مجلة الرسالة/العدد 129/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

مجلة الرسالة/العدد 129/قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 12 - 1935



ترجمة الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم

كوخ

رابع غزاة المكروب يكتشف مكروب السل

- 6 -

إن بشلات الجمرة بشلات في المكروبات كبيرة يسهل الكشف عنها إذا هي قورنت بمكروب السل، ذلك المكروب القتال الخداع. ومكروب الجمرة يكثر في أجسام الحيوان قبيل موته كثرةً هائلة، فلا يخطئه البصر ولو لم يكن حديدا، أما مكروب السل - ولم يكن كوخ على يقين من وجود مكروب له - فقد طلبه الطالبون وتقفاه الباحثون ولكن بغير جدوى. ولو أن لوفن هوك نفسه، وهو أحد البحاث عيناً، نظر في مائة رئة مريضة، ثم نظر، ثم أعاد النظر، ما خرج من نظراته الحديدة الكثيرة على شئ. ولو ان اسبلنزاني حاول ما حاول لوفن لعجزت مجاهره عن إبلاغه تلك الغاية. أما بستور، وهو الباحث القدير، فلم تكن طرائقه من الدقة بحيث ترفع الغطاء عن هذا الفاتك الغادر. أو لعل صبره كان ينقذه دون أن يحقق شيئاً.

ولم يكن يعرف قبل كوخ من داء السل شئ كثير، فكل ما عرف عنه أنه داء تنقله مكروبات، وذلك لأمكان نقله من حيوان سقيم إلى أخر سليم. سبق إلى هذا الدليل عالم شيخ اسمه فلمان وحققه من بعده كون هايم أستاذ برسلاوة الكبيرة، فاستطاع أن ينقل داء السل إلى الأرانب، إذ أخذ فتيتة من رئة مسلولة فأدخلها في الخزانة الأمامية لعين أرنب، فأخذت أنسجة العين تتدرن، وأخذ الدرن يتمدد ينذر الموت. وظل عالمنا القدير يرقب حوادثهذه التجربة البديعة من خلال أغنية العين الشفافة فكأنما يرقب دوراً على مسرح يلعب من وراء زجاج كان كوخ قد أطلع على تجربة كون هايم، ودرسها درساً طيباً.

قال: (ليس في المقدور أن أجرب تجارب السل في آدمي، وقد أمكن الآن نقل هذا الداء إلى الحيوان، فهناك يا نفس فرصة غالية لدراسته، لكشف مكروبه، فلا بد من مكروب ينشأ عنه هذا الداء. . . .).

وبدأ كوخ عمله، وكان لا يعمل إلا على خطه يرسمها، وكانت خططه قاسية لا صلةهلا بعاطفة بني الانسان، ولا تمت بسبب إلى الحنان القلوب. وأجرها ببرود قلب لو أطلعت عليه في تقاريره عنها لأقشعر بدنك منها. وحصل على مادة سله الأولى من عامل يفعل في الأرض؛ وكان رجلا قوي البنية، مفتول العضل شديداً، وكان عمره ستة وثلاثين عاماً، وكان منذ ثلاثة أسابيع في صحة هي الغاية مما يرجوه إنسان، فلم يلبث أن جاءته سعلة باغتة، اخترقت صدره الآم فاجئه، نفذ منه نفوذ السهام. وأخذ جسمه في الهزال السريع حتى أصبح كأنه الشمعة احترقت فأخذت تسيح. ودخل المستشفى ولم تظله سقفه أربعة أيام حتى صعدت روحه إلى السماء، وتخلف جسمه حيث هو من سريره، وقد عمه الدرن وتنقط كل عضو فيه بتلك الحبيبات الغبراء الصفراء كأنها الفلفل بعثره مبعثر فيها.

بدأ الكوخ عمله في هذه المادة الخطيرة وحيداُ، فمساعداه كانا قد افترقا عنه، أما لفلار فأخذ يتقفى مكروب الدفتريا، وأما جفكي فكانا ينقب عن مكروب التيفود. بدأ كوخ العمل وحده، فجمع الدرن الأصفر من جثة العامل المنكود بين مشرطين أحماهما في النار، ثم سحق الدرن، ثم حقن سحيقة بلطف في عيون طائفة من الأرانب، وحقن منه تحت جلود طائفة أخرى من الخنازير الغينية، ووضع الأرانب والخنازير في أقفاص نظيفة، وأخذ يعني بها ويلاطفها ويداعبها مداعبة الأم الرؤوم؛ وبينا هو ينتظر انبعاث السل فيها ملأ وقته بالنظر بأقوى مجهر في الأنسجة المريضة التي خلفها العامل المسكين.

نظر ثم نظر، ثم داوم النظر أياما بمجهر يكبر الأشياء مئات المرات، فلم يكشف بصره شيئاً إلا الحطام الذي تخلف من كبد تهدمت أورئةتخربت. قال كوخ: (إن يكن للسل مكروب فلا بد أنه يداورني ويغالبني حتى يفلت من عيني فلن أستطيع بعد الآن رؤية وهو حيث هو من الأنسجة بصبغة شديدة، فلعله يتراءى من بعد ذلك فيها. . .)

ومضى اليوم تلو اليوم، وكوخ قائم قاعد في صبغ الدرن الذي جمعه، يصبغه بالأسمر والأحمر، وبكل لون من ألوان الطيف استطاعه. كان ينشره على شريحة من الزجاج نظيفة، ثم يغمرها بما عليها فيمحلول صبغة قوية زرقاء، ويدعها الساعات فيها، ثم يعود إلى شريحة ثانية ويصنع بها ما صنع بالأولى، فيغمرها في صبغة أخرى، ثم يعاود ثالثة ورابعة، وكلما مست يداه شيئاً مستراباً غمسها في محلول مطهر من السليماني حتى تقشف جلدهما وأسود.

واصبح صباح يوم، فقام كوخ إلى شرائحه الزجاجية فأخرجها من محلول الصبغات التي كانت بها، ووضعها واحدة بعد أخرى تحت مجهره،، واخذ يبؤئره عليها، فاخذ مجال بصره يتضح رويداً رويداً حتى خرج له من العلماء الأغبر صورة جلية بينة، وإذا عينه ترى بين خلايا الرئة التي تقوضت من الداء مجموعات غريبة من بشلات صغيرة كالعصي زرقاء، رقت في بصره فلن يستطع تقدير سمكها، أما طولها فأقل من جزء من خمسة عشر آلف جزء من البوصة الواحدة قال كوخ: (ما أجملها بشلات! إن بها انحناء قليلا والتواء، فهي ليست في استقامة مكروب الجمرة، وهناكأسرابا منها اجتمعت واكتنزت كأنها حزم السجائر، وهاك بسلةً عفريتة دخلت وحدها خلية من خلايا الرئة المتآكلة. . . أحقاً هذا مكروب السل وقعت عليه هكذا سريعاً؟) وواصل كوخ عمله بدقته المعهودة، فظل يصبغ الدرن يستخرجه من كل ناحية من نواحي جثة العامل، وحيثما صبغ أرته صبغته الزرقاء تلك البشلات الدقيقة الحنواء؛ تلك الخلاق الغريبة الجديدة وقد اختلفت عن كل ما كان رآه في أجسام ألوف الحيوان والإنسان سليمة وسقيمة.

ولم يلبث فيما هو فيه طويلا حتى بدأت الفاجعة المحزنة تقع في الخنازير الغينية والأرانب. أخذت هذه الخنازير يتزاحم بعضها لصق بعض في أركان القفص في كآبة بينة، وانتفش فروها، وأجسامها الصغيرة التي دأبت بالأمس على الوثب واللعب، آخذت تنهزل ويذوب عنها ما كساها من اللحم والشحم فصارت كأنها العظم حوته صرة من جلدها. ولزمتها الحمى فهمدت وتخاذلت عن طعامها من الجزر الطيب قد زها لونه، والحشيش الطازج قد فاح شذاه. ثم آخذت تموت واحدا فواحده، وكلما مات واحد منها إرواء لغلة عالنا من البحث، وافتداء لسلامة للاتسان، قام صاحبنا إليه فدبسه على لوحة تشريحه، وبلل جلده بمحلول السليماني ثم اخذ مشارطه فطهرها ثم شق جثة الخنزير وشرحها في دقة زائدة وعناية بالغة سكتت لها أنفاسه مخافة الزلل.

وفي بطون هذه الضحايا، التي جهلت بما ضحت، وجد كوخ نفس ذلك الدرن الأصفر الأرمد المرعب الذي امتلأت به جثة العامل. فقام يبسطه على لوائح زجاجه الذي لايفني، ثم يغمره في صبغته الزرقاء، وفي كل حالة وبكل جسم كشفت له الصبغة عن نفس تلك العصي الحدباء التي أرته إياها أول مرة في رئة ذلك العامل فدعا عونيه الأقدمين - لفلار الشغال، وجفكي المخلص - فتركا ما هما فيه من مكروبات أخرى يبحثانها، فلما جاءاه أراهما ما وجد. قال: (انظر كلاكما فآني وضعت في هذا الحيوان منذ ستة أسابيع فتيتة صغيرة من الورق لا يتجاوز ما فيها مائة من هذه البشلات، وها هي اليوم قد تكاثرت فيه فبلغت البلايين. أي مخلوقات هذه! فلقد إنتشرت من حيث حقنت في فخذ هذا العيني إلى كل أجزاء جسمه، فنفذت كالأرضة إلى اقاصيه، واخترقت جوانب الشرابين. . . . وحملها الدم إلى عضامه. . . وحملها إلى ابعد زوايا في مخه. . . .) وذهبت إلى مستشفيات برلين، كائنة حيث ما كانت، يستجدي منها جثث الموتى رجلًا ونساءً من صرعى السل، واخذ يقضي أيامه وحيدا مستوحشاً بين هذه الجثة حيث هي من بيوتها، ويقي امساءه عند مكرسكوبه في معمله، وهو ساكن كالقبر إر من أصوات خنازيره الغينية وحركاتها، واستخرج من أجساد الموتى أنسجتها المريضة فحقن منها في مئات من هذه الخنازير، وفي كثير من أجساد الموتى أنسجتها المريضة فحقن منها في مئات من الخنازير، وفي كثير من الأرانب، وفي ثلاثة كلاب، واثنتي عشرة حمامة، ثلاثة عشرة قطة خداشة، دجاجات دفاقةقواقة؛ ولم يقف من جنونه إلى هذا الحد من جقن هذا العدد الكبير من الحيوانات، بل انه حقن هذه المادة الجبنية القاتلة في أنواع عدة من الجرذان والفئران أبيضها وأرمدها، وما يرتاد الجبال منها، بلغت دقة كوخ في صيد المكروب حداً لم يبلغه صائداً قبله.

وتفكر كوخ لما أجهده الحذر قال: (يا لله من عمل يهز الأعصاب هزاً). قال هذا وقد خال ما كان حاله لو أن مخلب هذه الهرة امتد كالبرق إلى محقنه فأرتشق في جلده بكروبها القاتل! لم يكن كوخ برغم هدوئه ووحدته وانفراده في محاربة هذه الأعداء الخفية خلوا من هزات الحياة وانفعالاتها، إلا أنها لم تكن انفعالات من التي تنعش وتسر، ولكن من تلك التي تنذر بالفواجع والمآسي.

وصمد صاخباً للمأساة المنذرة فلم تزل يده إنما ازدادت على الأيامجفافاً وتجعداً واسوداداً لغمسه إياها في محلول السليماني، هذا المحلول الطيب الذي وجد بحاث الكروب في تلك الأيام أمنهم فيه، فغمروا يه كل شيُ حتى أجسامهم. وتتالت الأسابيع وكوخ بين مواء القطط وقيق الدجاج ونباح الكلاب، وبشلته الحنواء تتكاثر تكاثراً سريعاً قاسياً فظيعاً في هذه الحيوانات، ثم أخذت هذه الحيوانات تتساقط واحدة بعد اخرى، وتعجلها الموت فازدحمت بين يدي كوخ، فاشتغل من يومه ثماني عشرة ساعة قضاها في شق جثتها وتفحص ما بها، ثم في امتحان ما وجد فيها تحت المكرسكوب بعينه العمشاء.

قال كوخ لتلميذيه الأقدمين لفلا وجفكي: (إني لا أجد هذه العصي الزرقاء إلا في الرجل أو في الحيوان المسلولين. ولقد نظرت كما تعلمون في مئات من الحيوانات الصحيحة فلم أجد لهذه العصي أثراً).

فقال صاحباه: (ومعنى هذا يا سيدنا الدكتور أنك وجدت البشلة التي هي أصل هذا الداء).

فيقول كوخ: (لا. لا. للساعة لم يتم الأمر. . . إن الذي أتيته قد يقنع بستور، أما أنا فلم أقتنع بعد، فلا بد لي من استخراج هذه البشلات من أجسام هذه الميتات، ولا بد لي بعد ذلكمن زرعها في فالوذج حساء اللحم الذي كنا اصطنعناه. . . (لا بد من الحصول علة زريعات خالصه من هذه البشلات من أجسام هذه الميتات، ثم لا بد لي بعد نسل عدة اشهر، بعيدة عن كل مخلوق حي. ثم بعد ذلك أحقن النسل الأخير الخالص في حيوانات سليمة، فاذا جاءها السل. . . .) وعندئذ انبسطت أسارير كوخ وعلت فمه ابتسامة قصيرة. وعاد لفلار وجفكي إلى أبحاثهما، وفي قلبيهما روعة المعجب خجلة المتسرع الذي يجني النتائج فجة غير ناضجة.

ورسم كوخ في رآسة كل الصور الممكنة لزرع خذا المكروب وبدأ بزرعه على فالوذج حساء البقر. وصنع عشرات من مختلف الأحسية، وصبها في أنابيب وقنيناته ووضعها في درجات من الحرارة مختلفة؛ فبعضها في درجة حرارة غرفته، وبعضها في درجة حرارة جسم الإنسان السليم، وبعضها الآخر في درجة جسم الإنسان المحموم. وأتى ببشلاته من رئات خنازير غينيه فجاءت حالص من كل مكروب ضال يخشة منه أن يكاثرها وهي دقيقة فيسج عليها مسالكها. وزرع هذه البشلات النقية في مئات الأنابيب والقناني، ولكنه خرج من كل هذا - بالخيبة! فهذه البشلات الدقائق التي تتكاثر في أجسام حيواناته تكاثراً سريعاً ذريعاً، هذه البشلات التي تناسلت في أجسام المرضى من بني الإنسان حتى بلغت الملايين، هذه البشلات رفعت أنوفها - على فرض إن لها أنوفاً - عن طعام كوخ اشمئزازاً من احسائه وفواليذهذات يوم خطر لكوخ خاطر فيسبب إخفاقه قال: (إن بشلات السل لا تنمو إلا في أجسام حية، فلعلها آذن تتطفل على هذه الأجسام، وعلى إذن أن أجهز لها طعاماً أقرب ما يكون إلى مادة جسم الحيوان).

هكذا اكتشف كوخ طعامه الشهير - فالوذ مصل الدم اكتشفه طعاماً لكل مكروب أرستقراطي مترف يعاف طعام السوق ' طعاماً لكل مكروب أرستقراطي مترف يعاف طعام السوقة من المكروبات، وذهب إلى القصابين وجاء منهم بدم طازج من أبقار قتلت لوقتها، فلما أنجمد وتجبن، شققه، فسال منه عصير زلالي يضرب إلى صفرة التبن. ثم سخن هذا المصل بمقدار يقتل ما سقط فيه من مكروبات الهواء الضالة، ثم صبه على حذر في عشرات من أنابيب اختبار ضيقة، أمالها في مواضعها إمالة كبيرة ليتسع سطح المصل الذي بها، فعلى هذا السطح سيبسط مادة المكروب. ثم سخن الأنابيب وهي على ميلانها تسخيناً يكفيلانعقاد مصلها وتحوله إلى مزاج فالوذي جامد جميل في روقانه.

ومات في صباح هذا الغد خنزير غيني خرمه السل تخريماً، فشرحه واستخرج منه درنة أو درنتين، نشرهما بعود من البلاتين على سطح فالوذ المصل وهو ندى، وانتقل منأنبوبة إلى أخرى حتى لقح الجميع. ثم استنشق نفساً كبيراً، ثم زفر زفرة طويلة فكأنما نفض فيها الهم الذي ملأه في هذه العسلية الدقيقة وقد نجحت بعد خشية الزلل، وقام كوخ فأخذ الأنابيب فوضعها في مدفأ درجة حرارته تعدل تماماً تلك التي في جسم الخنزير الغيني ومضت أيام ذهب كوخ فيها كل صباح إلى هذا الفرخ الدافئ، ورفع أنابيبه إلى نظارته في إطارها الذهبي، وحدق فيها وحملق، ولكنه لم ير شيئاً. قال كوخ: (هذه خيبة أخرى! كل المكروبات التي زرعتها تكاثرت في يومين، وهذا هو اليوم الرابع عشر، فما لهذا المكروب التعس لا يتكاثر أبداً. . .) لو أن رجلاً غير كوخ صادف ما صادفه من الخيبات لكب أنابيبه وسكب مصله، ورجع عما قصد إليه. أما كوخ طبيب القرية الأشوع، فله شيطان يحفزه ويغريه، فقام عندئذ يوسوس إليه من وراء عاتقه: (صيراً سيدي صبراً. أنسيت أن جرثومة السل بطيئة تستغرق في قتل الرجال الأشهر والسنين. فلعلها أذن بطيئة كذلك في تكاثرها في مصل أنابيبك) فأستمع كوخ لشيطانه، فلم يرم بأنابيبه وأمصاله، واستمهلها لليوم الخامس عشر. فلما كان صباحه نزل إلى مفرخة فوجد الفالوذج المصل قد تبعثرت على سطحه الناعم حبات صغيرة لامعة. فمد كوخ يده في لهفة إلى جيبه يستخرج منه عدسته وألصقها بعينه وأخذ يحدق في الأنابيب أنبوبة أنبوبة، فلما كبرت هذه الحبات في عينه تراءت قشوراً جافة صغيرة فأمسك كوخ وهو ذاهل بإحدى الأنبوبات، فنزع عنها سداد القطن الذي يسدها، ووضع فاها وهو غائب الفكر في اللهب الأزرق لمصباح بنسن ليعقمه، وأدخل فيها عوداً من البلاتين فلقط على طرفه حبة من تلك الحبات التي ظهرت على الفالوذج المصل، وهو يكاد يوقن أنها مكروبات. فوضعها تحت مكرسكوبه، وهو لا يكاد يدري ما وضع، ونظر فعلم أن البحث تجري طريقه شاقه في صحراء لفاحة جرداء، لا زرع فيها ولا ماء، ولكن المسافر فيها يأتي الفينة بعد الفينة على واحة ظلها وارف، ونبعها بارد، وثمرها وفير مستطاب، نظر فعلم أنه هبط بعد الجهد والجلد على واحة من تلك الواحات، أفليست ملايين المكروبات هذه التي تكشف لبصره الآن هي عينها تلك البشلات الحنواء التي رآها في رئة ذلك العامل المسلول زمناً مضى، وتراءت له لا حراك بها، ولكنها حية بدليل تكاثرها، وتراءت له دقيقة صغيرة، رقيقة المزاج، أنيقة المطعم، سريعة الرغبة عما لا ترضاه منه، ولكنها مع هذا كبيرة النهم شديدة الفتك مخربة هدامة، أكثر تخريباً من غزاة التتر، وآكد في الموت من الحيات والأفاعي.

(يتبع)

احمد زكي