مجلة الرسالة/العدد 129/النقد

مجلة الرسالة/العدد 129/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1935


4 - تاريخ الإسلام السياسي

تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن

موضوع الكتاب، الثقافة الإسلامية، خاتمة

لأستاذ كبير

لست أدري لم قصر مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) وصف كتابه على (السياسي) فحسب، مع أنه عرض لنواح شتى من الحياة الإسلامية القديمة: عرض لنواحي الدين، والسياسة، والاجتماع، والعقل، والأدب. فبينا تقرأ له فصلاً في حكمة تشريع القبلة، إذا بك تنتقل إلى فصل آخر موضوعه فتح عمرو بن العاص مصر؛ وبينا تقرأ له فصولاً في عقائد الفرق الإسلامية القديمة ومذاهبها، إذا بك تقرأ له كلاماً في حال المرأة المسلمة في العصر القديم، ثم إذا بك تنتقل بعد إلى كلام مطول في صناعتي الشعر والنثر في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين.

أو ما كان أولى للمؤلف أن يقدر هذه المزايا قدرها، فيصوغ عنوان كتابه بحيث يدل عليها كلها مقتدياً في ذلك بالسيد أمير علي حين سمى كتابه الذي يعرفه المؤلف حق المعرفة (موجز تاريخ العرب). لاشك أن الصفة السياسية الصحيحة، كما يعرفها علماء التاريخ والعارفون بأصول علم السياسة، ليست أبرز نواحي الكتاب، وقد تكون عند التحقيق من أضعف نواحيه. ولكن من يدري؟ فلعل المؤلف قد لحظ هذه الحقيقة فنعت كتابه بأضعف صفاته تواضعاً منه! وإن كان التواضع خلة قلما يدل عليها كتابه. أو لعل له غرضاً آخر يعرفه ولا نعرفه.

والحق أن المؤلف أقدم على تأليف كتابه وليس له غرض واضح محدود يرمي إليه ويسير على هديه، إلا أن يكون كتابة تاريخ عام للإسلام من الطراز المألوف وهو ما لا يدل عليه عنوان الكتاب. وغموض الغرض الحقيقي أو انتفاؤه بالمرة أضر بالكتاب من عدة وجوه. فمن جهة أحال الكتاب كتلة ضخمة من الأخبار والحوادث المتعلقة بعصر معين، قد جمعت من هنا وهنا، ثم حشدت حشداً، وأزجيت على الورق إزجاء، فاقدة الوحدة المعنوية، والاتصال الذاتي، اللذين يكسبانها الروح والحياة والحركة. ومن جهة ثانية فإن غموض الغرض قد لبس على المؤلف أمره، وجعله يضطرب بين طرائق المؤرخ المحقق، والمحامي المنافح عن الدين، والواعظ المبشر بالإسلام، الراد لشبهات المبشرين وتعسفات المستشرقين؛ فعدل في كثير من المواطن عما يحسن، وتكلف ما لا يحسن، وما ليس من شأنه من حيث هو مؤرخ فحسب. ومن جهة ثالثة فإن نشاط المؤلف وعنايته لم يوزع على أجزاء الكتاب توزيعاً يتكافأ وأقدارها من الوجهة التاريخية البحتة، فتشريع القبلة وحكمته يظفران بثلاث صفحات، في حين أن غزوة بدر التي تعتبر بحق أهم وقائع الإسلام ومن وقائع التاريخ الفاصلة، لا تكاد تظفر بصفحة واحدة! وأم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك تخص بصفحتين، في حين أن الأحداث الجسام التي وقعت في زمن الخليفة يزيد ابن الوليد بن عبد الملك تركز وتضغط في أسطر قلائل!

أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل

ومن الأمور التي أثرت في كتاب (تاريخ الإسلام السياسي) وقعدت به عن رتبة الجودة ما يدل عليه الكتاب نفسه من عدم وفور حظ المؤلف من الثقافة الإسلامية الصحيحة، والمطلع على الكتاب يرى أن المؤلف يحاول جهده أن يكتم هذا الضعف، ويستره بطلاء براق من الاقتباسات العربية الكثيرة التي يطالعك بها في كل صفحة، ولكن هذه المحاولة لا تروج حتى على من يقرأ الكتاب قراءة عجلى. فإن اللحن والتحريف الفاشيين في الكتاب واللذين أعرضا عن تتبعهما اختصاراً للقول، وتوخياً لصميم الموضوع، وإن المآخذ التي سردنا بعضها في بحوثنا الماضية، نقول إن ذلك كله كفيل بإثبات أن المؤلف غير موفور الثقافة الإسلامية. وقد أداه تفريطه في جانب الثقافة الإسلامية إلى الإفراط في الأخذ عن المصادر الأجنبية، فخرج كتابه حائل الصبغة، حائراً بين العروبة والفرنجة، لا ينتمي إلى واحدة منهما انتماء صحيحاً

والحق أن التاريخ الإسلامي من أشق فروع التاريخ مطلباً وأوعرها مذهباً، فهو تاريخ عالم بأسره؛ لا مجرد تاريخ إقليم معين أو أمة بعينها. وهو تاريخ عصور متطاولة تقرب من أربعة عشر قرناً، ثم هو تاريخ تختلط في الأحداث، والنظم، والآراء، والمذاهب اختلاطاً عجيباً، فإذا ما أريد تصنيفها وإفراد كل منها على حدته، وسوقه في مساقه الخاص، اقتضى ذلك من الجهد والعناء الشيء الكثير. والمعاني لدراسته محتاج إلى وفور حظه من الثقافتين التاريخيتين العامة والإسلامية، فإن لم يفعل كان كمن يغشى الهيجاء بيد عزلاء، أو يتقحم المجاهل برجل عرجاء. من أجل ذلك لم ينهض بعد التاريخ الإسلامي في الشرق نهضته المستقلة المنشودة. مع أن التاريخ سجل أحداثه، وديوان مجده وفخاره، فهو لا يزال قصصاً يقص، وسيراً ساذجة تتلى. أما روح الجماعات، وأثر البيئة والتقاليد، وعمل المبادئ والعقائد، والقوى الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، فتلك كلها لا تزال في العربية أسراراً لم ترفع عنها الحجب. وقد يتعذر بعضهم عن هذه الحال بأن العوامل المذكورة ليست عند الشرقيين في مثل قوتها عند غيرهم ولكن الأمر هنا ليس أمر قوة وضعف، فهي موجودة في كل حال، والطبيعة البشرية واحدة، والناس هم الناس سواء أكانوا في شرق أم في غرب. ولو أنصف أولئك المعتذرون لقالوا إن الذي يحول دون نمو الروح التاريخي الصحيح في الشرق هو ما يعترض الباحث من وعورة المسلك، وبعد الشقة، وصعوبة المنال.

وبعد فقد آن أن نختم هذه الفصول التي لم يدفعنا إلى تسطيرها إلا ما أشرت إليه في كلمتي الأولى من توخي المصلحة العامة قبل كل شئ. فلعلي أكون قد وفقت فيما قصدت إليه.

ونصيحتي الأخيرة للدكتور مؤلف (تاريخ الإسلام السياسي) أنه إذا أسعده الحظ فأعاد طبع كتابه، ينبغي أن يعيد النظر في كل فصل من فصوله، وصفحة من صفحاته، فيصحح الخطأ، ويقيم المعوج، وإنه عندما يتولى إصدار الأجزاء الباقية ينبغي أن يكون أشد تحفظاً، وأكثر تثبتاً، فالناس لا يسألون عادة عن مقدار الزمن الذي ينفق في عمل من الأعمال، بمقدار ما يسألون عن حظ هذا العمل من التجويد والإتقان.

بقي أن أبرأ إليه مما عسى أن يكون القلم قد ناله به في هذه الكلمات من لفظ خشن، أو عبارة قارسة، فإن ذلك مما قد يحمل عليه مجرد الغضب للحق. أما المآخذ العلمية فلا حيلة لي فيها، وقديماً قالوا: (لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعراً أو يؤلف كتاباً)، وقد ألف الدكتور كتاباً، وسمع فيه مديحاً عاطراً كيل جزافاً، فمن الحق عليه أن يسمع إلى جانب ذلك صوت النقد يكال بقدر وحساب.

(انتهى) مؤرخ