعيد النظر في نفسه خلسة: ماذا؟ ألست في زي أنيق وشارة حسنة؟ فقالت: ولكن أين رباط رقبتك؟ لقد نسيت رباط رقبتك! يا للفضيحة الفظيعة يا عزيزي!! فأجابها بلهجة مصالحة: (أهذا كل ما هنالك؟ لا تضايقي نفسك فسأسوي الأمر) وما كان أشد دهشة الزوجة حين علمت في اليوم التالي كيف سوى زوجها الأمر! علمت أنه أرسل رباط رقبته مع الخادم إلى السيدة التي زارها مصحوباً ببطاقة كتب عليها: (هذه تكملة زيارتي)

على أن الدهر لم يسالم الكاتب النابغ طويلا، فقد فجعه الموت في ثلاث من بناته قضين صغيرات، وجل الخطب وفدح الرزء بفقد زوجته المحبوبة؛ ولكنه عاد فتصرف على هواه، وقرر بعد موت زوجته ألا يرتدي غير الثياب البيض وقد حرص على اتخاذ هذا اللون بقية عمره

كان مارك توين رقيق القلب شديد العطف على الناس يقابل ضعفهم بالتسامح، وبؤسهم بالرحمة، وجرمهم بالعفو؛ وذلك في شيء من الفكاهة الحلوة والدعابة الخبيثة. دخل اللصوص ذات ليلة في منزله في (إستار مفليد) وسرقوا كل ما وجدوه من الأواني الفضية؛ وكانت هذه السرقة شغل البيت وحديث أهله بالطبع، فأخطروا الشرطة وأذاعوا الخبر وتقاسموا الهم، إلا مارك توين، فقد كان في هذه الضجة هادئاً لا يعبأ بشيء ولا يقوم بحركة؛ فلما هم بالانصراف ليلاً إلى مخدعه علق في مكان ظاهر من مدخل الدار ورقة كبيرة كتب فيها هذه الكلمات

(اعلان للصوص في المستقبل)

ليس في المنزل بعد الآن أوان فضية بل مفضضة، وهي في ركن من أركان قاعة المائدة بجانب السلة التي تنام فيها القطط الصغيرة؛ وإذا احتجتم إلى هذه السلة فلا تنسوا أن تضعوا القطط في درج البوفيه الأسفل. أرجو ألا تحدثوا ضوضاء، وأن تغلقوا الباب وراءكم، وتقبلوا خالص احتراماتي.

(س. كليمانس)

ومن السهل أن نتصور ما قابلت به الأسرة هذا الاعلان من الدهش العظيم والضحك الشديد. وهكذا عاش ممثل الذكاء الأمريكي حتى توافاه الله في 21 ابريل سنة 1910 وهو في أوج مجده