مجلة الرسالة/العدد 130/السنيون والشيعة والمؤتمر

مجلة الرسالة/العدد 130/السنيون والشيعة والمؤتمر

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 12 - 1935



للأستاذ محمد رضا المظفر

لأول وهلة بدا لي أن أنسحب بعد مقال الأستاذ (أحمد أمين) المنشور في (عدد الرسالة 121)، ولا أدخل في هذا الموضوع من جديد، لأنه قرر أخيراً: (أنه سوف لا يرد على من يتخذ بعض ما جاء في مقالته وسيلة الأثارة النزاع من جديد إلا أن يفتح صاحبها مجالا للكلام في مشروع المؤتمر أو وسائل الوفاق) فخشيت أن أكون عند الناس أو عند نفسي (وهي لا تحب لي الرذيلة) ممن يتحبّب النزاع أو يسعى لتعكير صفو الأخوة التي ظهرت بشائرها في العالم الإسلامي، ولهذا - أو لشيء آخر لا أدري - وُضع هذا التقرير الصريح

ومن جهة أخرى، تخوّفت أن يكون حديثي هذا من (لغو الصيف) وإن كنا نستقبل الشتاء، فلا أجاب عليه بعد ذلك التقرير؛ وليست فكرة المؤتمر - وبالأصح حلم المؤتمر - تلك الفكرة الناضجة والحلم الصادق فيما أعتقد (وسأعود إليها)، حتى أستنزل بعلاجها طرف الأستاذ لميدان هذا الموضوع

كل ذلك دار في خلدي، وأكثر من ذلك صرفني عن كل هذا الحديث، حتى يمضي عليّ هذا الزمان، وأخيراً أتراجع إلى طوية نفسي فأجدها جد مؤمنة بوجوب السعي لتحقيق فكرة الاتفاق، وتوحيد كلمة المسلمين، مهما اختلفت وجهة النظر مع الأستاذ أو مع غيره، وهنا فليقرر الأستاذ ما يشاء؛ وليقل الناس ما يحبون!

ولعل الرسالة تفتح صدرها الرحب لكاتب يقف للفرص يتتبعها، لإزالة ما قد يسيء للاتفاق بين الطائفتين، ويشهد حديث كتابها أو غيرهم عن كثب، حتى لا يتكلموا عن الشيعة كأمة غائبة في مجاهل المفاوز، لا سمع لها ولا لسان، في حين أن رجال الشيعة تتبع الأحاديث عنها في الصحف والكتب بكل إصغاء، وقد لا تشاء الرد والجواب، كما وقع في العام الماضي في الرسالة بين الأستاذين، عبد الوهاب عزام، وأمين الخولي، في قضية مكة ومشهد الحسين

وكم يضحكني ما يكتب عن الشيعة كأنها من الأمم الخوالي (ولتعرف من الآن أنا لا نفهم من كلمة الشيعة إذا أطلقت غير الأمامية)، فتنسب لها عقائد وآراء لا نعرفها، وكثير من رجالها صامتون كأن الحديث مع غيرهم، ثم يحرقون الأرم من غير طائل، الصحيح هذا التسامح الذي جر ما جر من تباغض وشنآن، وربا على ما خلفه لنا علماء أمس رحمهم الله، وزاد في الطين بلة، وربما تصبح الطريق بعد هذا زلقاً لا تصلح لسير الأقدام إلا بما لا يحمد، كما كان في العصور السالفة؛ وكان من الواجب أن يبادر إلى علاج هذه الناحية قبل فوت أوان العلاج، والحرية الصحافية ضربت أطنابها في البلاد، وخصوصاً في مصر، فأعجب أن يسأل صاحب المقتطف - مثلاً - عن الشيعة، فيجيب عنهم بما يعلم - وهو معذور - ولا يرد عليه واحد منهم وهو لا يأبى عن ذلك، ولا يأبى أن يزيد علمه فيهم. إذن بعد هذا لم لا أتقدم بنفسي لهذا الواجب؟

هذا سؤال وجيه، وعليّ أن أجيب عنه بكل صراحة وإخلاص: كم هناك من مباحث وددت كشف غطاء الحقيقة عنها - لو كنت من أهل ذلك - فأتقدم إلى القرطاس، وأحاول أن أجرد قلمي من لحاء التعقيب لعقيدتي التي نشأت عليها، وغذيتها في لبن التربية، لا أطلب الحقيقة بالبرهان، ولا أكون ممن يتطلب البرهان للعقيدة، ولكن أجد محاولتي الباطلة، فأبحث عن قلمي، فأراه قد تألف من مجموع قشور، وأخيراً لا أجد قلماً أحمله لأكتب به

وهكذا العقائد العامة ليس في وسع أحد أن يتجرد عن تبعتها مهما تخيل أنه سيذهب عنها ناحية، ولا بد أن تنزله لحضيضها، ويرغم على غذائها، فيما يكتب وفيما يعمل، فتتركز عليها أقواله وأفعاله، من حيث يدري ولا يدري؛ وعلم النفس يصدقني - وعلى الأقل لا يكذبني - في هذه الدعوى

ولا أعتقد أن امرءا استطاع أن يحرر نفسه من عقيدته، ما دامت له عقيدة يتمسك بها، أبى الأستاذ أحمد أمين أم لم يأب!

ولكني أرجو أن يوفقنا الله في جهاد سورة النفس في تعصبها، وقمع غلوائها، فيما إذا اعتقدنا بعظم النتيجة وفائدتها للجميع؛ وعسى أن نصيب هدف الحقيقة بعد حين بهذه الحيلة؛ وهذا هو الذي يطمئنني أن أنزل إلى هذا الميدان الوعر المسالك، ومن ورائي جمعية (منتدى النشر) تقبض على ناصيتي

ولقد كانت وجهة نظري القاصر - ولا بد أن تعرفها من حديثي المتقدم ومقالي السابق - أن نفتح لنا باباً للتفاهم في أصل عقائدنا وصحتها - مهما كان في ذلك من الخطورة - فندخل في بحث علمي أو تاريخي، كسائر أبحاثنا العلمية والتاريخية، ونتلقى النتائج بصدر رحب، وذكرت في مقالي السابق: ما هي النقطة التي يجب اتباعها في البحث؟. وذاك هو الذي فهمته أيضاً من كلام الأستاذين محمد بك كرد علي وأحمد أمين في المرة الأولى، وعلى هذه النغمة حسست وتري، ومضيت مطرباً إلى حد بعيد وحقاً (إن البحث العلمي لا يمنع التفاهم والوئام، بل هو إذا نظر إليه النظر الواسع العالي سبب من أسباب الألفة)

إلا أني بعد هذا وجدتك - أيها الأستاذ - تذهب بعيدا وتنتقل مفاجأة إلى حديث عقد مؤتمر بين الطائفتين في العراق، فماذا تقصد من المؤتمر؟ وعلى أي خطة ولأي غاية يجب أن يسير؟ هذا الذي بعد لم أحط به علماً، ونزولاً عند رغبتك أدخل في الموضوع ما انفتح لي بابه:

لا شك أن عقد مؤتمر بين الطائفتين - على أي وجه يكون - لا يمكن التوصل إلى تحقيقه، بمجرد تفكير واحد واقتراح آخر وتأييد ثالث، مهما كان المفكر والمقترح والمؤيد فلابد أن يختمر في العقول بنقد ورد وبدرسه على جميع وجوهه حتى يستقر على فكرة واحدة ووجه واحد، ويعمم صوته الأسماع النائية والقريبة، ويساهم في درسه العالم والسياسي، ويقتنع به ولاة الأمور - ولا بد من اقتناعهم أو إقناعهم - كعمل لا بد منه، ثم تنتهز الفرص للعمل على تحقيقه، ويسعى بإخلاص لتأسيسه، على سنة الارتقاء والتدرج، أو كما قال معالي العلامة الشبيبي

خواطري اليوم أقوالي ومعتقدي ... غَداً وغرّة أعمالي وراء غد

لقد سمعنا بحديث هذا المؤتمر وسعى بعض رجالات الطائفتين لتأسيسه وسمعنا باختلاف التفكير في خططه، كل هذا سمعنا، واتضح لي مما سمعت ومما قرأت أيضاً أنه ما زال أمنية لم تشبع درساً وتدقيقاً؛ وكل عمل كبير مثل هذا لا بد أن يكون كذلك وأكثر. فلنفرض أن المؤتمر انعقد في العراق، واجتمع أعضاؤه لدرس خططهم، فعم يتساءلون؟

يدرسون مذهب الشيعة وأهل السنة - وعلى الأصح مذاهب المسلمين - وأسباب الخلاف بينهم، كأجانب على المذهبين، ثم يتفقون على الصحيح، أو قل على جوهر الإسلام الحقيقي الذي جاء به الرسول عن الله، ويطوحوا بالقشور وبما ألصق بالحنيفة إلصاقا - ولا بد أن يكون هناك لباب وقشور وحق وباطل لا محالة - ليحملوا الأمة الإسلامية جمعاء على الإسلام الصحيح، الذي يفهمه روح الإخلاص والبحث النزيه حلم لذيذ! لو صدقناه لكنا خيرا منه ونعم الخلف الصالح. ولاسترحنا من آلاف الكتب التي ألفت في هذه الشؤون، وجرت على المسلمين الويل والثبور، وأضاعت من أوقات العلماء كل غالٍ ونفيس درساً وتأليفاً، فصرفتهم عن كل عمل ينفع الأمة ويجر إليها المغنم، طيلة هذه القرون

ولكن - بالله عليك - هل رأيت حلماً أكذب من هذا في أضغاث الأحلام، وأمنية أبعد منها في الأماني؟ كيف يتفق أولئك على الصحيح؟ وبماذا يحملون الرأي العام على اعتناقه؟ أبالقوة يعتنق هؤلاء الدين الجديد عندهم؟ أم بالتقليد لأولئك النفر القليل؟ أم بطريق الحجة والإقناع؟ كلا! كل هذا ليس من السهل، أو ليس من المستطاع؛ وإذا جاز أن يقع مثله في أول الدعوة إلى الإسلام من نبينا وأصحابه، فليس من الجائز أن يقع في هذا العصر من مؤتمر يؤلف من علماء الطائفتين المتخالفين في بؤرة الخلاف، وهل يصح أن نكتفي بهم وحدهم أو بالخاصة معهم - لو جاز أن يتفقوا - ونستغني عن اتباع السواد لهم

وأكبر الظن أني تياسرت عن الغرض في تأويلي هذا للمؤتمر المقصود، إذن فعم يبحثون؟

لنتركهم يعملوا لإيجاد عوامل الألفة والصداقة الودية بين الفريقين، ولذبح النعرة الطائفية على أعتاب الأخوة الإسلامية ليدخلوها بسلام آمنين، ولتبق بعد هذا كل طائفة على عقيدتها وأعمالها، كمذاهب أهل السنة فيما بينهم، وكالشيعة لما يختلفون في تقليد مجتهديهم، وهناك تتجلى الكلمة الذهبية الخالدة: (إنما المسلمون إخوة)، وقوله عليه السلام: (المسلمون كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً). وينظر عندئذ للمؤتمر في دعوى من يدعي غمط حقوقه كمحكمة كبرى إسلامية، ويأخذ على الأيدي العابثة من كتاب وغيرهم بالوسائل التي يختطها ويستطيعها

وظني أن هذا المؤتمر هو الذي يرمي إليه إخواننا فيما فكروا وتحدثوا وكتبوا، وهناك ملحوظات يجب ألا نغفل عنها:

هذه الدعوة إلى الاتحاد ونبذ النزعات الطائفية، والتفرقة الشائنة، هي إحدى الأسس القويمة التي بنى عليها الحكم الوطني في العراق - كما ذكرت في مقالي السابق - ورؤساء الطائفتين يومئذ لم يقصروا في توجيه الرأي العام نحو هذه الفكرة الجديدة التي لم يدع لها العهد التركي البائد مجالاً للظهور أو لبذرها في العقول، واستطاعوا في اقصر وقت أن يكهربوا الفكرة العامة بتيارهم، حتى إنك كنت تسمع الهتاف بالوحدة يبلغ عنان السماء في جميع محافلنا ومجالسنا، وكان الرجل يخسأ أن ينبس بكلمة واحدة تشتم منها رائحة الخلاف، وعلى ذلك أعوام - أو أيام - مضت، حتى تغير بعض النفوس، وتبدل كثير من النوايا، ولا ندري لماذا كان؟! وهل يجوز أن نقول لا ندري؟ لا أدري!

واليوم - بحمد الله - تجد الحال كما هي، لم تتبدل تلك الظاهرة المحبوبة؛ ولكنها فقاقيع على الماء من ارتفاع درجة الحرارة، وليست هي كل الماء - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - أو ليس وجودها إلا لتظهر فقط لا لتنفع - كما يقول الأستاذ الرافعي - لأن هذه الظاهرة احتفظت بها السياسة وحدها واكتفت بها، ولم تأخذ بها الأمة عن طريق الرغبة فيها، والاقتناع بضرورتها وثمراتها، في حين أن العودة إليها قد تضاءل نبراسها إلى حد كاد معه ينطفي، وما أدل على هذا من أن السني الداعي إلى الوحدة يصبح متشيعاً في نظر أصحابه، والشيعي الداعي إلى الوحدة يصبح سنياً في دعوى إخوانه، وهذا ذنب كبير عندهم لا يغتفر!

ولذلك يسود الاعتقاد اليوم أن الدعوة الأولى كانت كلها خداعاً في خداع؛ ومن رجالنا من لا يزال مستمسكاً بها إلى اليوم، فينسب إلى غفلة أو سذاجة، وهذا هو الداء الدوي

فإذا أردنا أن نؤلف هذا المؤتمر في العراق، فإنما نريد أن نعيد تلك الكرة لتنفي العزة، وقد لاقت في مبدأ الأمر سوقاً رائجة، ثم كسدت تلك السوق، ويبيع فيها الرأي العام بأبخس ثمن، وبدراهم معدودة؛ ومن الصعب جداً أن نعمل عملاً مجرباً بتشاؤم منه؛ واعتقد أنه سيكبد القائمين مجهوداً كبيراً من هذه الناحية، ويحتاج إلى زمن ليس بالقصير، لتحوير الأفكار ورسوخ العقيدة من جديد، تتخلله الدعاية الواسعة من القادة وذوي العقول المخلصين: وتقريباً للمسافة أجد من الضروري أن تنضج هذه الفكرة خارج العراق أولاً، ثم تدخل العراق لتستطيع أن تهضمها الأفكار بسهولة

ومن المرجح أن هذا المشروع لا يلاقي الفشل بعد تشكيله في هذه المرة إذا كان القائم به مؤتمرا منظما يبنى على أسس متينة ونظم واضحة، وإذا كان مؤسسو المؤتمر يحملون في حقائبهم إخلاصاً صادقاً وعقيدة ثابتة ووطنية صحيحة، والعراق في دور الاستقلال، وما فشل لأول مرة إلا لأنه كان عملاً فوضوياً اندفع إليه المجتمع كسائر إندفاعاته التي لا يقودها العقل والرأي - على حسب قانون المجتمعات - فاستغلته الساسة الوقتية، ثم لعب أهل الأغراض والمطامع ومن خلفهم الاستعمار أدوارهم - وبالطبع يتلاشى هذا الظل بعد حين، متى طلعت الشمس ولا بد أن تطلع -، ولا مؤتمر مسؤول ولا جمعية مخلصة تحاسب الناس على أعمالهم

النجف الأشرف

محمد رضا المظفر