مجلة الرسالة/العدد 131/فضيحة دولية استعمارية
مجلة الرسالة/العدد 131/فضيحة دولية استعمارية
عصبة الأمم بين المد والجزر
بقلم باحث دبلوماسي كبير
كانت عصبة الأمم في نظرنا دائماً أداة دولية مريبة، لا تتفق أعمالها وجهودها مع المثل والغايات السامية التي أدمجت في دستورها، ولم نستطيع يوماً مدى الخمسة عشر عاماً التي قطعتها العصبة من حياتها أن تحمل على الثقة بها أو الاطمئنان لاستقلالها أو نزاهة وسائلها وغاياتها؛ وإنما رأينا العصبة دائماً أداة مسيرة في يد الدول الغربية القوية توجهها حيثما شاءت لتحقيق مشروعاتها وغاياتها على حساب الأمم الضعيفة، ورأيناها بالأخص سوط استعمار بالنسبة لبعض الأمم الشرقية، تفرض عليها نير الانتداب وتنظمه لمصلحة الدول الكبرى التي تواجهها؛ ولم تقدم العصبة يوماً أي دليل على أنها تعمل لأنصاف دولة ضعيفة أو أمة شرقية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصلحة دولية قوية أو أمة غربية، ولم تنل العصبة توفيقاً في أي ميدان من الميادين العامة أو الإنسانية التي تزعم أنها تعمل في سبيلها، فلم يحقق مشروع نزع السلاح أو تحديده، ولم يوضع نظام ثابت للسلامة العامة أو عدم الاعتداء، ولم تكفل حقوق الأقليات أو الأمم الضعيفة بصورة مستقرة عادلة.
ولكنا رأينا عصبة الأمم تتخذ فجأة لمناسبة النزاع الإيطالي الحبشي صورة أخرى، فتبعث دستورها من قبره وتطبقه بروح جديدة؛ رأيناها تحل السيادة والحقوق القومية مكانتها، وتعمل لاحترام استقلال الأمم الضعيفة، فتصم إيطاليا بما تستحق من وصمات الاعتداء المنكر، وتحرك من نصوص دستورها ما تراه كفيلاً بوقف الاعتداء ورد المعتدي إلى صوابه؛ وتستجمع شجاعتها لتطبيق العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضت على المعتدي، وتطبقها بالفعل على إيطاليا المعتدية، فتحظر تصدير السلاح وجميع المواد الأولية إلى إيطاليا وتبيحه للحبشة، وتطلب إلى أعضائها أن يقطعوا كل العلائق الاقتصادية والمبادلات التجارية مع إيطاليا؛ فيلبي دعوتها نحو خمسين دولة أو ما يشبه الإجماع؛ وهكذا رأينا عصبة الأمم تفتتح عهداً جديداً في سياستها وفي فهم مهمتها الدولية، واستبشرنا بأن يكون العهد الجديد مفتتح الآمال بالنسبة للأمم الضعيفة، فتستطيع أن تطالب بحقوقها وحرياتها، وتستطيع أن تعتمد على ذلك التعضيد الدولي الذي تحمل لواءه عصبة الأمم.
ولم يغب عن العالم مع ذلك ما هنالك من وراء ستار، فقد فطن العالم إلى أن عصبة الأمم لم تكن في عملها مستقلة ولا مختارة، وإنها كانت مسيرة موجهة فيما اتخذت من قرارات جريئة؛ ولم يغب عن العالم أن السياسة البريطانية هي مبعث التوجيه والوحي الأول، وأنها اتخذت هذه الخطة لأن الاعتداء الإيطالي على الحبشة، وتوسيع النفوذ الإيطالي في شرقي إفريقية، وما يترتب على ذلك من إذكاء الروح الحربي الفاشستي، يعرض الإمبراطورية البريطانية وسلامة مواصلاتها في البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط وسيادتها في وادي النيل وشرق إفريقية إلى أخطار جسيمة، وأن إنكلترا لم تحرك أساطيلها الضخمة، وتتخذ هذه الأهبات الحربية الواسعة النطاق في مصر وعدن وشرق إفريقية انتصارا لقضية الحبشة أو دفاعاً عنها، ولكن رداً للخطر الفاشستي الذي ظهر في الأفق فجأة، وأخذ يزعجها بمطامعه وتحديده. بيد أن وقوف العالم على هذه العوامل المستترة الظاهرة معاً، لم يثنه عن التصفيق لعصبة الأمم والإعجاب بموقفها وتصرفاتها في هذا المأزق العصيب؛ ذلك أن الوسائل لاتهم دائماً؛ وكفى أن عصبة الأمم قد انتهت إلى الغاية المقصودة، وسيقت إلى العمل لصون الحريات والحقوق القومية، وإلى الحكم على الاعتداء المنظم بأقسى الأحكام.
ولهذا دهش العالم أيما دهشة حينما أذيعت شروط هذا المشروع الشائن الذي أسفرت عنه المفاوضات الفرنسية البريطانية الأخيرة كتسوية سلمية للمسألة الحبشية، والذي أريد أن يقدم إلى إيطاليا هدية سابغة على اعتدائها المثير لكي تكف عن المضي في أعمالها ومشاريعها الحربية. وقد وقف القراء على هذا المشروع وتطوراته فلا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ويكفي أن نذكر أنه كان يقوم على تمزيق الحبشة تمزيقاً شائناً، وينص على منح أكثر من نصفها لإيطاليا، ويحيط سيادة الحبشة على الأراضي الباقية بقيود خطرة أو هو بعبارة أخرى يقضي بشقيه على الحبشة كأمة مستقلة ذات وجود، ويمهد لاستبعادها النهائي في أعوام قليلة؛ نقول ثار العالم كله لهذا المشروع الشائن الذي يتوج اعتداء إيطاليا بغار ظفر لم تحرزه، ويحقق لها حلماً مازالت تتخبط في غمر الصعاب لتحقيق شطراً منه؛ وأشد ما كانت دهشة العالم لأن السياسة البريطانية التي ثارت من قبل لاعتداء إيطاليا وألبت عليها أمم العالم بواسطة عصبة الأمم وحملت العصبة على أن تقرر العقوبات الأقتصادية، قد أشتركت في وضع هذا المشروع الشائن الذي يقضي فجأة على آمال أمة مستقلة مازالت تناضل عن حرياتها نضالاً يثير الإعجاب والإكبار؛ على أن الصدى العنيف الذي أحدثه المشروع في العالم كله، وفي الرأي العام البريطاني بنوع خاص، كان كافياً لأن يحدث أثره بسرعة في استنكار هذه السياسة الاستعمارية الصارخة، واستنكار المشروع برمته، وكان من جراء ذلك أن استقال السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية الذي أشترك في وضع المشروع، وكان لاستقالته أعظم وقع كما شهدنا، واضطرت الحكومة البريطانية أن تتراجع بسرعة، وأن تعلن أنها لا تؤيد المشروع وأنها تعتبره قد مات؛ هذا بينما كان المشروع مطروحاً أمام عصبة الأمم، يلقي الضربة الأخيرة على يد مجلس العصبة، ويرجئ النظر فيه إلى أجل غير مسمى.
وهكذا مات مشروع تمزيق الحبشة في أيام قلائل تحت ضغط الرأي العالمي واستنكاره، ولم يُسمح لإيطاليا أن تجني ثمرة اعتدائها الشائن وأن تحقق بالدجل السياسي ما لم تستطع أن تحققه على يد جنودها في ميدان القتال. أما الحبشة فقد رفضت مشروع تمزيقها لأول وهلة، ورفضته بمنتهى الأباء والقوة، بل واستطاعت أن تقرن رفضها الأبي بانتصارات محلية أحرزتها الجيوش الحبشية في مختلف الميادين في نفس الوقت الذي طرح فيه المشروع أمام عصبة الأمم. ومع أن العوامل الحقيقية التي أملت بوضوح هذا المشروع، وحملت السياسة الإنكليزية على إقراره، في الوقت الذي ذهبت فيه إلى هذا المدى البعيد في مخاصمة إيطاليا ومقاومتها، لم تتضح إلى الآن وضوحاً كافياً، فأنه يمكن فهمها على ضوء بعض الحوادث والظروف الأخيرة، وأخصها تفاقم الخطر الياباني في الشرق الأقصى، وانتعاش الحركة الوطنية في مصر، وما يذاع من وجود تذمر في الأسطول البريطاني، وما يبدو من تحرك ألمانيا وتربصها؛ هذا إلى بعض الاعتبارات الأوربية والاستعمارية العامة، وهو أنه ليس من حسن السياسة أن تشجع أمة إفريقية سوداء على مقاومة أمة أوربية كبرى، وأن تترك إيطاليا لتطوح على هذه الصورة بشطر كبير من قواها الحيوية في شرق إفريقية، في حين أن هذه القوى ذاتها ضرورية لحفظ التوازن الأوربي ومقاومة مطامع ألمانيا في النمسا؛ ومن جهة أخرى فأن هذه الصعاب والمتاعب الفادحة التي تتخبط فيها إيطاليا قد تدفع بها إلى غمار اليأس فيسقط النظام الفاشستي، وسقوطه في هذا المأزق الدقيق قد يضعف إيطاليا ويصيب التوازن الأوربي بضربة شديدة: فإلى هذه العوامل يمكن أن نرجع تطور السياسة الإنكليزية الفجائي. بيد أن هنالك حقيقة لاشك فيها هي أن أكبر الفضل في هذا التطور يرجع إلى تذبذب السياسة الفرنسية وترددها، وإلى ما تبديه من تحيز ظاهر للاعتداء الإيطالي، وما تبديه من فتور ظاهر في تأييد سياسة العقوبات الدولية التي تعتمد عليها إنكلترا في تحطيم مشاريع إيطاليا. وتذبذب السياسة الفرنسية وتحيزها يرجعان إلى عوامل أنانية محضة، فالحكومة الفرنسية الحاضرة تريد أن تحرص على الصداقة الإيطالية بأي ثمن، وأن تحافظ بكل الوسائل على أن تتقاضى تعاون إيطاليا في أوربا ضد ألمانيا وبالأخص في المسألة النمسوية، ثمناً لما بذلته فرنسا لإيطاليا في الاتفاق الفرنسي الإيطالي الأخير (يناير الماضي) من المنح والمزايا السياسية والاستعمارية؛ وهي تحاول في نفس الوقت أن تحتفظ بصداقة إنكلترا ومعاونتها.
على أن هذه السياسة التي انكشفت عواملها الأنانية بسرعة لقيت حتفها في الحال في إنكلترا وفي الحبشة وفي جنيف؛ ومع أن السياسة البريطانية استطاعت بسرعة مدهشة أن تستدرك الخطأ الذي وقع فيه السير هو وزير الخارجية البريطانية بإقراره لمشروع الصلح، واستقال الوزير في الحال ليخلفه مستر إيدن بطل سياسة السلامة الاجتماعية والعقوبات الدولية على يد عصبة الأمم، أو بعبارة أخرى بطل سياسة التشديد على إيطاليا، فأن هيبة بريطانيا السياسية قد أصيبت بشيء من التصدع والريب؛ ذلك لأنه لم يكن خافياً ما ينطوي عليه مشروع الصلح المقدم إلى جنيف من معنى مستتر، هو تقسيم الحبشة بين إيطاليا وإنكلترا، واختصاص إيطاليا بالقسم الشرقي الذي تحتل قسماً منه، واختصاص إنكلترا (فيما بعد) بالقسم الغربي الذي تقع فيه منابع النيل الأزرق، والذي تحرص كل الحرص على استخلاصه من يد أية دولة أوربية أخرى؛ بيد أن هذا الرجوع السريع الحازم من جانب السياسة البريطانية إلى خطتها الأولى، أعنى خطة الوقوف في وجه إيطاليا ومقاومتها عن طريق العمل الدولي، قد رد إليها كثيراً مما كادت تخسر من هيبة ونفوذ.
على أننا نستطيع أن نستخلص من هذه المأساة الدولية درساً بليغاً يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر مقالنا بشأن عصبة الأمم؛ فما كانت العصبة يوماً ملاذاً للعدالة الدولية وحقوق الأمم الضعيفة، ولاسيما الأمم الشرقية، ولن تكون العصبة يوماً ملاذاً حقيقياً لهذه المثل العليا.
وإذا كان موقف العصبة في المسألة الحبشية قد أسبغ عليها هيبة لم تتمتع بها منذ نشأتها، فأن الفضل في ذلك لا يرجع إلى إرادة العصبة ذاتها أو إلى استقلالها ونزاهتها بقدر ما يرجع إلى العوامل السياسية والاستعمارية الخارجية التي شرحناها؛ وكون العصبة تعمل في مثل هذه الظروف أداة مسيرة، لا يؤكد الآمال التي يمكن أن تثيرها نصوص دستورها الخلاب، بل كل ما هنالك يثير الريب دائماً في وسائلها وغاياتها. ومع ذلك فأن عصبة الأمم يمكن أن تكون أداة حقيقية لتأييد السلام العالمي والعدالة الدولية، ولكنها يجب قبل كل شيء أن تحرر من ذلك النفوذ الذي يواجهها وينحرف بها عن العمل للغاية الحقيقية التي أنشئت لها إلى العمل لغايات السياسة القومية والاستعمارية. وقد رأينا في مثل إيطاليا وما نالها من أثر العقوبات الاقتصادية، قوة العمل الإجماعي وتأثيره الفعال في كبح جماح الشهوات القومية؛ فإذا صلح دستور العصبة ليلائم الظروف الدولية الحاضرة، وإذا استطاعت الأمم أن تضع ثقتها في سياسة الضمان المشترك والسلامة المشتركة، فإن العالم يستطيع أن يتجنب كثيراً من الحروب الاعتدائية المخربة. ولكن هل تستطيع الدول الاستعمارية الكبرى أن تتجرد عن غايات الأثرة القومية، أو تعدل عن الالتجاء إلى القوة الهمجية التي تمكنها من أعناق الفرائس الضعيفة المغصوبة؟
(* * *)