مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب الشرقي

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1933



من الأدب التركي الحديث

بين صديقين

من ريف الأناضول إلى خمائل الأستانة

للكاتب الاجتماعي يعقوب قدري

من يدري مدى الحيرة التي تنتابك والدهشة التي تستولي عليك حينما يقع بصرك على إمضائي في آخر هذه الرسالة؟

فقد انقضت أعوام وأنا لم اكتب حرفا وأنت لم تخط إلي سطرا. ولا ريب انك ستجد في صوتي الذي اخترق حجاب هذا الصمت الطويل رجعا لصدى غريب من أصداء ما وراء الطبيعة. وهل أنا (والحق يقال) إلاّ رجل يخاطبك من وراء الطبيعة ويناديك؟؟

ان هذه الحرب الطاحنة والفوضى الجارفة قد بدّلتا كل شيء؛ حتى اصبح كل من خرج منهما سالما ذا أنباء وأخبار كأنما هو بأسرار القيامة عالِمْ وعلى أدوار ما قبل التاريخ واقف.

ان هذه السنين الخمس من أعمارنا مملوءة بحوادث خمسة عصور، فالأشياء التي كنا نعلمها والملامح التي كنا نعهدها قد أصبحت غريبة عنا ليس بها من عهد. وأنا اليوم لا أجد في نفسي القدرة على أن أتتذكر أيام الصبا التي كنا نقضيها مجتمعين والكتب التي كنا نقرؤها مشتركين والأعمال التي كنا نقوم بها متعاضدين والخيالات التي كنا نبني عليها سعادتنا متفائلين، وكل ما أستطيع أن أتذكره أننا لم نكن في تلك الأيام أسعد بالا ولا أحسن حالاً منا في هذه الأيام.

وأنا أريد ان أوضح لنفسي هذا بنفسي فلا أوفق، فيخيل إلى الآن إنني كنت بإنشاد الشعر مشغوفا، وانك كنت بالرسم مفتوناً، ففي السنة الأولى من عهد الانقلاب كنت أنا في عالم الآداب شاعرا معروفا بعض المعرفة، وكنت أنت في عالم الصناعة النفيسة رساما مشهورا بعض الشهرة وأننا كنا اكثر رفاقنا اهتماما للملبس واكتراثا للمسكن واحتفالاً بالمأكل: فكنا نقضي أيامنا بالذهاب إلى المآدب الفاخرة او بالسعي في ترتيب الملاهي الساهرة.

على أنني أتذكر ان شهرتنا الصغيرة وثروتنا التي كانت تمهد لنا السبيل إلى رغباتنا والإعجاب الشديد الذي كان يظهره رفاقنا بنا، كل ذلك لم يكن ليروي ظمأ نفوسنا الصادية، ولا ليطفئ حرارة قلوبنا المتأججة. وكنا إذا ما انفردنا بأنفسنا نتشاكى ما يجول في خواطرنا من رغبات، وما يختلج في ضمائرنا من نزعات: فلطالما كنا نحتقر محيطنا وبيئتنا، ونشمئز من عالمنا وإقليمنا، فكانت ضالتنا المنشودة، أوربا. . . .

وكنا حين نسير في الشوارع، إذا تطاير إلى أثوابنا الوحل، أو تناثر على أحذيتنا الغبار، اشمأزت نفوسنا، واكفهرت وجوهنا، وزفرنا زفرة وصحنا: (هل يستطيع الإنسان ان يعيش في هذه البلاد؟!)

وأخيراً ذهبت أنت إلى روما، وأنا إلى باريس. ولكن يخيل إليّ ان تلك الرسائل التي كنت ترسلها إلي من روما، وأرسلها اليك من باريس، كانت مملوءة بنفس الشكاوي، مغمورة بعين الأحزان. فكنت تقول: (ان مظاهر الصنعة الباهرة، ومشاهد الفن الساحرة، لا تكفي لترويح روحي المعذبة، وتسكين نفسي المضطربة، وبالرغم من وجودي بين الجدران، وتحت السقوف التي زيَّنها (ميخائيل آنجلو) و (رفائيل) بريشتهما البديعة، فإنني منقبض النفس ولهان، مشرَّد الفكر حيّْران وان ذلك السجين الذي يحبس في الأقبية الضيقة ذات الهواء الفاسد، والحلك الدامس، لا يعرف معنى القسوة والشدة، مثلما أعرف فما الذي أريد، وعما أبحث؟. . .)

هكذا كنت تقول، وكنت أجيبك: (أجدني في هذه المدينة الكبرى وحيدا، أرجو السلوان فلا أجده، والتمس العزاء فلا ألقاه. فمن أنا بين هذه الجموع الغفيرة، ومن يدري بي؟ فان الجنون والخبال كادا يخالطاني لولا كتبي التي كانت تعيد إلى نفسي الأمل والتفاؤل بين الفينة والفينة!)

لم يمضِ زمن طويل حتى عدنا أدراجنا إلى الأستانة، فكنت أنت قد سئمت الرسم، وكنت أنا قد تركت الشعر.

فكنت أقول: (قد قيل كل شيء، وشعر بكل شيء، فما الفائدة من ترديد الأقوال التي مجتها الاذواق، وتكرير الاحساسات التي نفرت منها الأسماع؟؟)

وكنت تقول: (ما الذي يرسمه الإنسان ويصنعه، بعد ان رأى جدران كنيسة (سيكستين) المزخرفة البديعة وسقوفها الملونة الجميلة؟ فيجدر بالرسام اما ان يكون فناناً كأنجلو، واما ان يترك الرسم لأهله).

وكانت الحياة تمتد أمامنا وتنبسط، ونحن نسير يمنة ويسرة كالتائه في البادية القفراء التي لا حد لها ولا نهاية.

فكنا في وطننا وبلدنا، وبين أخداننا وخلاننا، مهذارين لا عمل لنا ولا شغل، نطوف الشوارع حيارى، ونجول في الأزقة كسالى. وكنت كلما استيقظ من النوم افتح عيني وأنا في سريري وأقول: (يا إلاهي! كيف أقضي هذا اليوم أيضاً؟!) وأئنُّ أنيناً شجيَّا كأن بين جنبي داء مبرحاً وفي أحشائي ناراً ملتهبة، وهكذا كنت أضيق بالحياة ذرعاً، واسخط على العالم كرهاً، وبينا أفكر ذات صباح في عثار جدي، إذ خطر ببالي خاطر لم أفكر فيه من قبل: ذلك هو خاطر الذهاب إلى مزرعة أبي، لعل الهم يسري عني قليلاً، والغم يهجرني ملياً.

فكنت تضحك مني يا أخي، وأنا أفارق الأستانة ضحكا مشوبا بالألم، وممزوجا بالحنان وتقول: (الحياة الريفية في الأناضول؟. . . ان ذلك لبعيد عنك؛ وسوف نرى!!)

ها قد مضت ستة أعوام: أنا هنا! ولا أكذبك إنني تألَّمت في أوائل قدومي، فساورني الهم والشجن واستولى عليَّ الغم والحزن؛ ولكني باعدت عن نفسي تلك الهموم، وشمرت عن ساعد الجد وأخذت أسعى وأتعب، بعد ان سئمت الحياة المدنية المتكلفة، وضجرت من العيشة البلدية المتصنعة فملت إلى الأرض أفلحها، وإلى الحيوانات أخدمها، وإلى الزروع أتعهدها. ولم تمضِ سنة واحدة على مجيئي حتى حوَّلت ذلك البناء الصغير إلى قصر كبير، وتلك البحيرة الكدرة الآسنة التي كانت للجواميس مقيلاً، وللخيول مشربا، إلى بحيرة صافية الماء، طيبة الرائحة. وكان يخترق المزرعة جدول أجرد ليس على ضفتيه نبات ولا شجر فأصلحت مجراه وغرست على جانبيه أشجار الصنوبر، فغدا اليوم روضة ذات منظر يملأ العين، ويبهج القلب. وان تلك الأراضي الواسعة الجرداء، والبراري الشاسعة القفراء، قد استرجعت حيويتها بفضل السماد والعناء، فأخذت تدر علينا الحب الكثير، والرزق الوفير.

واما أنا يا أخي! فرئيس (أغا) قرية، تراني وأنا أجول في الأراضي، وأطوف في البراري ممتطياً صهوة جوادي، قابضا على سوطي، محمر الخدين، مخشوشن اليدين، قد أكسبني العمل قوة العضلات، ووهبني الجهد حدة النظرات.

نعم! ان مسعاي قد أصابه اثناء الحرب بعض الإخفاق، ومزرعتي قد امتدت إليها يد الإملاق، وذلك لتلبية الشبان داعي الدفاع عن الوطن، وكان يجدر بي أنا أيضا الذهاب حيثما ذهبوا والتوجه أينما توجهوا، ولكن الأرض لم تدعني أذهب، ولم تتركني أجيب. ففضلت البقاء بين الأطفال والنساء أسعى لسد عوزهم وقضاء حاجتهم.

وأنا يا أخي ما كتبت اليك هذه الرسالة الا لتعرف ان السعادة قد توجد في الأماكن التي لا تخطر على البال، والمواضع التي ليست بذات جمال، ولتعلم انها لا تتوافر بالشهرة ولا الثروة ولا بالسفاهة والعزلة، وإنما تتوفر بالعمل المنتج في الارياف، والسعي المتواصل في المزارع.

فانك إذا كنت لا تزال في ذلك المكان المظلم الضيق الذي تركتك فيه، فاسمح لي أن أقول ان كل جهد تبذله فيما لا يثمر ضلالة عمياء تبعث القلق والندم، وكل سعي تقدمه فيما لا ينتج جهالة صماء توجب الخيبة والخذلان.

سورية. الريحانية. عمر لبسروق