مجلة الرسالة/العدد 13/لغو الصيف

مجلة الرسالة/العدد 13/لغو الصيف

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 07 - 1933



للدكتور طه حسين

(2)

من هنا، يا أستاذ من هنا! وأذن لي في أن أسعى بين يديك فلا بد لك من دليل. ثم سعت أمامه رشيقة أنيقة في طريق طويلة جميلة، يحفّها من جانبيها الشجر والزهر، وفيها قليل من ضيق، وشيء من التواء. وقد استمتعت الأشجار القائمة على جانبيها بشيء من الحرية عظيم لا يستمتع به الناس في هذه الأيام، فمدت أغصانها كما شاءت في غير نظام، حتى اختلط بعضها ببعض والتف بعضها ببعض. وجعلت الآنسة تسعى أمامي رشيقة رفيقة، وتجدُّ في التفريق بين هذه الأغصان الملتفّة المتعانقة لتشقّ طريقها وطريق صاحبها، وكأنها كانت تجد في ذلك شيئاً من العسر اللذيذ، فكانت تحاول أن تعتذر بهذه الجُمل السهلة اليسيرة الفارغة التي تقال في مثل هذه الحال: ليست الطريق سهلة هنا، يجب أن تحتاط، وما رأيك في هذه الأغصان التي تريد أن تداعبنا وإن لم نطلب إليها المداعبة؟ حقاً لقد أسرفنا في إهمال هذه الأشجار فأسرفت في الانتفاع بحريتها. وكان صاحبها يجيب على هذه الجمل بضحك فارغ لا يدلُّ على شيء إلا على أنه لم يكن يجد ما يقول. لأنه لم يكن يسمع لهذه الجمل التي تلقى إلا بإحدى أذنيه. وقد كانت نفسه كلها مفتونة بهذه الطبيعة الحرة المطلقة، وبما بينها وبين حياة الناس في هذه الأيام من تناقض واختلاف. ولعله كان يُعجبْ بهذا القوام المعتدل الذي كان يسعى أمامه في رفق، ويجاهد هذه الأغصان في لباقة وظرف، ولكنه كان يخفي حتى على نفسه هذا الإعجاب الذي لو أحسّتْه صاحبته لضاقت به ضيقاً شديداً. حتى إذا طال سعيهما في هذه الطريق الخفيّة الملتوية انتهيا إلى رقعة واسعة رحبة من الأرض، وقد فرشت ببساط ناعم كثيف من العشب، وانتثرت فيها قطع بديعة من الزهر، قد نسِّقت أحسن تنسيق وأجمله، وقامت في وسطها مائدة قد نثرت عليها أوراق الورد في كثرة تلفت النظر. فلما انتهيا إلى هذا المكان الهادئ الباسم الجميل، أرسلت من صدرها زفرة ضاحكة وهي تقول: لقد انتهى الجهد وآن للمتعب أن يستريح، اجلس يا سيدي فهنا يحسن الحديث فيما أظن. قال: بل هنا يحسن الاستماع. قالت: الاستماع لمن! الاستماع لماذا؟ قال: الاستماع لك والاستماع لهذا الصمت الناطق من حولنا.

قالت: دع عنك الاستماع لي فما أحسب إلا أنك قد سئمته، أو ستسأمه، وما أحسب إلا أنك قد زهدت فيه أو ستزهد فيه حين يستأنف بيننا الحوار، فيستأنف بيننا الحوار من غير شك، ولكن حدِّثني عن الاستماع للصمت كيف يكون؟ وحدثني عن الصمت كيف ينطق أو كيف يصدر عنه الكلام؟ وكأنا في أثناء هذا الحديث قد أخذا مكانهما إلى المائدة وجهاً لوجه. وكان صاحبها حائر النظر بعض الشيء يردده بين السماء والأرض، ويردده بين قطع الزهر المنتثرة من حوله وبين آنية الزهر القائمة على المائدة، وبين أوراق الورد المنثورة بين يديه. قالت: ألست قد زعمت لي منذ أيام أنك تحب لثم الورد وشم القرنفل فهذا هو الورد تستطيع أن تمتع نفسك به كيف أحببت، أنظر إليه مختلفاً ألوانه مستوياً على سوقه، بعضه قد هام بالحياة والضوء فانبسط لهما انبساطاً وأخذ يلتهمهما التهاما، وبعضه قد أحبهما، ولكنه يسمو إليهما في استحياء فيتفتح لهما قليلا قليلا، وبعضه يحسّهما وينعم بهما ولكنه لا يكاد يشعر بهذا الحس وهذا النعيم، فهو أكمام لم تتفتح بعد. وانظر إليه أسيراً في هذه الآنية لم يبق فيه من الحياة إلا ذماء يسير يمسكه عليه هذا الماء الذي تحتويه الآنية. وانظر إليه صريعاً قد فقد الحياة وتفرقت أوراقه، وانتثرت بين يديك غضة، ولكنها تسرع إلى الذبول أو يسرع إليها الذبول.

وهذه زهرات من قرنفل قد هُيِّئتْ لك وفرقت في آنية الورد تبعث إليك عرفها هادئا قويا. فماذا تريد فوق هذا؟ قال: لا أريد إلا أن تمضي في هذا الحديث الذي أخذت فيه منذ الآن، فإني لا أعرف ترجمة عن هذا الصمت الذي كنت أريد أن اسمع له أبْلغْ من هذه الألفاظ التي ينثرها حديثك العذب. قالت: وما زلت مشغوفاً بالعبث لا تفرغ منه إلا لتعود إليه. لقد أنبأتني عن حبك للورد والقرنفل، فها أنت ذا بين الورد والقرنفل، فحدثني أنت بحديثهما فأنت أعلم به وأقدر عليه مني. قال: ما أعرف يا آنسة أن لهما حديثاً يحكى، فان كان لهما حديث فما أعرف أن أحداًيستطيع أن يحكيه غيرهما فاستمعي لهما إن شئت، وغيركِ فاسمعيني حديثهما إن شيءتِ، فإنما أنت زهرة بين الزهر.

قالت: كأنك تريد أن تحفظني. فاعلم أنك لن تبلغ ما تريد، ولن تثير حفيظتي، ولن تصرفني عما أزمعتُ من أن أسمع منك حديث الورد والقرنفل. فلا تلتوِ به فلن ينفعك الالتواء. وأقبلت خادم تسعى وهي تحمل صينية عليها إبريق وأكواب. فوضعت إبريقها، وصفّت أكوابها، وانصرفت متثاقلة. وكانت عجوزاً شمطاء قد انحنت قامتها، وأسرف الذبول في وجهها، فلم تكد تبقى فيه قطرة من حياة. وكان منظرها في هذا الفناء مناقضاً أشد المناقضة لما يحيط بها من هذه الحياة القوية، فهمّ أن يتكلّم، ولكن صاحبته قالت وقد فهمت عنه ما كان يريد: ومع ذلك فهي أنشط منك للحياة، وأحرص منك على نعيمها ولذّاتها، لا يفوتها موسم، ولا يفلت منها عيد، ولا تقصَّر عن فرصة إن سنحت لها لتشترك فيما يراه الناس سعادة ونعيماً أو لهواً وصفواً. وهي بعد هذا كله صماء مغرقة في الصمم تستطيع أن تتحدث إليها وتصيح بها فلن تسمع لك ولن تفهم عنك. وهي بعد هذا وذاك قد نيَّفت على الستين، ولكن هات حديث الورد والقرنفل. ثم عمدت إلى الإبريق فملأت منه قدحين وهي تقول: لقد أنسيت، فهذا يوم الورد تستطيع أن تراه وأن تشمه، وأن تلمسه، وأن تلثمه، وأن تشربه أيضاً. فليس في هذا القدح بين يديك إلا ماء الورد.

والآن تحدث، فقد يحسن الحديث. قال: أيّ حديث يحسن في مصر وما أعرف بلداً أفضح لسر الحديث، وأكلف بنشره وإذاعته من هذا البلد. أتذكرين؟ قالت: وكيف لا أذكر؟ إنك تشير إلى مجلسنا ذاك على شاطئ النيل، وإلى حديثنا هناك عن شيوخ الأدب وشبابه. فقد نشر هذا الحديث في الرسالة. قال: ومع ذلك فلم يكن في مجلسنا ولا قريباً منه أحد. قالت: ولست أنت قد ألقيته إلى من أذاعه، هذا شيء لا شك فيه. قال: ولا أنت، هذا شيء لم يخطر لي. قالت: وإذن؟ قال: وإذن فهو طائر من هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا كان الأصيل ودنا الليل فتسمع حديث الناس وتعيه، وتلقيه في روع الكتّاب والشعراء. أو هو جنيُّ من هذه الجن التي تألف شاطئ النيل فتقيم في ظل الأشجار التي تقوم عليه، أو تسكن تحت هذا الماء الذي يجري فيه، وتسمع أحاديث الناس والأشياء وتعيها فتنقلها إلى الكتاب والشعراء وتنطق بها ألسنتهم، وتجري بها أقلامهم. ولهذا لست مسرفاً في حب الحديث، وفي حب الحديث عن هؤلاء الذين لا يحبون أن يتحدث الناس عنهم إلا بما يريدون لا بما يريد الناس. قالت: من الظواهر التي لا تحتاج ملاحظتها إلى دقة ولا إلى ذكاء أن مصر مفشية للسر، قليلة الحرص على الكتمان. أنظر إلى بيئاتها المختلفة، فلن ترى لها سراً. أحاديث ساستها وقادتها وأدبائها وأصحاب الأعمال فيها ذائعة شائعة يعرفها الناس جميعاً ويتناقلها الناس جميعاً. ومصدر هذا في أكبر الظن أن طبيعة مصر نفسها صافية واضحة، مسرفة في الصفاء والوضوح، سماؤها صحو دائماً، لا يتكاثف فيها الغمام، ولا يتراكم فيها السحاب، وأرضها مبسوطة هينة لا ترتفع فيها الجبال الشاهقة، ولا تنتثر فيها الكهوف والأغوار، ولا تنبت فيها الغابات الكثيفة الملتفّة، فأمرها كله ظاهر، وحديثها كله شائع، وشمسها المشرقة دائماً لا تؤتمن على سر مصون. على أننا لم نقل في حديثنا ذاك شيئاً يسوء الأدباء أو يغضب أحداً، فليس من إذاعته بأس وإن كنت لا أحب ذلك، ولا أرتاح إليه، ولا أخفي عليك أني إنما أثرت أن يكون اجتماعنا الليلة عندي لأني واثقة أن لنا من العزلة ما نحب، وبأن أحداً لن يستطيع أن يندسّ لنا، أو يتسمّع علينا. قالت: إلا هذه الطير التي تؤوي إلى الأغصان إذا أقبل الأصيل ودنا الليل، وإلا هذه الجن التي تستظل بالأشجار وتتضاءل أحيانا حتى تتخذ لنفسها منازل في ثنايا العشب وبين أوراق الأزهار. في هذه الطير، وفي هذه الجن، وفيما يحيط بنا من الزهر والشجر من يسمع لنا وينمّ بما نتساقى من ماء الورد، وما يجري بيننا من لغوِ الحديث، قالت: وأيُّ بأس بأن يذاع ما يجري بيننا من لغو الحديث؟ إنما يكره الناس جد الحديث ويخافونه، فأما لغو الحديث فالناس مزدرون له، أو راغبون فيه. قال: وهل تظنين أنا نستطيع أن نأخذ بالجد حين نعرض للحديث عن الأدب والأدباء في مصر؟ وأين تجدين الجد في حياة الأدب والأدباء؟ أتجدينه في هذا الحوار الذي يطول ويطول حتى يثقل ويمل حول ألفاظ وقعت في كتاب، أو حول رأي رآه ناقد في كتاب، أو حول حديث كان بين كاتبين، أو مناظرة يسيرة كانت بين أديبين؟ أليس هذا كله دليلاً على فراغ البال واحتياج الأدباء إلى ما يشغلون به أنفسهم عن هذه الأحاديث الطوال الثقال التي تضيّع الوقت، وتفني الجهد دون أن تنفع أو تفيد؟ قالت: هذا حق ولكن الأدباء أصحاب كلام وما داموا يتكلمون فهم يؤدون حق الناس عليهم فالناس لا ينتظرون منهم إلا أن يكتبوا لهم ما يقرؤون. قال: لا كل ما يقرؤون بل ما ينتفعون به إذا قرؤوه. قالت: هنا نختلف فقد ينبغي أن نتفق أولاً على معنى الانتفاع بما يقرأ أنت تريد إذا قرأت كتابا أو فصلا أن تفيد شيئا جديدا أو أن تضيف علما إلى علم وأن تنمي حظك من الثقافة أو أن يثير ما تقرأه في نفسك عاطفة أو لونا من ألوان الشعور وأنت لا ترضى من القراءة دون هذا.

فأنت عسير ليست السبيل إلى إرضائك سهلة ولا ويسيرة. وأنت لذلك تلتمس قراءتك عند قليل جدا من أدباء الشرق وعند عدد غير كثير من أدباء الغرب. ولكنك تخطيء كل الخطأ حين تزعم أن القراء جميعا يطلبون إلى الكتّاب مثل ما تطلب إليهم. ولو قد فعلوا لكان الأدباء شر الناس حالاً وأدناهم إلى العجز والإفلاس. أنت وأمثالك تشقون على الأدباء فيما تطلبون ولكني أنا وأمثالي لا نطلب إليهم كل هذا أو لا نطلبه إليهم في كل وقت، فنحن نحب أن ننتفع إذا قرأنا ولكنا نكتفي من القراءة بما دون ذلك. نريد منها أن تلهينا إذا ركبنا الترام أو القطار وان تعيننا على إنفاق الوقت إذا لم يمكنا نشاطنا من العمل وان تدعو إلينا النوم إذا أبطأ علينا. ولا تغضب أن زعمت لك إننا قد نضيق بالقراءة الخصبة الغنية ونؤثر عليها هذه القراءة السهلة الفارغة التي لا تنفع ولا تضر ولكنها تعين على إنفاق الحياة. وأنت تستطيع أن تنكر على أدبائنا ما شئت ولكنك لن تستطيع فيما اعتقد أن تنكر عليهم انهم يكتبون لنا من الكتب وينشرون لنا من الفصول ويثيرون بيننا من ألوان الخصومة والحوار ما يمكننا من أن نركب الترام والقطار ومن أن نقرأ إذا أجهدنا العمل ومن أن نتعجل النوم إذا طال انتظارنا له. وأنت تظن أن هذا قليل وأؤكد لك أن هذا كثير فليس الأمر ذو الخطر في الحياة هو أن نتعلم ونثقف أنفسنا وإنما الأمر ذو الخطر حقاً هو أن نحتمل الحياة وأدباؤنا يعينوننا على احتمال الحياة حقا بما يكتبون ويذيعون. قال: قد يكون هذا حقا ولكنه مؤلم ثم سكت وأطال السكوت. وسكتت هي فأطالت السكوت. ثم مد يده إلى قدحه فاستنفد ما كان فيه من ماء الورد. وأراد أن يعود إلى صمته ولكنها سألته باسمة: فيم هذا الصمت الطويل! أمستمع أنت لحديث الزهر؟ أم مشفق أنت من الطير والجن أن تنم عليك بما تقول؟ هنالك ابتسم ابتسامة شديدة المرارة وقال في صوت حزين: كلا لست استمع للزهر ولا أخاف الطير والجن وإنما أستمع لنفسي وأخافها. فهل تعلمين أنك قد بغضت إليّ الكتابة والإنتاج الأدبي منذ اليوم. قالت وهي مغرقة في الضحك: أنا! ولماذا؟ قال: من يدري؟ لعلي لا أكتب ولا أنشر إلا لأعين القراء على أن يركبوا الترام والقطار وينفقوا الوقت إذا أضناهم العمل ويتعجلوا النوم إذا أبطأ عليهم النوم. قالت: لم أقل هذا وهبني قلته أليس كذلك يكفيك أن تكون عوناً لقرائك على احتمال الحياة؟ قال: لا. قالت: انك لواسع الطمع عظيم الكبرياء. ثم مدت يدها إلى أناء من آنية الزهر فأخذت منها قرنفلة وضعتها في صدره ووردة أدنتها من فمه. وقالت: لتلتمس عزاءك عند هذه الوردة وهذه القرنفلة فما أرى إلا انهما قادرتان على هذا العزاء. ولكنك مخطئ أن ظننت انك قد أنسيتني بهذا الحديث قصة الورد والقرنفل فما زلت أذكرها وأنتظرها. فتحدث. قال: إنها يا آنسة قصة طويلة وليس هذا وقت البدء فيها. فإذا عدت من رحلتك السعيدة إلى أوروبا فسأحدثك بها، وأنا زعيم بأنك ستجدين في الاستماع لها لذة ورضى.