مجلة الرسالة/العدد 130/شعراء الديباجة

مجلة الرسالة/العدد 130/شعراء الديباجة

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 12 - 1935



أدب البارودي وشعره

بمناسبة انقضاء مائة سنة على مولده

للأستاذ أحمد الزين

تتمة

أما شاعرية البارودي فقد قدمت لك أنها صياغة عصورٍ غابرة، ووليدة بيئات منقرضة، إذ لم يسبق بنهضة أدبية نما فيها ذوقه العربي، ولم ينشأ في بيئة عربية ترعرع فيها فنه البياني؛ بل كان هو باعث تلك النهضة بعد أن لم تكن، ومطلع ذلك النور بعد أن خبا، والمجلي في حلبة البيان الذي لم يسبقه أحد قبله وجاء على أثره من بعده، ومكون تلك البيئة بعد أن كانت مصر قبله وفي صدرٍ من عهده ممحلةً من الأدب والأدباء والشعر والشعراء إلا القليل ممن لا يعتد بشعرهم، ولا ينبغي أن تسجل أسماؤهم في الشعراء إلا تسجيلا تاريخياً لمن أراد أن يكتب سجلا جامعاً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها

إلا أن تلك النهضة التي بعثها من مرقدها لم تكن نهضة تجديدية في الأفكار والمعاني؛ وتلك الوثبة التي وثبها لم تكن وثبةً انقلابية في تصوير ما حوله من المشاعر والاحساسات؛ وهذه الخطوة التي خطاها لم تكن خطوة تطويرية في مسايرة روح العصر وتوجيهه إلى ما يريده الشاعر لأمته وبلاده من المثل الأعلى في الآمال والأغراض، بل كانت نهضةً بيانية لا أكثر، متعلقة بجودة العبارات، واختيار الألفاظ، وإحكام النسج، ومتانة التركيب، والجري على مذهب القدماء في الفخامة والجزالة؛ فلا تكاد ترىفي شعره ما يعبر عما حوله من أحاسيس أمته وأوطانه، إلا القليل مما تراه منتثرا في ديوانه؛ وسبب ذلك يرجع إلى أن شاعريته كما قدمت لك من صياغة الكتب والدواوين، وصناعة هؤلاء الشعراء المتقدمين؛ فكان يعيش بشعره في عصرٍ غير عصره، وكان أشبه بالعاشق الموله الذي يجالس القوم بجثمانه، ويكلمهم بلسانه، وهو مع معشوقه وسالب لبه بروحه ووجدانه

وهنا ينبغي أن نشير إلى مخالفتنا لما رآه بعض كتاب النقد في شعر البارودي، فقد قسم الشعر إلى أربعة أقسام، وهي شعر التقليد الضعيف، وشعر التقليد القوي، وشعر الابتك الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية، وشعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية الفردية؛ وذكر أن شعر البارودي في طليعة النوع الثالث، وهو شعر الابتكار الذي يوحيه الشعور بالحرية القومية

وعندي أن شعره لا يعدو من هذه الأنواع الأربعة، وهو شعر التقليد القوي؛ وهذا هو سر شغفه بمحاكاة الفحول من شعراء المتقدمين ومعارضتهم في مشهورات قصائدهم كأبي نواس، والشريف الرضي، وأبي فراس، والبويسيري، وغيرهم؛ وفي رأيي أنه لم يبلغ أحدا من هؤلاء، وإن كان قد قاربهم بعض المقاربة، وذلك لأنه مقلد، والتقليد كما تحدثت إليك من قبل أضعف من الأصل مهما يبالغ المقلد في إحكام المشابهة وإتقان المحاكاة. وإنك لتقرأ القصيدة من شعره فلا توقظ عاطفة من عواطفك، ولا تحرك شجناً من أشجان نفسك، ويخيل لك أنك سمعتهاقبل عدة مرات؛ والحق أنك قد سمعتها، فإن لم تكن قد سمعتها بالفاظها، فقد سمعتها بمعانيها في شعر العباسيين وغيرهم من المتقدمين؛ حتى أن قصائده التي قالها في صفة الحروب وأهوالها، والميادين وأبطالها، وافتخاره بالإقدام إذا حمي الوطيس واشتد الخوف وجاشت نفس الجبان لا تراها تتميز إلا في القليل النادر بمعان جديدة وأفكار مستحدثة عن شعر المتقدمين في صفة ذلك، حتى إنك لو لم تعرف أن قائل هذا الشعر هو البارودي لحسبت أنه شاعر عباسي يصف إحدى غزوات الرشيد أو المأمون في خراسان أو بلاد الروم. وإلا فأي جديد مستحدث يلفت ذهنك إليه، ويجتذب قلبك نحوه، تراه في قوله:

فلا جوَّ إلا سمهريُّ وقاضِبٌ ... ولا أرضَ إلا شَّمري وسابحُ

ترانا بها كالأسد نرصُد غارةً ... يطير بها فنق من الصبح لامحُ

فلست ترى إلا كماةً بواسلا ... وجُردا تخوض الموت وهي ضوابح

نُغير على الأبطال والصبح باسمٌ ... ونأوي إلى الأدغال والليلُ جانح

بكى صاحبي لما رأى الحرب أقبلت ... بأنيابها واليوم أعبر كالح

ولم يك مبكاه لخوف وإنما ... توهم أني في الكريهة طائح

فقال اتئد قبل الصِّيال ولا تكن ... لنفسك حربا إنني لك ناصح

ألم تر معقود الدخان كأنما ... على عاتق الجوزاء منه سرائح وقد نشأت للحرب مُزْنة قَسْطَل ... لها مستَهلٌ بالمنيةِ راشح

فلا رأى إلاُ أن تكون بنجوةٍ ... فأنك مقصود المكانة واضح

فقلت تعلّم إنما هي خُطّة ... يطول بها مجدٌ وتخشى فضائح

فقد يهلك الرِّعديد في عقر داره ... وينجو من الحتف الكَمِيُّ المشابحُ

الخ. . . . . .

وقد كان ينبغي أن يتميز شعره في صفة الحرب عن شعر المتقدمين، ولا يحاكيهم في كثير ولا قليل من معانيهم فيها، وذلك لما باشر من وقائعها، وخاض من غمراتها، وتعرض لمخاوفها، ولما امتلأت به نفسه من حبها، والتمدح بالإسراع إليها، ولِما تميزت به الحروب في عصره عن الحروب في العصور الماضية، واختلفتْ في صُورَها وآلاتها وترتيبها عن الحروب أيام تقسيم الغزاة إلى شاتية وصائفة

ومما يعاب على البارودي ويؤاخذ به قلة شيوع الشعور الوطني والإحساس المصري في شعره، وخلو قصائده إلا في القليل النادر من العاطفة القومية، وإنما استثنيت القليل النادر لما له في ذلك من القصائد اليسيرة التي قالها وهو في منفاه بسرنديب كقوله من قصيدة:

هل من طبيب لداء الحب أو راقي ... يشفي عليلا أخا حزن وإيراق

قد كان أبقى الهوى من مهجتي رمقا ... حتى جرى البين فاستولى على الباقي

وفيها يقول:

يا روضة النيل لا مسّتكِ بائقةٌ ... ولا عدتك سماءٌ ذات إغداق

ولا برحتِ من الأوراق في حلل ... من سندس عبقريّ الوشى برّاق

يا حبّذا نَسَمٌ من جوِّها عَبِقٌ ... يسري على جدول بالماء دفّاق

مَرعَى جيادي ومأوى جيرتي وحِمَى ... قومي ومنبتُ آدابي وأعراقي

أصُبو إليها على بُعد ويعجبني ... أني أعيش بها في ثوب إملاق

وكيف أنسى دياراً قد تركتُ بها ... أهلا كراماً لهم ودّي وإشفاقي

فيا بريد الصَّبا بلغ ذوي رحمي ... أني مقيم على عهدي وميثاقي

وأنت يا طائرا يبكي على فنن ... نفسي فداؤك من ساقٍ على ساق

أذكرتَني ما مضى والشمل مجتمع ... بمصر والحربُ لم تنهض على ساق الخ. . . . . . .

ولعل السر في عدم شيوع ذلك الشعور في شعره وقلة ظهور هذه العاطفة في قصائده يرجع إلى أنه سليل عائلة من الأتراك الذين يرون أن سيادتهم في مصر لا تتم إلا بالترفع عن مخالطة أهلها، وعدم مشاركتهم فيما يشعرون به من آلام وآمال، ويرون أن الاتصال بطبقات الشعب ثلم في غزتهم، وانتقاص من سيادتهم

وإليك طرفاً من قصيدته التي استقبل بها مصر حين عاد من منفاه، قال:

أبابلُ رأىَ العين أم هذه مصر ... فأني أرى فيها عيوناً هي السحر

نواعِسُ أيقظن الهوى بلواحظ ... تدين لها بالفتكة البيض والسمر

فإن يك موسى أبطل السحر مرة ... فذلك عصر المعجزات وذا عصر

بنفسي وإن عزت عليّ ربيبةٌ ... من العين في أجفان مقلتها فترُ

الخ. . . . . . . . . .

فأنت ترى أنه لم يزد في استقبال وطنه على ذكر ما فيه من الجمال النسوي الشائع بين جميع الأمم، والمشترك بين مختلف الشعوب، ولم يقل في قدومه إلى مصر إلا ما يقوله قادم على أي بلد من البلاد المشهورة بهذا النوع من الجمال، وإن لم يكن وطنه. ثم انظر هذا الإحساس الوطني المتدفق، والعاطفة المصرية الفياضة في قصيدة شوقي التي استقبل بها مصر حين عاد من منفاه بالأندلس، إذ يقول:

ويا وطني لقيتك بعد يأس ... كأني قد لقيتُ بك الشبابا

وكلُّ مسافر سيؤوب يوماً ... إذا رزُق السلامةَ والآيابا

ولو أني دُعيتُ لكنت ديني ... عليه أقابل الختم المجابا

أدير إليك قبل البيت وجهي ... إذا فُهْتُ الشهادة والمتابا

هدانا ضوءُ ثغرك من ثلاثٍ ... كما تهدي المنوَّرةُ الركابا

وقد غشُّى المنارُ البحر نورا ... كنار الطور جلّلت الشعابا

وقيل: الثغر، فاتأدت، فأرست ... فكانت من ثراك الطُّهر قابا

وقوله وهو في منفاه أيضا:

وطني لو شغلت بالخلُد عنه ... نازعتني إليه في الخلُدُ نفسي وهفا بالفؤاد في سلسبيل ... ظمأ للسواد من (عين شمس)

أحرامٌ على بلابله الدَّوْ ... ح حلال للطير من كل جنس

كلِ دار أحق بالأهل إلاّ ... في خبيث من المذاهب رجس

وهنا قد يخطر بذهنك أن تسأل عن العوامل المؤثرة في شعر شوقي هذا الأثر الظاهر، وميزته من شعر البارودي هذا التمييز الواضح، وجعلتْه فياضاً بهذه العاطفة القومية، مفعما بتلك الاحساسات الوطنية، فلا تكاد تقرأ قصيدة من قصائده خالية من ذكر مصر والفخر بماضيها، والألم لحاضرها والأمل القوي في مستقبلها؛ ولا تبعد عن الحق كثيرا ً إن قلت إن شوقي لم يجد إجادة تامة إلا في هذه الأغراض؛ وأقول في جواب هذا السؤال إن سر ذلك يرجع إلى مخالطة شوقي لزعماء الوطنية المصرية وصلته القوية بهم، وحرصه على توثيق أسباب المودة بينه وبينهم، وملازمته لمجالسهم بالليل وانهار، فلا عجب إن شاركهم بعد ذلك في الآراء والأفكار، وشاطرهم في الآمال والأوطار. . .

أضف إلى ذلك خدمته الطويلة للخديو السابق عباس الثاني؛ وقد كان من كراهته للمحتل الغاصب، وحبه الاستقلال بالسلطة والانفراد بالحكم، ما هو معروف مشهور

وهذا جواب إجمالي أرجئ تفصيله إلى فصل آخر عند الكلام على شاعرية شوقي

أحمد الزين