مجلة الرسالة/العدد 131/النقد

مجلة الرسالة/العدد 131/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1936



رد على نقد

كتاب تأريخ الإسلام السياسي

للدكتور حسن إبراهيم حسن

مؤلف الكتاب

الآن وقد انتهى ناقد هذا الكتاب من الكلام عما سماه مآخذ تاريخية، فيحق لي - إنصافاً للحق وتمحيصاً للتأريخ - أن أرد عليه بإيجاز حتى يكون القراء على علم بالحقيقة. ولا يفوتني - قبل أن أرد على بعض هذه المآخذ - أن أشير إلى أن فكرة جالت في خاطري: هي إهمال الرد، اتكالاً على أن المطلع على الكتاب يتولى بنفسه تفنيد هذه المزاعم، لولا أن كثيراً من زملائي ألحّ عليّ أن أرد باسمي واضحاً لأضع الحق في نصابه.

يقول حضرة الناقد: (إنه عمد إلى نشر ما تيسر له نشره من الاستدراك خدمة لمادة ناشئة في معاهدنا العلمية واستحثاثاً للمؤلف على تدارك أمره في مادة هو متخصص فيها، وضناً بما لمصر من حسن السمعة العلمية في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن).

وقبل أن أستدرك على هذا الاستدراك وأبين أن ما سماه الناقد مآخذ تاريخية وجغرافية، قد بالغ في بعضها كل المبالغة، وجاَنب الأنصاف في غالبها؛ ألفت نظر حضرته إلى أنه كان يستطيع أن يجنّب نقده بعض عبارات نابية يستغني عنها الموضوع الذي هو بصدده. وما أدري ما شأن تلك المآخذ بنحو هذه الألفاظ: (الألقاب الضخمة، الآثار العلمية المؤلفة والمترجمة، إن المؤلف شغل بنقل شرح التبريزي على القصيدة عن تفهمها وتبيين من قيلت فيه، الأغلاط والتورط، الخلط القبيح.) ولعل الأستاذ المستدرك غاب عنه أن مآخذه التاريخية والجغرافية على فرض صحتها - وسيرى القارئ مبلغ صحتها - لا تقدح في كتاب أربى على ستمائة وخمسين من الصفحات، ولا تدعو إلى كل هذا الإشفاق على حسن سمعة مصر في الأقطار الشرقية أن يتطرق إليه ضعف أو وهن، وغاب عنه أيضاً أن إيراد مثل هذه الألفاظ الشديدة التي لا تتعلق بموضوعه ألبته تعكس الغرض من النقد الذي اشترطوا له أن يقوم على ركن ركين من النزاهة الكافية والخبرة التامة، حتى لا يجد فيه الحاطبون أو ذوو المآرب مجالاً لبث كيدهم أو شفاء لحك حزازاتهم. وشتان بين تجريح عنيف وبين نقد سائغ يراد به الإصلاح، قد أسس على الصدق والحق وتقدم به الناقد في هدوء وسلامة ذوق، فما جرح من عاطفة ولا مس من كرامة، ولا كان رغبة في تشهير أو إلصاق عيب. ومن هنا قالوا إن النقد صعب مرتقاه. ذلك لأن الناقد حكم أو شبيه به، ولا يتسنى له ذلك إلا بالقدرة على ضبط النفس وتجنب مواضع الزلل.

ص34 - أخذ الناقد على الكتاب إطلاق كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب - على رأيه - خاص بملوك اليمن أو مَن دونهم من أمراء المخاليف اليمنية. وألحق أن هذا التخصيص لا محل له. جاء في القاموس أنه يطلق على الملك، أو هو دون الملك الأعلى.

ص36 - أخذ الناقد على الكتاب في قوله: (وكان للعرب نظام ثابت للزواج؛ فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. . . الخ)، أنه لم يقصر هذه الحال على الحجاز بل عممها في شبه الجزيرة.

وإذا لاحظ القارئ أن الحجاز هو قلب بلاد العرب، تحج إليه من قديم الأزمان للعبادة والتجارة والمباراة في الشعر، وأقامت فيه الأسواق لذلك، ومنه تصدر التقاليد والعادات اجتماعية وخلقية، وعلى قالبه يضع القاطنون في أنحاء الجزيرة العربية ويعتصمون بخواطره، وأن الحجاز هو موطن الحركة الدينية والسياسية اللتين يؤرخ لهما المؤرخون، إذا لاحظ القارئ هذا، أدرك لأول وهلة أن الناقد لم ينصف في مأخذه ولم يوفق فيما أستدل به من حديث عائشة في هذا المقام.

ص45 - يقول الناقد إن الفرس لم يزهدوا في بلاد اليمن و (أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد). ولو أنه أطلع على ما ذكره الطبري الذي أخذ عنه براون في كتابه (تأريخ الفرس الأدبي) , , , 178) وهو - كما لا يخفى - حجة دامغة في تأريخ الفرس، لعلم أن كانوا حقيقة زاهدين في غزو بلاد اليمن. ولا أدل على ذلك من رد كسرى على سيف بن ذي يَزَن الحميري عندما طلب منه مساعدته لاسترداد بلاده من الأحباش إذ يقول له: (بعدت أرضك عن أرضنا، وهي أرض قليلة الخير. إنما بها الشاة والبعير وذلك مما لا حاجة لنا به).

ولعل من العجب أن يقيم حضرة الناقد عاصفة حول اختلاف المؤرخين في وصف (وهرز) قائد الحملة الفارسية على اليمن، وهل حاجباه هما اللذان سقطا من الكبرأوأن جفنيه انطبقا أحدهما على الآخر من الكبر!! فالمسألة - كما يرى القارئ - مسألة شكلية خلافية بين المؤرخين، ومؤداها - على كل حال - أنه بلغ من الكبر عتياً، فلا تستحق كل هذا الجهد.

ص61 - 62 - يأخذ الناقد علينا أننا استعملنا لفظاً أجنبياً لنظام عربي، وأن التنظير بين بلاد العرب وبين شبه جزيرة قرشقة يبدو غريباً ونابياً. والمنصف يقدر لنا رغبتنا في عدم إيقاع القارئ في لبس، خصوصاً إذا لم يكن قد قرأ شيئاً عن هذا النظام الذي كان سائداً في جزيرة قرشقة منذ مئات السنين؛ وقد سلكنا هذا المسلك عينه في كتابنا (الفاطميون في مصر وأعمالهم السياسية والدينية بوجه خاص) (ص23) الذي قامت وزارة المعارف بطبع ترجمته العربية على نفقتها سنة 1932.

ص68 - هوّل الأستاذ الناقد تهويلاً عظيماً فيما جاء بسياق كلامنا عن قريش (أنهم اتخذوا جزءاً من الأرض أولوه احترامهم وبنوا به بيتاً حراماً لا يحل فيه القتال وأخذوا على عاتقهم حمايته) مستنداً في مأخذه على أن إبراهيم الخليل هو باني الكعبة، وأن قريش كانت تحتمي بالبيت الحرام.

ويقيننا أن حضرة الناقد، إذا رجع إلى كتب التأريخ والسير والحديث، عثر على ما يناقض استناده - ولو إلى حد كبير. فكما أنه لا يشك مسلم في أن إبراهيم هو أول من بنى الكعبة بنص الكتاب الكريم، كذلك لا يشك مؤرخ في أن الكعبة قد هدمت بعد هذا مرات بفعل السيول أو النار، وأنها بنيت في حياة النبي حين كانت سنة خمسة وثلاثين، وأنه هو الذي وضع بيده الكريمة الحجر الأسود وفض بذلك النزاع بين المتزاحمين؛ ولا يشك محدث أن الرسول قال لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)، وأن عبد الله بن الزبير هدمها أبان خلافته وبناها على أساس قواعد إبراهيم، مستنداً إلى الحديث السابق، فأتى الحجاج بعد هذا وأعادها إلى ما كانت عليه في عهد الرسول.

أما مسألة الاحتماء بالبيت الحرام أو حمايته، فليبس فيها فارق كبير إذا اعتبرنا الاحتماء للأفراد والحماية للجماعات. وقد حصل في قصة أبرهة الحبشي ما يؤيد ذلك، على أننا قد ذكرنا في كتابنا هذا (ص66، 68، 92، 93، 450) ما يثبت ذلك كله.

ص87 لا أدري وجهة النصح من حضرة الناقد لنا في أن نبرأ من الذهاب إلى أن معنى التحنف التوبة والاعتراف. فليس بخاف أن التوبة هي ميل من حال إلى حال. ومعنى (حنيفاً) مائلاً عن الباطل إلى الدين الحق. راجع تفسير البيضاوي وغيره.

الحق أن هذا النصح لا يبعد عنه في الغرابة إلا دعوى أن الرسول تأثر تأثراً بريئاً بالجمال حين تزوج صفية بنت حُي!! وليسمح لنا الأستاذ الناقد أن نستعير عبارته (لست أدري ما الذي أبقاه بعد هذا القول لجهلة المبشرين ومتعسفي المستشرقين).

نعم! أيها الأستاذ. إن الرسول - كما قلنا في كتابنا - كان مضطلعاً بمهمة عظيمة تسمو عن الجمال وعن خلجات الفكر، ولعلك تراجع كتب التأريخ الإسلامي لترى أن السبب الوحيد في هذا الزواج هو تأليف قلوب قومها وإسلامهم، ولتكون سبباً في عتقهم ليشتد بهم أزر المسلمين. فهذه هي عائشة أم المؤمنين تقول: (لم أر امرأة أكثر بركةً ومنةً على قومها من صفية. أسلم بزواجها قومها وأعتقوا؛ فقد أطلق الصحابة أسراهم من قومها وقالوا إنهم أصهار الرسول). ثم كيف تستبعد أن يطمع الرسول في إسلام اليهود مع ما جرى منهم، وهو الذي أنزل عليه القرآن محذراً من القنوط لأنه علامة الكفر، وحاثاً على التواصي بالحق والتواصي بالصبر؟ لعل الناقد أولى بأن يبرأ من هذا القول الجريء وإلقاء تبعته على سبْق القلم.

ص131 - أخطأ الناقد في تفهم قولنا إن الإسلام أحل الوحدة الدينية محل الوحدة القومية، وذكر أننا أوردنا عبارة (الدعوة الدينية) مع أنها (الوحدة الدينية!!)، وقد ضم حضرته هذا الخطأ الذي وقع فيه إلى المآخذ التاريخية التي عابها على الكتاب، وأما عن قوله: (إن المراد بالوحدة القومية والجنس هو القبيلة) فهو كلام غير مفهوم بدليل قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقوله عليه الصلاة والسلام (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فالمقصود هنا الموازنة بين أمة وأمة لا بين قبيلة وأمة، ولعل الناقد يريد بذلك أن يقيس مع الفارق على رأيهم.

ص211 - ثم ما ندري عدم اللياقة في التعبير عن نابليون بالفتى التلياني، مع أن المعنى اللغوي والإطلاق العربي يجيزان ذلك بتوسع. إن نابليون كان فتى، لأنه رجل عظيم أتى بصنوف من العبقرية والمواهب في الحرب والسياسة، وكان العرب يطلقون لفظ الفتى على من أمتاز بموهبة تبعث الإعجاب والثناء، ولقد قالوا قديماً: (لا فتى إلا عليّ)، ونابليون كان فتى بالمعنى اللغوي لأنه حين بزغ نجمه لّما يكتمل العقد الثالث من عمرهُ؛ ثم كان تليانياً (بياء النسبة) من جزيرة قرشقة. لعل لهذه الغيرة النابليونية سبباً تكشفه لنا الأيام.

ص240 - 241 - يرمينا الناقد بالتقصير في تفهم قصيدة (تأبط شراً) ويأخذ علينا نقل شرحها عن التبريزي، وأننا ذكرنا في التعليق عليها لفظ عمه بدل خاله، وقد فات الناقد أننا ذكرنا لفظ خاله مرة قبل ذلك، ثم ذكرنا لفظ عمه سهواً وعن غير قصد: أما نقلنا شرح التبريزي، فمع إشارتنا إلى المصدر الأصلي - وهو ما يعبر عنه المؤرخون بالأمانة في النقل - فأننا لم ننقل هذا الشرح على القصيدة برمته، وإنما نقلناه بتصرف ومع مراجعة القاموس وكتب اللغة. فما ندري أن الخطأ غير المقصود في ذكر لفظ العم بدل الخال في قصيدة يكون معناهُ أننا لم نتفهم معنى القصيدة برمتها. وهكذا يكون الأنصاف وإلا فلا!!

كم أعجبني قول الأستاذ الكبير والمؤرخ المشهور بآثاره العلمية محمد بك كرد علي في تحقيقاته على كتاب: (ذكر المعلق على الكتاب أنه وقعت في طبعته هذه بعض أغلاط مع كل ما عانى في تصحيحه جاء بعضها سهواً منه، وبعضها من خطأ النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التي لا يتنزه عنه كتاب.

ونحن نقيم من كلامه هذا عذراً لكل من أحيا كتاباً للقدامى وليس من الأنصاف أن يحمل على كل من أرتكب خطأ من هذا القبيل بعد بذل الجهد).

ص330 - على الرغم مما ورد في كتب التأريخ بأن عثمان كان يصوم الدهر وأنه قتل صائماً، فأن الناقد يحاول بجرة قلم أن يرفض هذا القول لسبب واحد: هو أن العقل يرفضه!! كأن حوادث التأريخ أصبحت تجري وراء عقل بعض الناس؛ فما رفضه يجب أن يمحى من كتب التأريخ ولو بلغ حد التواتر أو قام عليه ألف دليل ودليل. ألسنا في حل من إن نقول الذي جعل العقل يرفض هذا القول هو أننا نريد أن نثقل كفة السيئات والمآخذ.

ص365 - ينفي الناقد ما ذكرناه من أن عثمان أنتخب بمقتضى قانون الشورى الذي سنه عمر. ولم يكف حضرته في ذلك أن عمر سن نظاماً شورياً مناسباً جداً لعصره بتعيينه ستةُ يختار من بينهم خليفة، وجعل أبنه عبد الله أحد من يختارون على ألا ينتخب. فهل كان يريد الناقد لتحقيق هذه التسمية أن يعتبر عمر دفاتر الانتخاب ويرجع إلى دستور سنة 1923؟ ألا إن هذا المبدأ الذي سنه عمر كان حجر الزاوية في قانون الشورى إن لم يكن هو القانون بأكمله. ولو أخذ المسلمون به لما بزغت قرون الفتن، ولما زلزلوا زلزالاً شديداً صدعّ بنيانهم وأسرع في انحلالهم.

(يتبع)

حسن إبراهيم حسن