مجلة الرسالة/العدد 131/الرسالة في عامها الرابع
مجلة الرسالة/العدد 131/الرسالة في عامها الرابع
تُحَيِّ الرسالة عامها الرابع بوجه مشرق بالرضى، وثغر مُفْترٍ عن الأمل، ولسان رطيب بالحمد؛ وتسأل الله سبحانه أن يزيدها نَفَسا في الأجل، وثباتا في العمل، وإخلاصا في النية؛ ثم تقف على رأس هذه المرحلة الجديدة وقفة المستجم الذاكر، تستمد القوة من الإيمان، وتستروح النشاط من الصبر، وتستخرج الصواب من الخطأ، ثم تبادل أصدقاءها الخلص ولاء بولاء ووفاء بوفاء وتحية بتحية.
تعالوا يا رفاق الروح وإخوان الفكرة نتناقل شجون الحديث في هذه البرهة التي ينسدل فيها ستار ويرتفع ستار، وينتهي من رواية الحياة فصل ويبتدئ فصل. ماذا سجل العام المنصرم في صفحته المطوية عن حياتنا العقلية؟ هل استقر لنا أدب خاص؟ هل صدر عنا إنتاج مستقل؟ هل ظهر فينا زعيم موهوب؟ هل غلبت علينا ثقافة واحدة؟ هل تسايرت أفكارنا إلى غاية معينة؟ هل أتصل أدبنا بالأدب العالمي المشترك؟ هل اتسع نطاق الأدب العربي فشمل نواحي الفن؟ تلك أسئلة يتشقق في أجوبتها الرأي، ثم لا يجتمع لك منها ما يوضح مبهماً ويحدد فكرة. وحسبك من ضعف الشيء أن تتعارض الأقوال في وجوده.
مما لا ريب فيه أن هناك أدباً متميز بفنه عن كل عصر، وإنتاجاً أستقل بأصالته عن كل نقل، وأسلوب أنفرد بخصائصه عن كل مذهب، واتجاها تنزه بمراميه عن كل عبث؛ ولكن هنالك أيضاً تنوعاً في مصادر الثقافة يباعد وجوه الرأي، وضلالا في فهم الأدب يزيف حقائق الفن، وإمعاناً في استيحاء الغرب يفسد روح القومية. فأحمد أمين، والرافعي، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وهيكل لا تكاد تجد لهم في الأدب الموروث أشباها في سلامة المنطق وعمق التفكير وصدق الأداء وأصالة الإنتاج. وهم على اختلاف ثقافتهم متفقون على بناء الجديد على أساس القديم، وإذكاء الفكر الشرقي بالفكر الغربي، وتلقيح الروحية العربية بالمادية الأوربية، وإيثار الأسلوب البليغ المشرق في حدود الفن البارع السليم؛ وقد ظهر اتحاد وجهتهم جليا فيما نشروه هذا العام من مقالات ومحاضرات وكتب، وسينتهون متى استقرت أمور البلد، واستقلت إدارة الشعب، وهدأت ثائرة النفوس، إلى أدب واضح المعالم، مرسوم الحدود، تحرك جسمه روح، وتجمع أجزاءه وحدة، ويواجه أهواءه غرض.
وعلى هذه الخطة المثلى سارت الرسالة ثلاث سنين كاملة، قطعت فيها ولله الحمد مراحل مطموسة وعرة، ولولا عناية الله لأبدعت المطىٌّ وحار الدليل.
لقد كان على الرسالة أن تجاهد خصوماً ثلاثة جمعهم عليها دفاع الطفيلي عن وجوده: زهادة الشباب في القراءة وبخاصة ما كان جدّ يامنها؛ وتلك العلة التي جرها عليهم سوء التعليم وفساد الغيش هي سبب ما نشكوه من بطئ الثقافة وضعف الصحافة وقلة الإنتاج. وطغيان الأدب اللاهي على الأذواق الناشئة، فأصاب الأذهان بالكسل العقلي حتى برمت بالدرس وضاقت بالتفكير وعزفت عن الجد. ثم نفور طائفة من الأدباء لأسباب مرضية من هذه اللغة التي تقرأ، ومن هذا الأدب الذي تذوق؛ فهم يجلبون الأدب الأوربي بمعانيه ومراميه ووحيه، ثم يلبسونه طربوشاً أو عمامة ويقولون له تكلم، فيتكلم على الرضى أو على الكره، ولكنك لا تسمع بالطبع إلا عربية كعربية الرومي في البار، أو الإيطالي في المتجر!
قالت الرسالة لهؤلاء: مادمتم تكتبون بالعربية فلا بد من فنها وأدبها؛ وما دمتم تعيشون في الشرق فلا بد من إلهامه وطابعه. أما أن تحاولوا طمس حدود الأرض، ونسخ قوانين الطبيعة، وقطع سلسلة الزمن، فذلك مجهود لا يضعه الناس إلا في قرارة الحمق.
فقالوا إننا ننشر ثقافة العصور المظلمة، ونجدد أساليب البيان القديم! يريدون بالعصور المظلمة عصر الرشيد وأبنه المأمون في آسيا، وعصر الناصر وأبنه الحكم في أوربا، وعصر العزيز بالله وأبنه الحاكم في أفريقيا! وهي العصور الثلاثة التي جلت عن الأرض دياجير القرون فكشفت الأفق للإنسان، وهيأت العقل للعلم، وراضت البربر على الحضارة! وهم في ذلك أيضاً يقلدون الكتاب الأوربيين في نعتهم عصور الجرمان بالظلام، كأنما ظنوا قبائل البربر من جزيرة العرب!!
ثم يريدون بأساليب البيان القديم تلك الأساليب التي تجري على قواعد الفن فلا يشوهها لحن ولا تتعاورها ركاكة. قطعوا أنفسهم عن الموارد الروحية لهذه اللغة فصاغوها من حروف الهجاء، لا من الأعصاب والدماء، ثم آذوا فطرة الإنسان فجعلوا قوة الأسلوب عيباً، وجمال الصياغة نقيصة.
ليس في أسلوب الرسالة ما يشبه القديم إلا في الصحة. إنما هو اختيار اللفظ الجميل القوي للمعنى الجديد القوي ليس غير. أما اطراد النسق، وحلاوة الجرْس، ونبض الحياة في الكلمة، وإشراق الدلالة في اللفظ، وامتزاج الكاتب بالجملة، وبراءة الأسلوب من اللغو، فذلك هو الفن الذي يعيش ما عاش الناس، ويُعجب ما سلمت الفطرة.
فالرسالة بين هؤلاء الخصوم الثلاثة إنما تنحت في الصخر طريقها الطويل! تسير ببطيء ولكنها لا تقف، وتعالج برفق ولكنها لا تهن، وتصطدم بالأحداث ولكنها لا تحيد.
على ذلك تجدد لأصدقائها وقرائها العهد والعزم معتمدة على فضل الله، مطمئنة إلى عطف الأمة، متكئة على عون الشباب، ممتدة بإيمان القلب، معولة على إتقان العمل؛ وفي بعض ذلك الضمان الأوفى والسند الأقوى والمرفأ الأمين.
أحمد حسَن الزيات