مجلة الرسالة/العدد 132/في الحب والمرأة

مجلة الرسالة/العدد 132/في الحب والمرأة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 01 - 1936



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أنا - كما لا يعرف القارئ وإن كان لا شك لبيباً - أكره أن أُحِب أو أن أحَب. ولهذا النفور من الحب أسباب شتى، منها أنه لا يدلي في الأمر، ولا سلطان لي عليه، والمرء يصاب بالحب كما يصاب بالزكام - بكرهه وعلى الرغم منه - ولو خير لاختار السلامة وآثر النجاة، ومن ذا الذي يطيب له أن يتوعك؟ والحب حين يغمر النفس يذهلها عن لذته وحلاوته، ويشغلها بالوجيب والقلق والخوف والرغبة والغيرة، ولهذا كان أمتع ما فيه ذكراه - أي بعد تفتر الحرارة وتسكن النفس ويزول الاضطراب والقلق - أو تنتفي دواعيهما بفتور الرغبة - وقد يكون البحر الجائش العباب رائعاً ولكن ركوبه لا يحلو، واعتسافه لا يؤمن، والنفس مثله. وقد يسمو بها اضطرام الحب فيها إلى الجلال، ولكن الإحاطة بما تضطرب به والغوص عليه لا يتسنيان إلا بعد الهدوء؛ وقد يلهم المرء شيئاً وهو هائج، ولكن النظرة المباركة هي التي تدور بها العين في أنحاء النفس بعد أن تعود إليها سكينتها وصفوها ويتيسر الوصول إلى أغوارها والنفاذ إلى زواياها والتغلغل في سراديبها.

ومن الأسباب المزهدة أني رجل عادل منصف، أو دع الإنصاف وقل إن الله خلق لي في وجهي عينين، فما خيرهما إذا أنا لم أنظر بهما؟؟ والمرأة مستبدة، ومن استبدادها أنها تغضب وتثور وتسود عيشك إذا نظرت إلى سواها. وعبث أن تحاول أن تفهمها أن الإغضاء عن كل هذا الجمال الذي في الناس، قلة عقل، وقصر نظر - بل عمى -؛ وماذا تصنع العينان إذا لم تبصرا؟ وأي عمل آخر لهما هناك؟ وكون المرأة التي يبتلى الإنسان بحبها جميلة ليس معناه أن النساء غيرها دميمات؛ وحبك إياها لا ينبغي أن يتقاضاك مقت النساء الأخريات وتنقصهن؛ والإعجاب بهن لا يعد ثلباً لحبيبتك، وفي وسعها هي أيضا - إذا شاءت وكان هذا مما تستطيع - أن تعجب مثلك بهن. والرجل الذي يفقده الحب القدرة على الإعجاب بالجمال في صوره المختلفة يكون فاسد الذوق، ولو عقلت المرأة لكان هذا كافيا لتشكيكها في رأيه فيها.

ويزهدني في الحب أيضا أن مناظر العشاق مضحكة، وأحوالهم سخيفة، ومبالغاتهم شديدة، ودعواهم عريضة، وعمى قلوبهم وأبصارهم تام عن كل ما يحيط بهم. وأي عاشق لم يقطع ألف وعد بالوفاء المستحيل؟ بل أي محب لم ينس طربوشه مرة، أو لم يلبس طربوشين واحداً فوق الآخر (ومع ذلك تراه لذهوله يدور باحثا عن طربوشه لظنه أن رأسه عار!) أو لم يبد للناس في الطريق أو الترام ملتاث العقل مخبولاً، يضحك ويقطب بلا سبب ظاهر، ويشير بأصابعه أو يلوح بيده، أو يكلم نفسه؟ والأرق؟ لا أدري لماذا لا ينام العشاق ملء جفونهم كما ينام عباد الله الآخرون؟ ولكن الذي أدريه أن النوم المريح قلما يؤاتيهم أو يسعفهم بسكينته، وتالله إن العاشق لمسكين! لا نوم الليلة يا صاحبي لأنك حين ذهبت إلى بيت حبيبتك رأيتها مطلة من النافذة وناظرة إلى جهة غير التي تعرف أنك آت منها! فهل كانت يا ترى تنتظر سواك؟ وعليك أن تذرع أرض الغرفة مائة ألف مرة هذه الليلة وتقطع خمسمائة فرسخ - جيئة وذهوبا - لأنك وأنت معها جعلت ذراعك حولها وهممت بضمها وتقبيلها فجنحت إلى الدلال ونفرت من العناق، وكانت تبتسم، ولكنها قالت (من فضلك!) من فضلك؟، وهل بيننا (من فضلك!). هذا كلام يقال للأغراب، وتكلف في التعبير لا يكون بين المحبين! ويظل طول الليل يدب على رؤوس النيام تحته. وفي ليلة يسير على وجهه في الشوارع كالمتشردين، ويحدث نفسه بالانتحار، ويجتاز جسر إسماعيل، وعينه إلى الماء الذي يتدافع بين قواعده، وقد يسأم التدخين فيلقي بعلبة السجاير في الماء ويغرقها فيه بدلا منه وفداء له، وبعد خمس دقائق يشتري غيرها. ولا يزال يتمشى حتى يرتاب في أمره الشرطة، ويرى منهم ما يرد إليه بعض ما عزت من عقله، فيرجع إلى البيت مضعضعاً مهدوداً. . . إلى آخره، إلى آخره.

ثم إن الحب إذعان، ومن أحب امرأة فقد أسلم أمره - إلى حد ما - لأهواء لا ضابط لها، ولا كابح، ولا تمييز فيها بين الممكن والمتعذر، أو اللائق وغير اللائق؛ وقد يطير الحب عقل الرجل - بل هو يفعل ذلك على التحقيق - ولكنه لا يستطيع أن يغير أسلوب تفكيره ولا أن يجعله كأسلوب المرأة في تفكيرها. وعسير أن يظل الحب قادراً على إخفاء الفوارق بين أسلوبي الرجل والمرأة في التفكير. وهب وقدته تبقى زمناً طويلاً - وهو ما أشك فيه ولا أومن به - فان توالي اصطدام العقليتين خليق أن ينبه إلى هذه الفوارق وأن يزعج الرجل ويحيره، وقد يفضي به إلى السآمة.

والمرأة التي ترى نفسها محبوبة تتوهم أن الرجل أباحها ظهره فهي تركبه وتركضه كيف شاءت وإلى حيث ينزو برأسها أن تذهب، ولا تبالي ما يصيبه من الإرهاق والجهد والإعياء والملل، ولا يخطر لها أن كده على هذا النحو ولجاجتها في ذلك خليقان أن يخمدا وقدت الحب.

والدلال، ماذا نقول فيه؟ إنه مصيبة كبيرة وبلاء عظيم، ولكن المرأة تحسبه وقود الحب، فلا سبيل إلى شيء إلا بعذاب غليظ من هذا الدلال الثقيل، إذ كانت المرأة تسيء الظن بقيمة الاستجابة السريعة، ولا تؤمن إلا بقول القائل - قاتله الله كائناً من كان، فقد نسيت من هو -: (وَحَبُّ شيء إلى الإنسان ما منعا).

قلت مرة لامرأة وقعت بينها وبين حبيبها نبوة من جراء دلالها وإبائها عليه قبلة اشتهاها: (يا ستي أنت تحبينه، وهو يحبك - أليس كذلك؟).

فألقت إلي نظرة خبيثة، فهززت رأسي وقلت: (نعم أو لا؟ أيهما؟ قولي بلسانك)

فقالت: (لكأني في مدرسة!)

قلت: (ومن الذي غشك وأوهمك أنك استغنيت عنها؟؟ إنك لم تشبي عن الطوق إلى الآن، ومازلت إلى هذه الساعة بنتاً صغيرة جاهلة، أجدر بك أن تخرجي إلى الشارع، فتلعبي فيه بالحبل. . .).

فلم يسؤها مني هذا الطعن لأنها كانت تعرف عطفي عليها، وحبي لخيرها، فأعدت عليها السؤال، فقالت: (نعم) فقلت: (أشهد ألا إله إلا الله! وقد اشتهى منك قبلة، فهل كنت تأنسين من نفسك استعداد للإجابة ورغبة فيها؟) فضحكت وقالت: (هذا أشبه بالتحقيق. . . شيء جميل والله!)

قلت: (هو تحقيق. . . فأجيبي)

فصاحت: (ولماذا لم يقبلني؟ ماذا منعه؟)

فصحت بدوري: (إيه؟ ماذا تقولين؟)

قالت: (أقول إن روحي كانت على شفتي. . . وكنت أتلهف على قبلته، ولكنه لم يفعل وذهب يتكلم. . . سخيف!)

قلت: (ليس هو وحده السخيف)

فرفعت وجهها إلي، وزوت ما بين عينيها، فقلت: (أنا أيضا مثله. . . فقد كنت أحسبه مؤدباً، وأعده مهذباً، فإذا به مغفل!).

فضحكت. . . وهكذا المرأة أبداً. . . ومن هذا الذي يجرؤ أن يزعم أنه يعرفها معرفتها؟ يفعل الرجل الشيء يطلب به رضاها، فإذا هي ساخطة ضجرة؛ ويتقي الشيء يخشى أن يغضبها بفعله، فإذا هي تلومه وتؤنبه وتعد ذلك من ذنوبه؛ وتختصر الطريق وتمشي إلى غايتك مباشرة، فتراها تؤثر اللف والمحاورة، فتروح تدور فتجدها قد تغير مزاجها، واختلفت رغبتها وانقلبت تؤمن بأن الخط المستقيم أقرب ما بين نقطتين؛ وتهدي إليها تحفة تتعب في انتقائها، وتغرم في سبيلها نصف دخلك، فتقول: (هل استشرتني قبل أن تشتريها؟)؛ وتستشيرها في مرة أخرى فتقول: (لو فاجأتني بالهدية لكان ذلك أحلى وأوقع) فأنت معها أبدا على كف عفريت سكران.

وعقول الرجل في رؤوسهم، أما عقل المرأة فقد يكون في حذائها - ولكنه على التحقيق - ليس في رأسها. وضائع، ضائع، من يجادلها بمنطق الرجال، أو يكلمها كلام العقل، فما عرفت ذلك يجدي معها. ولو أن رجلاً أثنى على عقل امرأة بكتاب في ثلاثين جزءا لما بلغ من نفسها ما هو خليق أن يبلغ بكلمة ثناء مفردة على جمالها - ولو كذباً - أو نظرة إعجاب واحدة إلى حذائها وإن كان أضخم من الباخرة نورماندي، أو مسحة بكفة - في حنو، ولو متكلفا - على شعرها وإن كان كضوء القمر.

ولست أذم المرأة، وكيف أجرؤ، وهي زينة الحياة وسر سحرها؟ ولكني أقول إنها مخلوق آخر، غير الرجل، وهو قول ليس فيه جديد، ولا شك أن الرجل يبدو للمرأة - كما تبدو هي له - مستغرب الأطوار شاذاً في أسلوب تفكيره، وطريقة تناوله للأمور.

إبراهيم عبد القادر المازني