مجلة الرسالة/العدد 131/سكان أعالي النيل

مجلة الرسالة/العدد 131/سكان أعالي النيل

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 01 - 1936


2 - سكان أعالي النيل

بقلم رشوان أحمد صادق

كذلك تستعمل الماشية في القرابين، ليكون هناك اتصال بين النويري والآلهة وأرواح أجداده، فمثلاً في أوقات الشدائد مثل المرض والموت والتشليخ (تشريط الوجه) والزواج يجب أن يحوز النويري رضاء الأرواح الطيبة، وذلك بأن يُستحضر عجل أو كبش، ثم يوضع على ظهره مسحوق من الرماد، ثم يقول له صاحبه ما يريده من الأرواح، ثم يطلق إلى حال سبيله لكي يخبر الأرواح بما يريده سيده.

والنويري يرى دائماً أنه لا بد أن توجد علاقة بينه وبين الأرواح، وذلك يكون بإهدائها بقرة، وهذه البقرة تترك في المنزل ولا يحل له ذبحها أو استعمالها لأي غرض من الأغراض ما دام قد وهبها للأرواح. فإذا ماتت فأن أحد أولادها يحل محلها كحلقة اتصال بين النويري والأرواح. والقطيع من الماشية تتعهده مجموعة من الأفراد تجتمع لهذا الغرض، إذ لا يمكن أن يتعهده فرد واحد. ومن ذلك يتبين إلى حد بلغت علاقة النوير بالماشية خصوصاً إذا ما علمنا أن أي فرد من هذه المجموعة لا يمكن أن ينفصل عنها، لأن طعامه اليومي وزواجه ونجاته من شر الانتقام متوقف على بقائه داخلها. وهكذا يظل النويري طول يومه يرعى ماشيته ولا حديث له سواها، ولذا قلما ينادي رجل من النوير باسمه، بل يعرف باسم أحد (عجوله أو ثيرانه)، فمثلاً بدل أن ينادي رجل باسمه ينادي بهذه العبارة: (أيها الثور أو العجل الأسود الأبيض ذو القرنين).

والنوير ينقسمون إلى عدة قبائل كل منها مستقل سياسياً، ولكل منها مقاطعة تتمتع بكل مواردها الاقتصادية، وكل واحد منهم يعرف حدود مقاطعته، وإذا حدث أن أحد أفراد قبيلة أستغل موارد مقاطعة أخرى غير مقاطعته فأن ذلك يعتبر اعتداء يثير الحرب على الأثر، فإذا قامت الحرب فأنها لا تقف إلا إذا تساوى عدد القتلى في الطرفين.

والأستاذ الدكتور أيفانز بريتشاد يشرح النظام الحربي كما يأتي:

تنقسم القبيلة إلى قسمين أ، ب، وكل قسم من هذين ينقسم إلى قسمين، فـ أتنقسم إلى جـ، د، ب تنقسم إلى هـ، و. وهذه الأقسام الصغيرة تنقسم إلى أصغر منها وهكذا.

فإذا نشبت الحرب بين ل، ن لا يتدخل أحد، وإذا نشبت بين ل، م تدخل ن في صف ل، وإذا نشبت بين ل وأي فرع من فروع ن فإن جميع الأجزاء التي تتفرع من جـ، د تشترك مع ل في الحرب.

وإذا كان هناك حرب بين هذه القبيلة وقبيلة أخرى فأن جميع فروع هذه القبيلة المكونة أ، ب تنظم ضد القبيلة الأخرى وعلى العموم فما دامت الحرب بين أجزاء القبيلة فأن القبيلة تتحد ضد أي عدو خارجي.

والنوير عبارة عن عدة قبائل تربطها الحفلات العامة والظروف الحربية والدينية والقصص القديمة، هذا علاوة على الروابط الجنسية كرابطة الدم مثلاً. والعادة المتبعة أن الرجل لا بد أن يتزوج من قبيلة غير قبيلته.

ومن أهم المظاهر الاجتماعية بين النوير مسألة التشليخ (تشريط الجبهة) فكل ولد يبلغ من العمر أربع عشرة سنة لا بد أن تعمل له ستة شروط (أو خطوط) على جبهته من الأذن إلى الأذن الأخرى، وبذلك يعتبر أنه أصبح رجلاً، فتتغير حياته الأجتماعية، ويصبح عليه بعض الواجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه. ومن أمثلة هذا التغير أنه لا يقوم بتربية الماشية، وعليه ألا يحلبها إذ يقال إن البقرة إذا حلبها شخص مشلخ فأنها تموت، وعملية التشليخ هذه أدت إلى ظهور الحلقات الاجتماعية المختلفة، فمثلاً كل الصبية الذين يشلخون في سنة واحدة يكونون حلقة واحدة وعليهم واجبات نحو بعضهم وأخرى نحو الرجال المحترمين في مجتمع النوير. وهذه العملية تعمل كل أربع سنوات؛ فمثلاً إذا أقيمت عملية التشليخ سنة 1930 فأن عملية التشليخ الثانية تكون سنة 1934، وبذلك يمكن تقسيم النوير من الوجهة الاجتماعية إلى قسمين: (1) الرجال المشلخون (2) الأولاد غير المشلخين. والنوير ليس عندهم رجال شرطة أم محاكم أو نظم حكومية، وإنما يعتمدون على بعض الرجال الروحانيين أو رجال الدين، وأهم هؤلاء (اللوبارد)، ويقوم بحل الخصومات وإرغام الخصم على قبول التعويضات، ومع ذلك فسلطته غير عملية، فليس لديه من وسائل العقاب إلا أن يلعن الشخص غير المطيع لأوامره. وهذا قلما يحدث لأن النويري يخاف سلطة هذا الرجل. كذلك يوجد عدد كبير من الرؤساء المختلفين مثل رئيس الماشية ورئيس الأسماك وغيرهما.

الشلك وهم المجموعة الثانية من الزنوج النيليين ويشبهون النوير في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، ولكنهم يمتازون بنظام حكومتهم، فهم يكونون وحدة متينة برآسة ملك مطلق التصرف من حيث السلطة الروحانية والزمنية.

ولدراسة مركز هذا الملك من الوجهة الروحانية يحسن أن نرجع إلى القصة التي يذكرونها عن منشئهم، فهم يذكرون أن (نيا كنج) أخذ أتباعه وسار من موطنه الأصلي شمالاً إلى منطقة شرق بحر الغزال، وأستمر في الفتح والغزو حتى كون أمة وأسرة مالكة. (ويعتبر هذا الرجل بطل الشلك وربما كان ذلك في أوائل القرن السابع عشر) وإنه لم يمت بل تلاشى في الرياح. وبذلك أصبح موضع احترامهم منذ اختفائه. ويعتقدون أن روحه تنتقل إلى كل ملك يحكمهم، وهذا هو السبب في المركز الروحاني لملك الشلك. ولذلك فهم يعتقدون بأن الملك مسئول عن سعادة شعبه؛ ولا بد لكي يكون ذلك ممكناً أن تنتقل روح نيكا كنج إلى ملك قوي صحيح الجسم؛ ونتج عن ذلك الاعتقاد أن الملك إذا أظهر ضعفاً بأي شكل كان لا بد من أن يذبحوه لأنهم كانوا يظنون أن ضعف الملك الجسماني يضعف روح نيكا كانج وبذلك تمرض الماشية ويقل نتاجها ويموت كثير من المرضى ويضعف نتاج الأرض وربما يخيب المحصول.

وتدخل روح نيا كنج جسم الملك أثناء حفلة التتويج. وحسب تقاليد الشلك القديمة كان أي فرد من العائلة المالكة يتمكن من قتل الملك كان يحل محله ولذلك أصبح من المفروض أن الملك ينام نهاراً ويستيقظ ليلاً كيما ينجو من الفتك به على انفراد. ومن المتبع أن الملك لا يطلب المعونة أثناء الاعتداء عليه كذلك القاتل. فكلا الاثنين يرى أنها مسألة كفاح ومن الشرف أن يفوز أحدهما على الآخر. هذه هي الطريقة القديمة لقتل الملك وتنصيب غيره وحديثاً تغيرت تلك العملية إلى حد ما فيقوم بقتل الملك جماعة يسمون (أورورو) وينتخبون من بعض العائلات التي يقال إنها من سلالة الملك الثالث للشلك. ومنذ قرون كانت تعلق جثة الملك على سور كوخ حتى يفنى.

وتعقب قتل الملك عادة فترة يكون العرش فيها خالياً لمدة أشهر وفي هذه المدة يحضرون تمثالاً للبطل نيا كنج من مكان مقدس بجهة أكروا يحملونه إلى فاشودة حيث مقر الملك. ويحضرون معهم أيضاً مقعداً ذا أربعة أرجل يزعمون أنه من بقايا أمتعة نيا كنج وتجري عملية التتويج وأبدع ما فيها أن يوضع التمثال على الكرسي قليلاً ثم يرفع ويجلس الملك الجديد مكان التمثال توا.

والغرض من هذه المسألة هو نقل روح نيا كنج إلى جسم الملك الجديد. وملك الشلك يعتبر مسئولاً عن حفلة نزول المطر إذ يطلب من الملك نيا كنج الذي يعيش في الفلك أن ينزل المطر. وهذه الحفلة تقام في فاشودة وفي نفس الوقت يقوم بهذه الحفلة ممثلوه في أجزاء مملكته المختلفة.

الدنكا

ويشبهون كلا من النوير والشلك في كثير من الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية وهم المجموعة الثالثة من الزنوج النيليين. ويحاكون الشلك في مسألة الرئيس الذي يقوم بحفلة المطر فهو ملك مقدس أيضاً. غير أنهم يخالفون الشلك في مسألة قتل هذا الرئيس، فهم لا يقتلونه بل يتركونه حتى يصبح هرماً ويطلب القتل، إذ يرى أنه أصبح غير كفء لقيادة قومه وإرشادهم. وعملية القتل تنفذ كما يأتي: ينام هذا الرجل على لوح من الخشب على شكل (نقالة) ويوضع في قبر أعد له حيث يبقى نحو أربع وعشرين ساعة يتلو في خلالها ملخصاً لأعماله وينصح للجمع المحتشد حول القبر حتى إذا ما خارت قواه وأصبح غير قادر على متابعة الكلام طلب من أتباعه إغلاق القبر فيختنق ويموت. وهو يفضل هذا النوع من الموت على الموت الطبيعي لأنه يرى أنه إذا ترك حتى يموت موتاً طبيعياً فأن أبنه لا يمكنه أن يخلفه وعند ذلك تصبح القبيلة في حاجة إلى رئيس روحاني يقوم بعملية جلب المطر.

(يتبع)

رشوان أحمد صادق